الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الورع وترك الشبهات" أورد المصنف -رحمه الله-:
عقبة بن الحارث تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، هذه المرأة جاءت تسميتها في بعض الروايات بأنها غَنيّة، وأن كنيتها أم يحيى، وجاء أيضاً في بعض الروايات أن اسمها زينب، وجمع بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر -رحمه الله- بين هذا أنها تكنى بأم يحيى، وأن غَنيّة لقب لها، وأن اسمها زينب.
فأتته امرأة، في بعض الروايات: فأتت جارية سوداء، أو أمة سوداء، وفي بعض الروايات: فجاءت امرأة سوداء[2].
وهذه لا يخالف بعضها بعضاً، جاءت جارية، أمة، امرأة سوداء، وفي بعض الروايات أنها جاءت سائلة، يعني: تطلب العون والمساعدة، تسأل، فقيرة، فأبطئوا عليها فقالت: تصدقوا عليّ فإني قد أرضعتكما.
فالحاصل في هذه الرواية قالت: إني قد أرضعت عقبة، والتي قد تزوج بها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله ﷺ بالمدينة، هذه المرأة حَفظتْ، وعقبة لم يحفظ، كان صغيراً ولم يعلم بذلك، ولم يُخبر به، وليس ذلك بلازم في الرضاع.
الشاهد أنه ركب إلى رسول الله ﷺ المدينة، ركب من مكة، فسأله، فقال رسول الله ﷺ: كيف وقد قيل؟.
السؤال عن العلم -لاسيما ما يتعلق بالأبضاع- في غاية الأهمية، ولا يُستكثر عليه أن يركب الرجل بعيره، بل لا يُستكثر أن يأتي على قدميه من مكة إلى المدينة ليسأل عن هذا.
وللأسف فإن من الناس من المسلمين من لا يرفع لذلك رأساً، وكثير من النساء السائلات في مسائل تتعلق بالطلاق والظهار والتحريم وما شابه ذلك، في قضايا معقدة، حينما يقال لها: أين الزوج؟، لماذا لا يسأل، يستفصل في بعض القضايا؟، تقول: هو لا يسأل، ولا يريد أن يسأل، ولا يفكر في هذه الأشياء، ودائماً يطلق.
بل إحدى النساء ذكرت أن زوجها قد طلقها تسع مرات متفرقات في عِدد مختلفة، ولا زالت معه، يعاشرها بالحرام، تسع مرات، ليس تسع طلقات في لفظ واحد أنت طالق تسعاً، أو يردد كلمة طالق، لا، في عِدد مختلفة تسع مرات وقع لها الطلاق، وكثير من الأحيان المرأة تسأل وهي متحيرة ماذا تفعل؟، والرجل لا يسأل ولا يريد أن يسأل.
نقول: لابد من سؤاله من أجل أن يُستفصل منه، يذهب إلى القاضي.
فتقول: لا يمكن أن يذهب، وهو لا يهتم بهذه الأمور، وليس عنده أدنى استعداد.
فهذا الصحابي ركب من مكة إلى المدينة ليسأل عن هذه المسألة، فسأل النبيَّ ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: كيف وقد قيل؟.
يعني: أن عقبة يقول: أنا لا أذكر هذا، لم تذكر لي هذا، لم يذكره أحد، فقال النبي ﷺ: كيف وقد قيل؟، يعني: قالت هذه المرأة: إنها أرضعت، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره.
وهذه المسألة إذا وقعت لإنسان فإن ما أفتى به النبي ﷺ كيف وقد قيل؟ يقال: يؤخذ منه أنه يجب عليه أن يفارقها.
ما علاقة هذا الحديث بباب الورع؟ له علاقة ظاهرة، فالورع كما سبق إما أن يكون من الورع الواجب، منه نوع واجب، فإذا كان يجب عليه أن يفارقها فإن هذا من الورع الواجب، كيف وقد قيل؟.
ومن يرى من أهل العلم أن ذلك لا يثبت إلا بشهادة اثنين، وأنه لا يقبل بقول المرأة الواحدة، وهذا قال به بعض أهل العلم، فقالوا: إن قول النبي ﷺ: كيف وقد قيل؟ وأمره أن يفارقها أن ذلك على سبيل التورع والاحتياط.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- وهو المنقول عن جماعة من أهل العلم منهم الإمام أحمد -رحمه الله- أن ذلك يثبت بقول امرأة واحدة، لاسيما أن ذلك فيه ما فيه من الاحتياط للأبضاع، والأصل في الأبضاع المنع والتحريم.
لكن ينبغي أن نفرق في هذا بين صورتين، هذه الصورة التي تقول فيها المرأة: إنها قد أرضعت، يعني الإرضاع المحرم، وهو الخمس الرضعات المشبعات، هكذا يفترض، لكن في كثير من الحالات تقول المرأة: إنها قد أرضعت، لكن لا تدري هل هي واحدة أو أكثر، فهنا تُسأل هذه المرأة ما هي المدة التي تم فيها الإرضاع؟ وكم كان عمر هذا الصغير حينما أرضعته؟.
فالذي يكون حديث الولادة يغلب عليه أنه ينام الوقت الطويل، فلو قالت: إنها أرضعته في يوم واحد فقط فإن هذا لا يبلغ خمساً، فلا يحكم بالتحريم، لماذا؟ لأن الأصل عدم ذلك، ولا يقال: يحتمل أن يكون هذا الولد ممن يرضع كثيراً، لا، الأصل أن التحريم لا يثبت بهذا، وأن الرضاع لم يبلغ الحد المحرم، الأصل أنه لا يثبت، وأحياناً تقول المرأة: إنها قد أرضعته، ولكن لا تدري مدة الرضاع، لا تذكر، لكن تذكر أنها أرضعته، لكن هل هي رضعة واحدة أو أكثر؟ تقول: لا أدري، الذي أتذكره أني قد أرضعته، ففي هذه الحال ماذا يقال؟ يقال: إذا لم تتذكر، ولم يثبت عندها أنه خمس رضعات فما فوق مما يحرم، يعني: مشبعات، فإن ذلك لا يثبت به حكم التحريم، ولا يقال: هي أمه من الرضاع؛ لأن الأصل عدم ذلك، فنفرق بين هذه الصورة وبين صورة أخرى، كامرأة جاءتنا وقالت: أرضعته خمساً، أرضعته أسبوعاً، أرضعته ثلاثة أيام، أرضعته يوماً، أرضعته يومين، حسب عمر الطفل أيضاً.
فالشاهد أن النبي ﷺ قال: كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة، ونكحت زوجاً غيره.
هذه المرأة إذا كان عندها أولاد، وهذا النكاح باطل، ماذا يقال في حكم الأولاد؟ يلحقون به وينسبون إليه، ولا يقال: أولاد زنا، ولا يقال عنها: إنها زانية، مع أن النكاح باطل، لم يصادف محلاً قابلاً، تزوج بأخته، العقد لا يقع أصلاً، فهذا يكون إلحاق الولد فيه بالنسب بالشبهة.
وقد ذكرت في بعض المناسبات أن النسب يثبت بأدنى ملابسة، حيث لا توجد منازعة.
وإذا كان النكاح لم يصح أصلاً فهل يتطلب ذلك تطليقاً؟ تزوج بأخته، النكاح لم يقع، فهل يقال: يحتاج إلى تطليق أو لا؟ هذا النكاح الذي وقع من قال: إن ذلك لا يثبت بقول امرأة واحدة -يعني: حكم الإرضاع المحرم- فإنه يقول: يطلق، وإن هذا من باب الاحتياط، يعني: التفريق بينهما، ومن قال: إن ذلك يثبت بقول امرأة واحدة، فيقول: النكاح باطل من أصله، فلا يحتاج إلى تطليق.
إذاً ما معنى قوله هنا: ففارقها عقبة؟ يحمله بعضهم على أنه فارقها يعني تركها، خلّى سبيلها، فتزوجت برجل آخر، ولا يحتاج أن يطلق؛ لأنها ليست في حباله.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الرحلة في المسألة النازلة، وتعليم أهله (1/ 29)، رقم: (88).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات (3/ 54)، رقم: (2052).