الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر" أورد المصنف -رحمه الله:
قول عائشة -ا: "كان رسول الله ﷺ كلما كان ليلتها من رسول الله ﷺ يخرج من آخر الليل إلى البقيع"، "كلما" هذه تدل على التكرار، وهذا يؤخذ منه أن المرأة ليس لها أن تحجر على الرجل في ليلتها فلا يخرج لشيء من شئونه وحاجاته، وإنما يلزمه من جهة العدل أن يقسم بين نسائه في المبيت، والنهار يتفرق الناس في حاجاتهم ومصالحهم وأعمالهم.
والليل يبدأ من بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وحينما يخرج الإنسان لحاجة أو يُدعى أو نحو ذلك فإن هذا ليس من الهضم والظلم لهذه المرأة، لكن ليس له أن يذهب لامرأته الأخرى في ليلة هذه إلا لعارض، كأن تكون قد مرضت، أو مرض أحد الأولاد، أو نحو هذا، أمّا أن يذهب ليجلس عندها أو يبيت عندها، أو من أجل أن يعاشرها أو نحو ذلك فهذا لا يجوز، وليس ذلك من العدل، وفي النهار يتفرق الناس في حاجاتهم، فله أن يزور بيته الآخر، امرأته الأخرى، ويتفقد أولاده ونحو ذلك، لكن لا على سبيل المحاباة، وليس معنى ذلك أن يقضي النهار ويقول للأولى: أنت لا تملكين النهار، والنهار الناس يتفرقون في معايشهم ثم يذهب ويجلس عند امرأته الأخرى، ليس هذا من العدل، ولكن لو أنه دخل عليهم لحاجة أو لدراسة أو نحو هذا فإن هذا لا إشكال فيه.
"كلما كان ليلتها من رسول الله ﷺ يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم، "كلما كان ليلتها" هل هذا يفهم منه أن الإنسان له أن يحدد وقتاً أو يوماً يزور به المقبرة كيوم الجمعة مثلاً كما يفعله بعضهم؟.
الجواب: لا، فإن ذلك غير مشروع، وإنما حينما تدور عليها ليلتها فإن ذلك لا يتقيد بوقت معين في الأسبوع، فتارة يكون في أوله، وتارة في وسطه، وتارة في آخره، ولا إشكال في هذا، ولكن كل ما ورد في فضل زيارة القبور في يوم الجمعة فإنه لا يصح، ولو أن الإنسان حدد يوم الجمعة، أو حدد يوماً في الأسبوع لغرض معين ليس لمعنى تعبدي أو لمزية في ذلك اليوم ولكن لأنه هو اليوم الوحيد الذي يستطيع أن يتفرغ فيه -عنده إجازة- فمثل هذا لا إشكال فيه.
والبقيع يُقصد به بقيع الغرقد، وهو المقبرة المعروفة إلى اليوم في المدينة، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين قيل لها دار؛ لأنهم قد سكنوها، وصارت محلاً لإقامتهم.
وأتاكم ما توعدون وهو الموت كما قال النبي ﷺ في عثمان بن مظعون ، قال: غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، قوله: إن شاء الله مع أن النبي ﷺ وسائر الناس ممن يقول مثل هذا الذكر أو الدعاء أو السلام سيموت قطعاً، فمثل هذا التعليق بالمشيئة إنما جاء تحقيقاً لا تعليقاً، كما قال الله : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، وهم داخلوه قطعاً، فقد كتب الله ذلك وتحقق، ومع ذلك قال الله : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ، فما ورد من هذا القبيل فإنه يكون من باب التحقيق لا من باب التعليق، وإن كان بعض أهل العلم قد يفهم من هذا التعليق باعتبار أن المراد به أنه يلحق بهم في هذه الدار، يعني في البقيع، في هذه المقبرة المعينة، ولكن هذا فيه بُعد.
وقوله: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد يدل على مشروعية الدعاء لهم، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد وهذا لا يختص بهم، لكن لأن النبي ﷺ لما زارهم قال هذا، وإذا زار الإنسان مكاناً آخر لا يقول: اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، يمكن أن يقول: اللهم اغفر لهم، وبقيع الغرقد: الغرقد شجر من شجر العضاه، شجر له شوك معروف، وكان كثيراً في تلك الناحية -البقيع- ثم بعد ذلك أزيل، وصار ذلك يتخذ مقبرة.
هناك يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، وهذه الصيغة فيها اختلاف يقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية"، ومثل هذا مما ورد فيه صيغ متنوعة عن النبي ﷺ السنة أن ينوَّع ذلك، فإذا زار الإنسان المقبرة تارة يقول هذا، وتارة يقول هذا، فيكون قد جمع هذه الصيغ الصحيحة.
وبعده ذكر أيضاً:
"أقبل عليهم بوجهه" وهذا يدل على أن السنة إذا أراد الإنسان أن يزور المقبرة أن يستقبل القبور بوجهه، ويقول ذلك، ويدعو لهم، ولكن لا يتخذ المقابر موضعاً للدعاء لنفسه؛ لأن ذلك ليس من المواطن التي يتحرى فيها الدعاء، ولا شك أن الدعاء في المقابر وتحري هذا ذريعةٌ لدعاء هؤلاء من دون الله ، ووقوع الناس في الشرك، أما قوله: أسأل الله لنا ولكم العافية ففيه دعاء له، ولكنه يتقيد بما ورد، يعني في هذه الصيغة من الذكر والسلام فحسب، دون أن يتقصد الإنسان الدعاء لنفسه، لكنه يدعو لهم بما شاء، يدعو لهؤلاء الموتى بأكثر من هذا، له أن يقف على قبر معين من قرابته أو غير ذلك ويدعو له بما شاء، لكن لا يدعو لنفسه، لا يتخذ القبور موضعاً للدعاء لنفسه، والله تعالى أعلم.
وإذا سلم عليهم استقبل القبور، وإذا أراد أن يدعو لصاحب قبر فإنه يستقبل القبلة ويدعو، فإن جعل القبر بينه وبين القبلة فلا بأس، لكنه لا يستدبر القبلة مثلاً ويستقبل القبر أو نحو هذا، وإنما يستقبل القبلة في دعائه، وهكذا في زيارة قبر النبي ﷺ، فما قيل في زيارة القبور للنساء فإنه ينطبق على زيارة قبر النبي ﷺ، فإذا قلنا: إن هذا على سبيل الكراهة -كراهة التنزيه على قول الجمهور- فإن ذلك يدخل فيه، لكن ذلك لا يكون كثيراً؛ لأن النبي ﷺ قال: لعن الله زوّارات القبور[2].
ومن رأى التحريم فإنه يُنزل ذلك على زيارة قبره ﷺ، والذهاب إلى قبره ﷺ لم يكن من عادة الصحابة ، وإنما كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "إنهم كان من عادتهم أنهم إذا قدموا من سفر أو نحو ذلك كانوا يقصدون المسجد فيصلون فيه[3]، وهذه هي السنة أن يبدأ الإنسان بالمسجد، ويصلون على النبي ﷺ، ويسلمون عليه من الموضع الذي صلوا فيه، وإنما نقل قصد القبر عن عبد الله بن عمر أنه إذا أراد سفراً أو قدم من سفر فقط أنه يأتي إلى القبر، ويسلم على النبي ﷺ، ولم يرد عنه أنه يستقبل القبلة ويدعو، أو يستقبل القبر ويدعو، وإنما ورد هذا عن بعض أهل العلم، فإذا فعله الإنسان دعا للنبي ﷺ ولا يدعو لنفسه فإنه يمكن أن يجعل القبر عن يساره ويستقبل القبلة، ولا يستقبل القبر في حال الدعاء، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب الجنائز عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر، برقم (1053)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (3372).
- أخرجه الترمذي، أبواب الجنائز عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، برقم (1056)، وابن ماجه، أبواب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، برقم (1574)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5109).
- انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 285)، ومجموع الفتاوى (17/ 473)، و(27/ 384).