الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "النهي عن البخل والشح" مما ورد عن السلف ومن بعدهم:
ما جاء عن خالد بن معدان -رحمه الله- قال: "العين مال والنفس مال..."[1].
"العين مال" يعني مثل الذهب يعتبر عينًا، والفضة عين، "العين مال، والنفس مال، وخير مال العبد ما انتفع به وابتذله"، ابتذله يعني أنفقه وصرفه، "وشر أموالك ما لا تراه ولا يراك"، كحساب في البنك لا تراه ولا يراك، وحسابه عليك ونفعه لغيرك، وهذا الكلام صحيح، كم من إنسان عنده أموال طائلة لا يراها ولا تراه، وحسابها عليه ونفعها لغيره، فهو يركن إلى هذه الأموال مطمئن إلى زيادة هذه الأرصدة يوماً بعد يوم، ولكن ما هي النتيجة؟ ماذا استفاد منها؟ كم من إنسان يملك أراضي وعقارات حتى إذا قيل له: يبيع من أجل على الأقل أن ينتفع الناس، ويتداول من يد إلى يد قال: لا، هذه لا تأكل ولا تشرب، أَبقِها، ومات وهي لا تأكل ولا تشرب، ثم صارت إلى وارث، كما تشاهد أحياناً في بعض الأحياء التي صارت قديمة أراضيَ ما بنيت منذ أربعين سنة، أليس كذلك؟ هذه لماذا؟ لأن صاحبها كان يقول: هذه لا تأكل ولا تشرب حتى تجاوز الناس هذا الحي وصار من الأحياء التي يزهدون فيها ولم يبقَ فيها إلا من لا يستطيع السكنى في غيرها، وهو يقول: هذه لا تأكل ولا تشرب حتى مات.
ويقول هشام بن حسان -رحمه الله: سمعت الحسن البصري -رحمة الله عليه- يحلف بالله: "ما أعز أحد الدراهم إلا أذله الله"[2].
أعزها يعني أنها لامست قلبه وصارت عنده بمنزلة، فإذا كان الإنسان بهذه المثابة فمعنى ذلك أنه سيكون عبداً لها، ولهذا قال النبي ﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة[3]، كيف يكون الإنسان عبداً للمال والدينار والدرهم؟ إذا كان خادماً لهذا المال حارساً عليه، قد سُخر لجمعه وإحرازه وصيانته وتكثيره دون أن ينتفع به ويتصدق ويبذل ويؤدي الحقوق ويحسن إلى قرابته وما إلى ذلك، فالمال تستخدمه، يكون خادماً لك، تنتفع به، لكنّ كثيراً من الناس لا ينتفع به وإنما هو حارس، وقلبه يهفو مع هذا المال، قلبه مستعبَد، ينظر دائماً إلى مؤشر الأسهم، ينظر إلى أسعار العقارات التي تنزل، أسعار العملات التي تنزل، دائماً وقلبه يرفرف، وأنا أظن أن كثيراً مما يصيب الناس وما قد يصيبهم في المستقبل من أسباب الانهيار الاقتصادي في الغرب أن عامة ذلك من الهلع، يعني قبل أن يصلهم شيء، يعني الآن لو جئت إلى كثير من الناس، إلى التجار أو إلى غيرهم، قل له: هل وقع لك خسارة أو جاءك نقص في الربح فقط؟ فرق بين النقص في الربح وبين النقص في المال الذي عند الإنسان، يقول: لا، ما لامسه إلى الآن شيء، ومع ذلك تجد أن الكثيرين قلوبهم تتزلزل، ويفكر، ولربما لا ينام، ما الذي سيحصل له؟ كيف ستكون أمواله لو حصل نقص في العملة، نزول في العملات؟، هذه الملايين قد تكون مثل بعض البلاد -نسأل الله العافية، تحمل معك ملايين وتذهب إلى المطعم من أجل أن تشتري طعاماً، معك عملات تحمل أرقامًا فلكية من أجل أن تشتري بها أو تتسوق، فالمليون لا يساوي عندهم شيئًا، فالإنسان حينما يستعبد قلبه للمال يكون ذليلاً لهذا المال -نسأل الله العافية، والصحيح هو العكس.
يقول الحسن البصري: "بئس الرفيقان الدينار والدرهم لا ينفعانك حتى يفارقاك"[4]، وهذا صحيح، الآن لو قيل لواحد: تفضل هذه مليون دينار ذهب أحمر لكن ضعها في هذه الصرة أو بهذا الصندوق أو في صندوق في البنك لا تتحرك، هو يستفيد منها شيئًا؟، هو فقط يركن إليها ويطمئن أن عنده شيئًا، وكثيرًا ترى من الناس مَن هذه حالهم، هو يملك مليارات لكن الواقع كم مصروفه؟، بعض هؤلاء الذين يملكون المليارات يحج على الرصيف، أنا أتحدث عن واقع، يحج على الرصيف، ويركب ليس فقط في الحافلات العامة، بل فوق ظهرها من أجل أنه أرخص؛ لأن ركوب ظهر الحافلة بخمسة وفي وسطها بعشرة، هذا موجود، وأتحدث عن أمر واقع حدثني به بنفسه، على الرصيف وفوق ظهر الحافلة، ما فائدة المال إذاً؟! ما فائدة المال؟! يفرش قرطاسة -حتى ما هي بفرشة- على الرصيف عند مسجد الخيف، موقع جيد قريب من الجمرة، هذه حالة، ما فائدة المال؟ لا فائدة، ناس أقل، ناس رواتبهم على أربعة آلاف ريال يروحون مع حملات على سبعة آلاف وثمانية آلاف وتسعة آلاف ومرتاحون، فهذه حقيقة المال لمن كان يجهلها، إذا كان الإنسان مستعبَداً لهذا المال، فالدينار والدرهم لا ينفعانك حتى يفارقاك، إذا فارقك جاءك بدلاً منه طعام، ثياب، أثاث، شيء، لابد أن يفارقك، ولهذا يقولون: قيل للذهب: ذهب؛ لأنه يذهب، وقيل للفضة: فضة؛ لأنها تنفض، وقيل للمال: مال؛ لأنه يميل بصاحبه غالباً، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6-7]، وقد لا يكون هذا الكلام -أقصد أن المال قيل له ذلك، والفضة قيل لها ذلك- صحيحاً، لكن هكذا يقول بعضهم.
وجاء عن طاوس بن كيسان أنه قال: "البخل أن يبخل الرجل بما في يديه، والشح أن يحب أن يكون له ما في أيدي الناس"[5]، وقد ذكرت هذا بالأمس في الفروقات، وهذا قول لبعض أهل العلم، فرْق بين البخل والشح.
وعن جعفر الصادق -رحمه الله- أنه "ذُكر له بخل المنصور -الخليفة العباسي- فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما بذل لأجله دينه"[6]، أي ممسك لدنياه محروم، وقد بذل من أجلها دينه، وهذا من أسوأ الأشياء؛ لأن الإنسان يتوصل للمال إما بأن يكتسب بالطرق المعروفة المباحة، بيع وشراء وتجارة، فإذا غلب ذلك عليه بحيث لا يكون له التفات إلى طاعة الله فهذا مذموم، إذا أشغله عن ذكر الله وطاعته، وإلا فكل إنسان يكتسب ويبيع ويشتري، الأنبياء الله ذكر أنهم يمشون في الأسواق، أو أنه يكتسب بالبيع والشراء أو غير ذلك بالطرق المحرمة، بالربا، بالاختلاس، بالغش بكذا، وهذا مذموم، أو أن يكون الإنسان يتوصل إلى المال بالدِّين، وهذا هو الأسوأ، كيف يتوصل الإنسان إلى المال بالدين؟ يمكن أن يكون الإنسان له لحية وهذه اللحية يتوصل بها إلى أخذ ما بأيدي الناس إما عن طريق معاملات وهمية وهو في الواقع يبتز ما عندهم من أموال، وويله ثم ويله حينما يستخدم الدين مطية للوصول إلى الدنيا، أو كان ذلك بالملق وإظهار الزهد والتنسك وما إلى ذلك ليحصل على هبات وعطايا، فأسوأ ما يكون أن يكون الدين مبذولاً لتحصيل شيء من عرض الدنيا.
وجاء عن الربيع بن خثيم -رحمه الله: أن المنصور فتح يوماً خزائنه، الخليفة العباسي فتح يوماً خزائنه مما قبض من خزائن مروان الحمار، ومروان الحمار هو آخر خلفاء بني أمية، وقيل له: الحمار، لقب بهذا؛ لأنه كان يعمل بجَلَد، يعمل يحاول أن يتدارك سقوط دولة بني أمية، فكان يعمل عملاً جلداً يجتهد بكل مستطاع ويضاعف الجهد، فلقب بالحمار؛ لكثرة صبره وعمله وجهده الذي يبذله، طبعاً هذا مفهوم سقيم لا زال في بيئاتنا العربية الذي يشتغل يقال له: حمار شغل، الذي يشتغل وله جلد يقال: حمار، وهذا غلط، المفروض من الناس الحث على العمل والإنتاج، أما الكسل والخمول والتضييع بحيث يُختصر عمل هذا الموظف الذي يشتغل من الثامنة إلى الثانية في ساعتين أو في ثلاث ساعات فهذا خطأ.
المهم: فأحصى من ذلك، يعني المنصور لما نظر ما وُجد في خزائنه أحصى اثني عشر ألف عِدل خَزٍّ، يعني من الحرير، فأخرج منها ثوباً وقال لأحد من معه: فصِّل منه جبة ولمحمد جبة وقلنسوة[7]، وبخل بإخراج ثوب للمهدي، ما أعطاه، وهو ابنه، فلما ولي المهدي أمر بذلك كله ففرق على الموالي والخدم، وذلك بخل بثوب من هذه الكمية الهائلة.
وأيضاً يقول بشر بن الحارث الحافي وهو الزاهد المعروف، قيل له الحافي: لأنه مر رجل فسمع في بيت طرباً، معازف، فطرق الباب فخرجت الجارية فقال: هذا بيت عبد أو حر؟ فقالت: هذا حر، قال: نعم هو كذلك، ثم انصرف، فسمع الكلام فخرج قال: ماذا يقول؟ قالت: يقول: بيت عبد أو حر؟، فخرج وتبعه قال: ماذا تقول؟ قال: أقول: بيت عبد أو حر؟ فقالت: بيت حر، نعم هو بيت حر، هذه المعازف تتعالى فلا يتقيد بعبودية الله ، فخاف بشر وتاب وقال: بل أنا عبد لله ، فالشاهد أن بشر بن الحارث الحافي يقول: "شاطرٌ سخيٌّ أحب إلى الله من صوفي بخيل"[8]، الصوفي يعبرون به آنذاك عن الزاهد، شاطر سخي، طبعاً هذا الكلام ليس من كلام النبوة، شاطر سخي، ما معنى الشاطر؟ نحن الآن نقول: فلان شاطر، وهذا غلط، والشاطر هو الذي أعيا أهله بخبثه، وتجدون في ترجمة النظّام المعتزلي شيخ المعتزلة يقول: وكان شاطراً من الشطار ينام على فسق ويغدو على جرائرها، يعني ينام على سُكر، ويغدو على جرائرها، شاطر -نسأل الله العافية، فالشاطر هو الإنسان المتمرس بالفساد والفجور، يقول: "شاطرٌ سخيٌّ أحب إلى الله من صوفي بخيل".
وكان يقول الأمير عبد الله بن طاهر: "سُمْن الكيس ونُبل الذكْر لا يجتمعان"[9]، سمن الكيس، مِن أول يجمعون المال بكيس، الذهب، والآن يمكن أن تقول: سُمْن الرصيد ونبل الذكر لا يجتمعان، معنى لا يجتمعان يعني الإنسان متى يحصل له نبل الذكر والصيت والقبول والذكر الحسن؟
إذا كان ينفق على الناس.
ويقول جابر بن عبد الله : أتيت أبا بكر أسأله فمنعني في أيام خلافته، ثم أتيته أسأله فمنعني، فقلت: إما أن تُبخَّل وإما أن تعطيني، يعني إما أن تُرمى بالبخل وتوصف بالبخل أو تعطيني، فقال: أتُبخِّلني وأي داء أدوأ من البخل؟، ما أتيتني من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك ألفاً، قال: فأعطاني ألفاً، وألفاً، وألفاً[10].
و كما قيل:
وللبخيلِ على أموالِه عللٌ | زرقُ العيونِ عليها أوجهٌ سودُ |
بمعنى أنه إذا جاءه من يقول له: تبرع في مشروع، في عمل خيري، في كذا، عنده ألف عذر.
يقول لك: المال ما هو بحاضر، المال موضوع في مشاريع وأعمال، ما عندنا الآن سيولة، ما عندنا شيء، والله المستعان.
نسأل الله أن يقينا وإياكم الشح والبخل، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9]، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: حلية الأولياء (5/ 211)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (8/ 172)، وسير أعلام النبلاء (4/ 540).
- انظر: تهذيب الكمال (6/ 119)، وسير أعلام النبلاء (4/ 576)، وطبقات الأولياء (ص: 208).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، برقم (2886).
- تهذيب الكمال (6/ 121).
- حلية الأولياء (4/ 6)، وتهذيب الكمال (13/ 364).
- سير أعلام النبلاء (6/ 369).
- المصدر السابق (7/ 79).
- المصدر السابق (8/ 489).
- المصدر السابق (9/ 73).
- المصدر السابق (16/ 97).