السبت 14 / جمادى الأولى / 1446 - 16 / نوفمبر 2024
حديث «دع ما يريبك..» ، "كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام.."
تاريخ النشر: ٢٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٠
التحميل: 1497
مرات الإستماع: 3816

حفظت من رسول الله ﷺ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الورع وترك الشبهات" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث الحسن بن علي -رضى الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله ﷺ: دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك[1]، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

دع ما يريبك أي: اترك ما تشك فيه، إلى ما لا يريبك إلى ما لا تشك فيه، ولفظة الرَّيْب أخص من الشك، وإن كان يرجع معه إلى معنىً أو إلى أصل واحد، ولكن الفرق بين الريب والشك: أن الريب شك مقلق، الشك إذا كان فيه قلق، عدم ارتياح فهذا هو الذي يقال له: الريب، ولهذا قال الله عن كتابه: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، وقال: ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15].

وهذا التعبير في غاية المناسبة دع ما يريبك.

الشيء الذي لا تطمئن إليه النفس -كما سبق: البر ما اطمأنت إليه النفس- فيقع فيه شيء من الحركة في الصدر، والاضطراب، والقلق وعدم الارتياح، والإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس[2]، فإذا وقع للإنسان شيء من التردد في معاملة، في شيء مما يتعاطاه، ووجد من أفتى بجوازه، ومن أفتى بمنعه أو نحو ذلك، فإنه يترك ذلك ويستريح، فهذا مقتضى الورع، وهذا كما ذكرت سابقاً في حال كون المسألة مختلَفًا فيها، أو لم يرد فيها دليل، مسألة اجتهادية لم يقف فيها على دليل إن كان هو ممن يستنبط الأحكام، أو كان مستفتياً فأفتاه أحد من أهل العلم أو سمع أو قرأ فتوى، ولكنه لم يطمئن إلى دليله، أو إلى كلامه أو إلى فتواه، ويوجد من يخالفه في هذا.

فهنا نقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ولذلك تجد من الناس من يقول: أنا قرأت فتوى في المسألة، أو سمعت في كذا، لكن في نفسي شيء من هذه المعاملة، من هذا الربح، من هذا المكسب، من هذه الصفقة، فنقول: دع هذا فإن الإثم ما حاك في الصدر، فهذا أصل كبير في الورع، ولهذا سئل بعض السلف عن الورع، السلف كانوا يقولون: أسهل شيء، فما شككت فيه فدعه، فهذا سهل، لكن كانوا يقولون: الإخلاص صعب؛ لأن القلب له حركة واختلاج، والواردات ترد عليه بكثرة، ويتقلب ويتصرف، فيصعب السيطرة على ذلك، ولهذا يقولون: الإخلاص صعب، وأما الورع فسهل، اترك الذي تشك فيه.

كان لأبي بكر الصديق غلام
حديث عائشة -رضى الله عنها- قالت: كان لأبي بكر الصديق غلام، غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني لذلك، هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه[1].

الغلام: المقصود به هنا مملوك.

وجاء في بعض الروايات أن اسمه النعيمان، يُخرج له الخراج، الخراج هنا المراد به ما يفرضه السيد على المملوك، بحيث إنه يعتمل بيده، ويأتي لهذا السيد بمال، يقول له: اذهب، اصنع، اعمل، اشتغل، ثم يأتيه بمال، هذا المال الذي يأتي به يقال له: الخراج، هنا في هذا الحديث.  

فكان هذا الغلام يُخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه؛ لأن هذا المملوك لا يملك شيئاً، فكل ما يقع في يده فهو ملك لسيده، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه.

تكهنت لإنسان في الجاهلية، معنى تكهنت: الكهانة: هي نوع من ادعاء علم الغيب، فالكاهن يخبر عن أشياء إما مستقبلية فيقول: إنه سيحصل لك كذا، وسيحصل لك كذا، ستتزوج بامرأة، أو هذه المرأة إذا تزوجت بها لن يحصل وفاق أو نحو هذا، سيحصل لك مال، سيحصل لك كسب، وأحياناً يكون هذا التكهن بأمور واقعة حاصلة، يخبره بها وهذا الإنسان لم يطلع عليها، فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يطلعون على الغيوب بطريقة من الطرق هذا كله من الكهانة، وإن سُمي بعضه بأسماء أخرى، خطٌّ على الرمل، قراءة الكف، قراءة الفنجان، الذي يأتي بطائر، ويزعم أن هذا الطائر بحركاته نعرف أن هذا الأمر سيكون كذا أو سيكون كذا، كل ذلك داخل فيه.

فهذا لم يكن يحسن الكهانة أيضاً ولكنه خَدع، والخدعة في هذا سهلة جدًّا؛ لأن هذا يخبر عن أمور غير مدركة أمور غيبية، وليس على ذلك إلا أن يؤمن، ويقول: نعم، ولذلك الذين يذهبون إلى السحرة، ويذهبون إلى أناس يزعمون أنهم يتعاملون مع جن مسلمين أو غير ذلك، فيخبرونهم أنت مسحور، أنت فيك عين زرقاء، أنت فيك عين بنفسجية، أنت فيك عين كذا، ويعطيه من هذا الكلام الرخيص، وهذا الإنسان يصدق، ثم بعد ذلك يقع في قلبه أنه فعلاً مسحور، أو أنه أصيب بعين أو نحو ذلك، من أين عرفت هذا الكلام؟، ما الدليل عليه، ما برهانه؟ لا تستطيع أن تخرج بنتيجة، يقول لك: إنه يتعامل مع جن مسلمين أحياناً، ولكن ما الذي يثبت هذا، وهل هذا الطريق مأمون، وهل هذا الإنسان صادق، وهل هؤلاء الذين يخبرونه أيضاً يصدقونه في الخبر؟.

يقول: ما كنت أُحسن الكهانة، إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك، والناس يحفظون، إذا وقع ذلك مرة وفاقاً للواقع فيحفظونها وينسون الأشياء الكثيرة، كما جاء عن النبي ﷺ، يسترق السمع ويكذب معه مائة كذبة.

فيحفظ الناس ما وافق وما وقع، وينسون الباقي، وهذا مشاهد، حتى الذين يعبرون الرؤى أحياناً، ولهم جرأة عجيبة لبعضهم، لربما يحدد لهم التاريخ والساعة واليوم والشهر وغير ذلك، ولا يحصل، ويفسر أشياء كثيرة ولا تحصل، فإذا حصلت واحدة تناقلها الناس.

يقول: فأعطاني بذلك، هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فَقَاء كل شيء في بطنه، رواه البخاري.

أبو بكر قَاء كل شيء في بطنه، هذا من الورع، هل هذا من الورع الواجب أو أنه من الورع المستحب؟

الذي يظهر -والله أعلم- أنه من الورع المستحب، وليس من الورع الواجب، بمعنى أن أبا بكر حينما أكل إنما أخذ بالظاهر، فالظاهر أن هذا الإنسان الغلام مسلم، ويعمل له بمعاملات مباحة فيأكل مما جاءه به، وليس مطالباً في كل مرة أن يسأل وينقر: من أين جئت به؟ من أين اكتسبته؟ فإن هذا لا يشرع، فلما أكل إنما أخذ بحسب الظاهر، وهذا لا إشكال فيه، فلما تبين له بعد ذلك، أدخل أصبعه في فمه، ثم تقيأ.

قال ابن سيرين: فأول من حُفظ عنه أنه تقيأ من أكلة أكلها هو أبو بكر الصديق ، لكن هذا لا يجب، وإنما ذلك لكمال ورعه، ولهذا فإن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لما اشتهى عسلاً، ولم يكن بحضرتهم أرسلت امرأته بطريق البريد، البريد معروف أنه أفراس يكون لها مراكز يُبعث عليها ما يحتاجه السلطان مثلاً، أو ما يرسل به إلى البلد الآخر، فيجري هذا الفرس بأسرع ما يمكن -يكون فرسًا نجيبًا- إلى المحطة الأخرى رقم اثنين، وهذه المحطة فيها أيضاً أفراس، فيركب ثانية، أو يكون هناك آخرون، فيركب آخر ويأخذ الرسالة، وينطلق بأسرع ما يمكن على فرس مستريح إلى المحطة رقم ثلاثة، ثم ثلاثة إلى أربعة، فيصل بأسرع وقت، حتى إنه لربما صلى على الفرس.

فالشاهد أن عمر بن عبد العزيز جيء له بالعسل، فسأل، فأخبرته امرأته أنها طلبت ذلك بطريق البريد، وهذا البريد إنما هو لمصالح المسلمين، وليس لشيء يخصه، فمن ورعه -رحمه الله- أنه أبى ذلك وأمر أن يباع، وأن يُدفع ما كان موازياً لقيمة الكلفة -كلفة البريد مثلاً، ويُجعل في بيت مال المسلمين.

وقال: ولو كان نافعاً المسلمين قيءٌ لتقيأتُ، فلم يتقيأ؛ لأن هذا أمر لا ينفع.

إذا كان مثل هذه النماذج، وسيأتي إن شاء الله نماذج حينما نقرأ الآثار المنقولة عن السلف من الكتاب الآخر، إذا كانت هذه هي حالهم يتقيأ الواحد منهم من أكلة أكلها، مع أن فعله ليس بمحرم، فكيف بالإنسان وهو يعلم؟، ولربما كان مسكنه أصلاً من شبهة أو حرام، وسيارته من حرام، وأموال الناس عنده، وأخذها بطرق محرمة، وإذا اعتمل لهم عملاً فإنه لا يؤديه على الوجه المطلوب، ويأخذ من هنا، وإذا كان مندوباً للمبيعات، أو للمشتريات، أو لغير ذلك، وُكل به المناقصات أو نحو هذا يطلب لنفسه نسباً، وإلا فإنه لا يوقع هذا العقد، ويأبى وما أشبه ذلك، كل هذا من السحت، ولا يربو لحمٌ نبت من سحت إلا كانت النار أولى به[2].

والله المستعان، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب أيام الجاهلية (5/ 43)، رقم: (3842).
  2. أخرجه الترمذي، باب ما ذكر في فضل الصلاة (2/ 512)، رقم: (614).

مواد ذات صلة