الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الورع وترك الشبهات" أورد المصنف -رحمه الله-:
هذا الحديث يرتبط بباب الورع ارتباطاً واضحاً لا لبس فيه؛ وذلك أن النبي ﷺ لما كانت الصدقة لا تحل له فتردد في هذه التمرة، هل هي من تمر الصدقة، أو ليست من تمر الصدقة، قال ما قال فتركها، وهذا يصدِّق ما سبق من أن حقيقة الأمور المشتبهة هي ما يتردد فيه الإنسان؛ لأمر من الأمور التي ذكرتها سابقاً، وأن الورع هو ترك ما يلتبس، وهذا ورع مستحب، وأن الورع الواجب هو ترك ما يحرم، ومن الورع المستحب أن يترك الإنسان المكروه.
والنبي ﷺ حينما وجد هذه التمرة في الطريق، هل كون هذه التمرة من تمر الصدقة، يعني: الزكاة، هل هذا الأمر وارد؟ هل هذا الاحتمال وارد أو غير وارد؟
الجواب: أنه وارد، إذا كان هذا الاحتمال وارداً فهل وروده نادر وبعيد في غاية البعد، أو أنه احتمال قريب؟
الجواب: أنه احتمال قريب، ومن ثم صح فيه الورع، وإلا فليس كل احتمال يعتبر، وإلا فعامة الأشياء يرد عليها احتمال، ولهذا قال بعضهم: إنه لا يُتيقن حلِّية شيء من كل وجه من غير أدنى احتمال إلا ما يتلقاه الإنسان بكفيه من ماء المطر؛ لأن الإناء الذي يتلقى فيه يحتمل أيضاً أنه وصل له بطريق فيها إشكال في الكسب، أو نحو ذلك، لكن هل هذه الاحتمالات معتبرة؟.
الجواب: لا، لكن كون هذا من تمر الصدقة في وقت النبي ﷺ، والنبي ﷺ كان يؤتى له بتمر الصدقة هذا احتمال، لكن هل يجب على النبي ﷺ الترك؟ هل يحرم عليه أكلها؟
خلاف بين أهل العلم، والأقرب أنه لا يحرم؛ لأن الأصل في ذلك الحل، الأصل فيه الحل حتى يثبت أنه من تمر الزكاة أو الصدقة، حتى يثبت.
وهناك أشياء يقال: لا، الأصل المنع والتحريم مثل: لو أنه تردد في هذه المرأة، هل تحل له أو لا تحل له؟، باعتبار أنه جاءت امرأة وقالت: إن هذه المرأة قد رضعت معك، وأمه تقول: لا أتذكر هذا الكلام، فهنا ماذا نقول؟ نقول: يتركها؛ تغليباً لجانب الورع، لاسيما أن الأصل في الفروج المنع والتحريم، فإذا تردد في شيء من ذلك تركه.
قوله: وجد تمرة في الطريق يدل على تواضعه ﷺ، لولا أنه خاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلها، فيأكل تمرة ملقاة في الطريق، وهو أفضل الخلق وأشرف الخلق ﷺ، وأيضاً هذا يختلف عن التكلفات، يعني هذه التمرة التي في الطريق قال: لأكلتها طبعاً هذه التمرة سقطت من إنسان، يعني: بمعنى أن لها مالكاً لكنها قد ضاعت منه، لكن التمرة هل هي من الأشياء ذات القيمة التي إذا فقدها الإنسان رجع يبحث عنها؟ الجواب: لا، فما كان من هذا القبيل من اللقطة فإنه لا حكم له، بمعنى أنه يجوز للإنسان أن يأخذه، فالنبي ﷺ لم تكن له هذه التمرة، ومع ذلك قال: لأكلتها، فقط أنه خاف أن تكون من تمر الصدقة، فهذه الأمور التافهة، الأمور اليسيرة، الأمور الحقيرة لا تعرَّف، ولا يُتورع منها إذا كانت ملكاً لإنسان، لكن لا شأن لها؛ ولهذا يذكر أن عمر بن الخطاب سمع رجلاً وجد عنبة فقام ينادي: من فقد هذه العنبة؟ لمن هذه العنبة؟، ينادي في الناس، فزجره، وقال: إن من الورع ما يمقت عليه اللهُ ، يعني: أن الله يبغض صاحبه؛ لأن مثل هذا الشيء التافه حينما يقف الإنسان، ويعرِّف عنبة قد يدخل هذا أيضاً في باب الرياء والسمعة، وأنه يريد أن يُظهر للناس أنه -ما شاء الله- متورع حتى من هذا الشيء التافه، ولا يدخل عليه شيء، ولا من الأمور الحقيرة التي لا قيمة لها، يتورع منها ويتركها.
فمثل هذا لا شأن له، فمن وجد شيئاً يسيراً مما لا تتطلع إليه أو تتبعه نفوس أوساط الناس فإنه لا بأس بأخذه، ولا يجب تعريفه، إنسان وجد قلمًا عاديًّا، إنسان وجد ساعة قيمتها عشرة ريالات، وجد عشرة ريالات في الطريق، نقول له: عرِّفها؟، أعلن في الصحيفة، والإعلان بالصحيفة قد يتكلف أقل شيء مائتين وخمسين ريالا لأجل أن يعرِّف هذه العشرة؟!.
وجد ريالا في الطريق هل له أن يأخذه؟ الجواب: نعم، له أن يأخذه؛ لأن مثل هذا لا تتبعه همة أوساط الناس، لكن هذا يختلف من بلد لبلد، من مكان إلى آخر، من عصر إلى عصر، لكن في زماننا هذا إنسان سقط منه ريال أو سقط منه عشرة ريالات بالسوق، يقول: أف، أنا الآن سقطت عشرة نريد أن نرجع للسوق نبحث عنها في المكان الذي كنا فيه، هل يفعل الناس هذا؟ الجواب: لا، هل يفعلون هذا في الخمسين؟، الجواب: لا، فيبقى تقدير ذلك كم يبلغ، فهذه مسألة تختلف، لكن يُنظر في الغالب في أوساط الناس، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بعده الحديث الآخر:
الله يقول: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، فهذا هو البر، فحقيقة البر هو المعروف، والطاعة، والخير.
فهذه الكلمة جامعة لكل معروف يحبه الله ، فيدخل فيه الواجبات، والمستحبات من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، هذا هو البر، كلمة جامعة من أجمع الكلمات.
النبي ﷺ قال: البر حسن الخلق هذا التركيب يشعر بأنه للحصر، كأنه حصر البر في حسن الخلق، ولكنهم يقولون عن هذا: إنه حصر مجازي، عند القائلين بالمجاز، وعند غير القائل بالمجاز يقول: إن مثل هذا الاستعمال الذي يشبه الحصر يراد به بيان منزلة حسن الخلق حيث جعل البر مضمناً فيه، كأن البر هو فقط حسن الخلق؛ لمنزلة حسن الخلق ودرجته عند الله وعظيم شأنه.
وحسن الخلق هو: طلاقة الوجه، البِشر، لين الكلام، بذل الندى، كف الأذى، الصلة في حال اليسر، وأيضاً في حال العسر، الإيثار، المواساة، العدل في الأقوال والأحكام، لين المعاشرة، وطيب المعشر، والألفة، وما إلى ذلك.
كل هذه الأشياء يقال لها: حسن الخلق، دماثة، يتخير العبارة، يطمئن إليه الناس، يرتاحون إليه، يحسن التعامل معهم، كل هذه الأشياء يقال لها: حسن الخلق.
ويقابله سوء الخلق، الفظ، الغليظ، الجوّاظ، الجَعْظَريّ، السخّاب في الأسواق، الذي يظلم الناس، إلى غير ذلك من الأوصاف القبيحة من غلظة، وجفاء، وبخل.
والإثم فسره النبي ﷺ بما حاك في النفس، فسره بأمر يحتاج الناس إلى معرفته، يمكن أن نقول: إن الإثم هو كل ما يكرهه الله ويبغضه وينهى عنه، هذا هو الإثم، وتارة يطلق على نتيجة المعصية، وهي المؤاخذة في الآخرة.
تقول: من فعل كذا يأثم، وتارة يطلق على نفس الفعل الذي يعاقب عليه الإنسان، تقول: الخمر إثم، والقطيعة إثم، والزنا إثم، والسرقة إثم، والعرب أحياناً تطلق الإثم على نوع من المعاصي وهو الخمر؛ لأنه أم الخبائث؛ لهذا يقول الشاعر:
شربتُ الإثمَ حتى ضلَّ عقلي | كذاك الإثمُ تفعلُ بالعقولِ |
فسماه إثماً، البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، بعضهم يقول: رسخ، لا، الأحسن أن يفسر حاك بمعني: تردد، تلجلج، لم تطمئن إليه النفس، بقي فيه شيء من الحركة والاضطراب، وعدم الاطمئنان والارتياح.
ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، وهذا يدل على أن الإنسان في فطرته ما يدل على انقباض من الشر، وإقبال على الخير في أصل الفطرة، وفيها أيضاً -أي في هذه الفطرة- الميل إلى المحامد والأمور الكاملة والانقباض من الأمور المدنسة، فالبر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر.
مثل هذا الذي يحيك في الصدر، أو تطمئن إليه النفس، أي نفس، وأي صدر؟
الكافر لا يتردد في نفسه هذا الأمر، ويأتي إليه وهو يضحك بملء فيه، ولا يفكر بشيء، لماذا؟.
لأن فطرته قد انتكست تماماً، وانطمست معالمها -نسأل الله العافية، الإنسان الفاجر الذي قد طبع الله على قلبه، وقد أكثر وران على قلبه من الذنوب ما ران، واعتادها واجترأ عليها، ولا يبالي بشيء، هذا لا يقاس، ولا يقال: والله الإثم ما تردد في نفسك؛ لأنه لا يتردد بنفسه شيء، هو يفعل الجرائم والمعاصي والكبائر، والذنوب الكبار، ولا أدنى تردد، أما الشُّبه فهو لا يقف عندها، ولا يسأل عنها، ولا يسأل عن شيء، ويتبجح بالحرام وكذا، فهذا ليس بمقياس، من هو المقياس؟
المقياس نفس المؤمن الذي لا زال على الفطرة، فطرته لا زالت حية لم تنطمس معالمها، وهذا كما قلت لكم من قبل: متى يُعمل به؟.
البر ما اطمأنت إليه النفس، متى؟ نحن عندنا إذا وجد الدليل انتهى كل شيء، إذا وجد الدليل البيّن الواضح، فإذا اتضح الحكم قال الله، قال رسوله ﷺ، فعندئذ لا كلام، لكن حينما لا يوجد، إما أن يكون الإنسان عنده قدرة على الاستنباط، عالم، أو طالب علم، ويستطيع أن يستنبط، لكن لا زال في هذه القضية في نفسه شيء، عنده تردد فيها، فهنا نقول: اتركها، أو يكون هذا الإنسان مقلداً فسأل، سأل أحد طلبة العلم، سأل أحد العلماء، فقال له: يجوز، ولكن هو غير مطمئن لهذه الفتوى، في نفسه شيء، أن هذا الأمر غير نظيف، فالنبي ﷺ جعل له هذا الضابط، الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس، ما يحب أن الناس يعرفون أنه عمل هذا الشيء، وإن كان يوجد من أفتاه بذلك، فيتردد الإنسان.
هناك مسائل موجودة وواقعة، والناس يسألون عنها.
الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، يريد أن يأخذ معاملة من المعاملات، يريد أن يأخذ أرضًا بطريقة معينة، بلفة، باسم واحد آخر.
كرهت أن يطلع عليه الناس ولا يحب أن يطلع الناس على هذا، لكن يوجد من أفتاه، وأن هذا لك حق فيه -أي بيت المال، ولن يعجز أن يجد من يفتي في مثل هذه الأشياء، فأقول: هذا ضابط عند المسلم متى؟ في هذه الحال، إذا كان عنده قدرة على الاستنباط، أو سأل فأُفتي ولم يتضح وجه المسألة له بالحل أو الحرمة، فهنا نقول: عندك فيه تردد اتركه.
هذا إنسان يسأل قبل يومين وصلت إليه أرض، أو ستصل إليه أرض، لكن يقول: أنا ما أدري ماذا عمل الذي أخذها، هل أعطى رشاوى؟ وفي نفسي شيء، لستُ مطمئناً، نقول: لستَ مطمئناً؟ دعها، لا تأخذها، يقول: في نفسي شيء، أنا غير مطمئن.
إذن الإثم ما حاك في الصدر، أقصد من هذا أنه ما هو دائماً، ففي حال انتكاس الفطرة لا يُنظر إلى هذا.
الحالة الثانية: أنه إذا كان هذا الإنسان تبين له بالدليل، ذُكر له الدليل، نصٌّ في المسألة، فهنا ما يقول: أنا مطمئن، أو لست مطمئنًا، بعض العوام من النساء اعتادت على الحجاب جدًّا وتمسكت به، يقال لها: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23].
تقول: لكن ما أقدر أن أكشف له، من الرضاع، ما أستطيع، هذا التحرز لا محل له، وإن كان بعضهم يفعل ذلك حياءً، يغلبهم الحياء، بعض النساء لا زالت إلى اليوم لا تكشف لأزواج بناتها أبداً، تحتجب تغطي وجهها، هذا موجود إلى اليوم، يقال لها: أنتِ ما تعتقدين بالحل؟ تقول: أنا أفعل هذا حياءً، والبعض لربما تفعل ذلك ورعاً، فهذا الورع لا محل له، تقول: في نفسي شيء أنا غير مطمئنة، غير مطمئنة والمسألة فيها نص في القرآن؟.
فهذا التردد الذي يحصل إذا تبين الدليل لا محل له، ولا معنى، إنما ذلك في المسائل التي تلتبس، المسائل التي لم يرد فيها دليل، تقابلت الأدلة، لم يبلغه الدليل ونحو هذا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم (4/ 1980)، رقم: (2553).