الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب "كراهية تمني الموت بسبب ضر نزل به، ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين".
لمّا ذكر المصنف -رحمه الله- في الأبواب السابقة: طول الأمل، وذكر الموت أيضاً، ثم ذكر بعد ذلك أيضاً ما يتصل بزيارة القبور، وما يحصل بها من الاتعاظ والاعتبار.
هنا تحدث عن تمني الموت، فإذا سمع الإنسان تلك الأحاديث والنصوص، فإنه قد يحمله ذلك على شيء من الانتقال إلى الطرف الآخر.
فالطرف الأول: هو أن يطول أمل الإنسان في الدنيا ويتعلق بها، ويُبعِد الموت.
والطرف الآخر: هو ذاك الذي يتمنى الموت ويطلبه، فهذا باب كراهية تمني الموت بسبب ضر نزل به.
قال: ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين.
يعني: أن حاله لا تخلو إما أن يكون محسناً فلعله يزداد من الإحسان، خيركم من طال عمره، وحسن عمله[2].
وإما مسيئاً فلعله يستعتب يعني: يرجع ويتوب.
وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: لا يتمنَّ أحدكم الموت ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيراً[3].
فهذه الأحاديث تضمنت النهي عن تمني الموت، والمصنف -رحمه الله- قال: "بسبب ضر نزل به ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين".
والنبي ﷺ قال: لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر أصابه وما أطلق، يعني: النبي ﷺ لو قال: لا يتمنين أحدكم الموت فقط، لقلنا: إن ذلك لا يجوز في كل الحالات، لكنه قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه.
هذا الضر ما المراد به، للجمع بين النصوص والأدلة؟
المقصود بذلك الضر الذي نزل ببدنه، أو بماله، أو بولده، أو نحو ذلك، يعني: مما يقع له في دنياه، وقع له مرض، وقع له مصيبة، وقع له موت، فقد أحبة، ونحو ذلك، فليس له أن يتمنى الموت بسبب هذا؛ لأن هذا يدل على الجزع من جهة، ومن جهة أخرى فإن طول العمر بالنسبة للمؤمن يكون سبباً للازدياد من الأعمال الصالحة.
وإذا أخذنا بمفهوم المخالفة لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به أو لضرٍّ أصابه يعني: لضر في بدنه أو نحو ذلك، لو تمنى الموت بسبب ضر وقع، أو لخوف الفتنة في الدين، الضر المتعلق بالدين كأن يكون الإنسان خاف على نفسه الفتنة في الدين، وُجد في مكان، وجد في زمان، خاف على نفسه الفتنة، ولم يستطع الخلاص، فهنا هل له أن يتمنى الموت أو لا إذا خاف على دينه؟
هنا النبي ﷺ قال: فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي هذا فيمن وقع له ضر نزل به، فلا يجوز له أن يتمنى الموت، والنهي محمول على التحريم، فهذا الذي نزل به ضر في بدنه، أو في دنياه، إن كان ولابد فلا يتمنى الموت، فإنه لا يدري أين الخير، فيقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي.
لكن لو كان ذلك بسبب خوف الفتنة في الدين، فمن أهل العلم من قال: هذا مباح، والمصنف هنا ظاهر كلامه أنه يرى الإباحة؛ لأنه قال: ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين، أنه يباح له، ويدل على هذا أدلة يستدل بها من قال بالإباحة، النبي ﷺ خُيِّر عند موته ﷺ فاختار، قال: الرفيق الأعلى[2].
وعمر قال: اللهم كبرت سني، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك واجعلها شهادة في مدينة نبيك ﷺ[3]. هذا عمر .
وكذلك أيضاً نُقل ذلك عن جماعة من السلف ، الإمام أحمد -رحمه الله- حينما ابتلي في فتنة خلق القرآن، وضُرب وأوذي، وحبس، ثم بعد ذلك فرجت الفتنة، ثم بعد ذلك أقبلت عليه الدنيا فرفضها، فكان يقول: هذه أشد من تلك، ويقصد بهذا إقبال السلطان عليه، وكان يبعث إليه بشيء من المال ويعتذر الإمام أحمد عن أخذه.
وكان يقول: "لو كانت نفسي بيدي لأطلقتها"، هذا الإمام أحمد -رحمه الله، ونُقل ذلك عن آخرين، فالشاهد أن من أهل العلم من قال: إن ذلك يجوز على الإباحة إذا خاف الفتنة في الدين.
ومنهم من قال: إن ذلك على سبيل الاستحباب، وممن نُقل عنه هذا الإمام الشافعي، بل نُقل عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قبله أنه يستحب له إذا خاف الفتنة في الدين أن يتمنى الموت عندئذ.
فهذه الأحاديث تضمنت النهي عن تمني الموت بسبب الضر، وأنه إن كان ولابد فكيف يقول، لكن يفهم من مفهوم المخالفة أن ذلك إن كان بسبب الخوف على الدين والفتنة فيه أن الإنسان له أن يتمنى الموت.
وقد ذكر النبي ﷺ في آخر الزمان الرجل الذي يأتي ويتمرغ على القبر يتمنى أنه مكانه.
ولكن هذا بهذا القدر لا يدل على إباحة ولا على استحباب، إلا إذا قال قائل: إنه تأخير للبيان عن وقت الحاجة، فلم يذكر النبي ﷺ ذلك على سبيل الذم، فهو تقرير له فدل على إباحته إذا خاف الإنسان على نفسه الفتنة في الدين.
وعلى كل حال الذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك لا يجوز على سبيل التحريم بسبب جزع من مصاب وقع له في دنياه، وأن ذلك إن كان خوف الفتنة فهو على سبيل الإباحة، وقد يكون مستحباً في حقه في بعض الحالات.
هذا خلاصة الكلام في مسألة تمني الموت، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت (7/ 121)، رقم: (5671)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (4/ 2064)، رقم: (2680).
- أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب دعاء النبي ﷺ: اللهم الرفيق الأعلى (8/ 75)، رقم: (6348)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل عائشة -ا- (4/ 1894)، رقم: (2444).
- موطأ مالك (5/ 1203)، (3044).