إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: في هذه الليلة نتحدَّث عن معانٍ وهدايات تتصل بحديثٍ جديدٍ من أحاديث هذا الكتاب "حصن المسلم"، وذلك ما جاء عن عقبة بن عامر قال: خرج رسولُ الله ﷺ ونحن في الصّفة، فقال: أيُّكم يُحبُّ أن يغدو كلَّ يومٍ إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثمٍ ولا قطيعة رحمٍ؟ فقلنا: يا رسول الله، نُحبُّ ذلك. قال: أفلا يغدو أحدُكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ، ومن أعدادهنَّ من الإبل[1].
فقوله : خرج رسولُ الله ﷺ ونحن في الصّفة. والصّفة أهلها هم فُقراء المهاجرين، كانوا يأوون إلى موضعٍ في آخر مسجد النبي ﷺ مُظلل، وهم أضياف الإسلام، هؤلاء يأوون إلى هذه الصّفة، فهي موطنهم، ومبيتهم، ليس لهم دارٌ ولا أهلٌ، وإنما هاجروا وتركوا كلَّ شيءٍ وراءهم، وهم عددٌ كثيرٌ، تتفاوت أعدادُهم من حينٍ لآخر، وقد عدَّهم أبو نُعيم في "الحلية" أكثر من مئة.
وهؤلاء الأضياف الذين يأوون إلى مسجد رسول الله ﷺ أو إلى هذه الصّفة كلّهم من الفُقراء غير المتأهّلين في المدينة.
ذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- أنهم يكثرون تارةً، ويقلُّون تارةً، يكثرون حتى يبلغوا المئتين، ويقلُّون في بعض الأحيان[2]؛ لأنَّهم ينفرون في الغزوات والسَّرايا في الجهاد، وتعليم القرآن؛ لأنَّ هؤلاء منهم قُرَّاء، فكان النبيُّ ﷺ يبعثهم إلى بعض القبائل الذين يدخلون في الإسلام من أجل إقرائهم.
فالنبي ﷺ هنا يُخاطبهم، هؤلاء الفُقراء الذين ليس لهم من الدُّنيا حظٌّ ولا نصيبٌ، كان الواحدُ منهم لربما يُهاجر وليس له إلا إزارٌ، ليس عليه رداءٌ، ما عنده شيءٌ: لا دابَّة، ولا لباس، ولا أثاث، ولا غرفة، وإنما هؤلاء يجلسون في هذا المكان المسقوف، المظلل، العريش في آخر المسجد، تركوا الدُّنيا برمَّتها.
هؤلاء قد تتحدث نفوسُ بعضهم -وذلك لبشريَّتها- تتحدَّث عن أمورٍ من تحصيل مطالب هذه الحياة الدُّنيا؛ من أجل قضاء الحاجات وأعمال البرِّ؛ لأنَّهم شكوا إلى رسول الله ﷺ أنَّ إخوانهم الأغنياء: ذهب أهلُ الدُّثور بالأجور[3]. باعتبار أنَّهم يُزاولون الأعمالَ البدنية كما يُزاولها هؤلاء: من صلاةٍ، وصيامٍ، ونحو ذلك، ولهم فضول أموالٍ يتصدَّقون، وهؤلاء لا يجدون ما يتصدَّقون به.
فالحاصل أنَّ النبي ﷺ أرشدهم هناك إلى الذكر، وسيأتي الكلامُ على ذلك، وهنا يُخاطبهم يقول لهم: أيُّكم يُحبُّ أن يغدو كلَّ يومٍ إلى بطحان، أو إلى العقيق؟ هؤلاء الفُقراء لا تتطلع هممُهم ونفوسهم إلى تحصيل هذه النُّوق الموصوفة بهذه الأوصاف الكاملة، وإنما لربما يتمنَّى الواحدُ منهم مركبًا يبلغه مقاصده حينما ينفر إلى جهاد الكفَّار، فالنبي ﷺ يسألهم، يُخاطبهم: أيُّكم يُحبُّ أن يغدو يعني: يخرج في أول النَّهار، يذهب في أول النَّهار.
إلى بطحان بطحان: اسم وادٍ في المدينة، موضعٌ معروفٌ في المدينة، واسعٌ، مُنبسطٌ.
أو إلى العقيق ذكر أهلُ العلم أنَّ المرادَ بالعقيق هنا العقيق الأصغر، وهو على ثلاثة أميال، أو على ميلين من المدينة، هذان الموضعان هما سوقا الإبل لأهل المدينة.
يقول: أيُّكم يُحبُّ أن يخرج إلى أحد هذين الموضعين من أسواق الإبل؟ يخرج في أول النَّهار، في الصَّباح، في البكور قبل اشتداد الحرِّ والشَّمس.
فهنا "أو" هذه إمَّا للتَّنويع، أو أنها شكٌّ من الراوي؛ يعني: أنَّ النبي ﷺ قال: "بطحان"، أو قال: "العقيق"، ويحتمل أنَّه قال ذلك على سبيل التَّنويع؛ يعني: يخرج إلى هذا، أو هذا. فهنا إذا خرج يرجع بماذا؟
فيأتي منه بناقتين كوماوين، ما قال: ببعيرين؛ لأنَّ النَّاقةَ أنفس؛ لأنها تُحْلَب؛ ولأنها أيضًا تلدُ، فيمكن أن يكون ذلك سببًا للمزيد من تحصيل هذه الثَّروات التي هي أنفس الأموال عند العرب؛ ولذلك تجدون هذه العبارة تتكرر: خيرٌ لك من حمر النَّعَم[4]: الإبل؛ يعني: فهي أنفس أموال العرب، هي الثروة، فمَن كان يملك الإبل فهو الثَّريّ الغنيّ.
وهنا يُخاطب هؤلاء الفُقراء الذين لا يجد الواحدُ منهم شاةً، أو عناقًا، فضلاً عن أن يجد ناقةً، وبهذه الصِّفة هذه لا يجترئ أحدٌ أن يسومها إلا أن يكون من أهل الجدة والغنى؛ ولذلك الشَّيء بالشيء يُذكر، ذاك الذي يصف كيف صار العلمُ مُبتذلاً لما اجترأ عليه مَن ليس بمتأهِّلٍ فيقول:
تصدر للتَّدريس كل مهوس | بليدٍ يُسمَّى بالفقيه المدرس |
وحقٌّ لأهل الفضل أن يتمثَّلوا | ببيتِ قريضٍ قيل في كل مجلس |
وقد هَزُلَتْ -هذا الشَّاهد- حتى بدا من هُزالها -يصف النَّاقةَ- كلاها.
ضمرت خاصرتها فبدت الكُلَى من الجانبين؛ لضعفها وهُزالها.
حتى بدا من هُزالها | كلاها وحتى سامها كلُّ مُفلسِ[5] |
يعني: في السَّابق حينما كانت كوماء ما كان يجترئ عليها أحدٌ، فلمَّا صارت بمنزلةٍ من الهزال والضَّعف صار كلُّ مفلسٍ يجترئ عليها، يقول له: بكم هذه النَّاقة لو سمحت؟ وقبل ذلك ما كانوا يجترؤون أن يقتربوا منها؛ فضلاً عن أن يسوموها؛ فضلاً عن أن يشتروها.
فالشَّاهد هنا هذه النَّاقة بهذا الوصف: بناقتين كوماوين تثنية "كوماء"، والنَّاقة الكوماء هي النَّاقة العظيمة السّنام، سنامها كأنَّه جبلٌ، ضخمة، وهذا من أفضل الأوصاف في الإبل، وهي خيار أموال العرب.
وحينما يرجع بهاتين النَّاقتين يرجع بهما من غير تبعةٍ؛ يعني: الإنسان قد يرجع بشيءٍ من المال له قدرٌ، ولكن لا يسلم من التَّبعة: مسروق، سلب، غارات على القبائل، يأخذون الإبل اللّقاح كما كانت العربُ تفعل.
في غير إثمٍ ولا قطيعة رحمٍ ما أخذ أموالَ أيتامٍ، ما أخذ أموالَ النِّساء في الميراث، أو غير ذلك، ما أخذها بمشاحنةٍ مع قرابته، ما أخذها بمشكلات ومشاجرات وغصبٍ، ووضع اليد عليها بغير حقٍّ، لا، لا، لا تبعةَ فيها، بغير إثمٍ، ولا قطيعة رحمٍ، سالمة، لا يلحقه فيها معرَّة: لا عند الله، ولا عند الناس، الكل يتمنَّى هذا، فماذا قال هؤلاء الصَّحابة من أهل الصُّفة لما سمعوا ذلك؟
أخبروه قالوا: نُحبُّ ذلك، الجميع يُحبُّ هذا، فماذا قال لهم النبيُّ ﷺ؟
أفلا يغدو أحدُكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين.
فيعلم هنا يدخل فيه أنَّه تعلَّمها؛ بمعنى: قرأها، ويدخل فيه حفظها، ويدخل فيه تعلم معانيها، وما تضمّنته من الهدايات، التَّفسير؛ لأنَّه قال: فيعلم، فكل ذلك داخلٌ فيه، فهذا الذي لا يعرف الآيةَ أصلاً، فإذا جاء إلى مُقرئٍ فأقرأه إياها؛ يكون قد علمها، هذا الذي قد حفظها يكون قد علمها، هذا الذي عرف معانيها يكون قد علمها، وهذه مراتب، فكيف بمَن حصَّل هذه المراتب جميعًا؟
فالنبي ﷺ قال: أفلا يغدو أحدُكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين، وثلاثٌ يعني: ثلاث آياتٍ خيرٌ له من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ، ومن أعدادهنَّ من الإبل.
يعني: أنَّ الآيتين أفضل من ناقتين، والثَّلاث أفضل من ثلاثٍ، والأربع أفضل من أربعٍ، والخمس أفضل من خمسٍ، وهكذا العشر أفضل من عشرٍ، والمئة أفضل من مئةٍ من النُّوق الموصوفة بهذه الصِّفة، إذا كان الأمرُ كذلك، فإذا أخذ مئة آيةٍ، فهذه مئة ناقةٍ، النَّاقة التي تكون بهذه الصِّفة: كوماء، ضخمة، إذا كانت للقُنية نقول: للقنية؛ لأنَّه للأسف معلومٌ أنَّ النوقَ تُتَّخذ للقُنية منذ دهرٍ طويلٍ، ولكن ابتُلي الناسُ اليوم بمُزاولات؛ يتزاينون بالإبل، فهذه بالملايين على قدر عقولهم، لكننا نحن نتحدث عمَّا كان للقُنية؛ يعني: يقتنيها من أجل الانتفاع بها، من أجل الاستيلاد، من أجل الحليب.
فالنَّاقة التي بهذه الصِّفة عند أرباب الإبل اليوم عند أهل الخبرة تتراوح قيمتُها ما بين ثلاثين ألفًا إلى أربعين ألفًا، فإذا أخذنا المتوسط خمسةً وثلاثين ألفًا لهذه الناقة، وآيات القرآن ستة آلاف ومئتان وكسر، فلو أبقينا على الستة آلاف والمئتين، وضربناها بخمسة وثلاثين ألفًا؛ يطلع عندنا مئتان وسبعة عشر مليونًا، يذهب للمسجد في حلقةٍ يتعلم، هذا هو الكنز الحقيقي، هذه هي الثروة الحقيقية، هذا هو الذّخر، هذه هي التِّجارة الرابحة.
والناس أزهد ما يكونون بهذا إلا مَن رحم الله -تبارك وتعالى-، وكثيرٌ من الشَّبيبة لربما لا يذهب إلى هذه الحِلَق إلا تكرُّهًا؛ لأنَّه لربما يُواجه ما يُواجه من قِبَل أهله؛ فيضطر إلى الذَّهاب وهو مُستثقلٌ، إلا مَن رحم الله ، ومَن يذهب وهو مُستبشرٌ هل يستشعر هذا المعنى؟
هي أفضل من هذا، مئتان وسبعة عشر مليونًا، هي أفضل من هذا بكثيرٍ، لا مُقارنة؛ لكن النبيَّ ﷺ يُقرِّب لهم المعنى، يقول لهم: هذا أفضل لكم من هذا، يُخاطب فُقراء مُدقعين، الواحد عليه إزارٌ، ما عليه رداءٌ، ما عندهم شيءٌ، لا يجترئ أحدٌ منهم أن يسوم هذه الناقة، فهذا أفضل من هذا.
الذين يشتكون من قلّة ذات اليد، الذين يشعرون أحيانًا بالحرمان، الذين يُفكِّرون صباح مساء، ويضربون أخماسًا بأسداسٍ، كيف يحصلون ثروةً؟ كيف يستطيع أن يقتني أموالاً وملايين؟ الذين يُفكِّرون كثيرًا كيف يستطيع أن يبني فلّةً، ونحو ذلك، وأن يشتري سيارةً بمواصفاتٍ معينةٍ؟
الآية أفضل من ناقةٍ بهذه المثابة، والآيتان أفضل من ناقتين، وستّ آلاف آية أفضل من ستِّ آلاف ناقة من هذا القبيل؛ يعني: ما يزيد على مئتين وسبعة عشر مليونًا، تعلم القرآن كاملاً، دخل في حلقةٍ.
قد عرفنا قدر هذا التَّعلم، وقدر هذه الحِلَق، وقدر هذه المجالس للذكر التي نتعلم فيها القرآن، فكم فرطنا؟ وكم ضيَّعنا؟ وكم غفلنا؟ ولكننا نغبط أهلَ الدنيا على ما حصلوا: فلان باع أرضًا فحصل كذا، وربح كذا، فلان باع صفقةً، ربح من الأسهم كذا. يتغابط الناسُ على هذا العرض الزائل، ولكن هذه مئتان وسبعة عشر مليونًا.
هذا الولد الذي حفظ القرآنَ كم حصَّل من المجد والثروة والفخر الحقيقي، والنِّعمة السَّابغة في الدنيا والآخرة؛ إن كانت له فيه نيَّة.
فهذا خبرُ مَن لا ينطق عن الهوى ﷺ، والأمر أعظم من ذلك، ولكنَّه ﷺ أراد التَّقريب، وقال: خيرٌ له أفضل له، وهو يُخاطبهم بأغلى شيءٍ يعرفونه، ما هو أغلى شيءٍ عند العرب يمكن أن يُخاطبوا به؟ هي هذه الإبل التي هي بهذه الصِّفة؛ ولذلك دية الإنسان إنما تُقدر بالإبل؛ بل إنَّ مهورَ النِّساء أحيانًا في بعض النَّواحي تُقدر بالإبل، ويقصدون أحيانًا القيمة، يقصدون المال، فيقول: أزوّجك على أربعين من الإبل. ويقصد قيمةَ أربعين من الإبل.
فأسأل الله أن يجعل القرآنَ ربيع قلوبنا، ونورَ صدورنا، وذهابَ أحزاننا، وجلاءَ همومنا، اللَّهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوتَه آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، برقم (803).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للهروي (4/ 1453).
- أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب بيان أنَّ اسم الصدقة يقع على كل نوعٍ من المعروف، برقم (1006).
- أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسّير، باب دعاء النبي ﷺ الناس إلى الإسلام والنّبوة، وألا يتّخذ بعضُهم بعضًا أربابًا من دون الله، برقم (2942).
- انظر: "الكشكول" للهمذاني (2/ 234).