الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الورع وترك الشبهات" أورد المصنف -رحمه الله-:
نافع هو مولى ابن عمر، وهو من خيار التابعين وعلمائهم وعبادهم.
"أن عمر بن الخطاب كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف" فرض لهم من بيت المال، من الفيء، ومعلوم أن كل مسلم له حق في بيت المال، فكان عمر يوصل إلى الناس ذلك وهم في بيوتهم، لا يطلبونه ولا يسعون إليه، كلٌّ بحسب بلائه وسابقته وهجرته، وما إلى ذلك من المعاني، ففرض للناس، فرض للمهاجرين الأولين، وهم من أحق الناس وأولى الناس بهذا المال، فرض لهم أربعة آلاف لكل واحد، وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، ابن الخليفة المتوقع أنه إن لم يؤثره عليهم فإنه يعطيه كما يعطيهم، لاسيما أنه مهاجر ومع ذلك نقصه خمسمائة، هذا النقص هل هو حق ثابت، بمعنى أنه لا يستحق أربعة آلاف؟ الجواب: لا، إنما يستحق أربعة آلاف كغيره من المهاجرين، ولكن عمر غلب جانب الورع، من جهة أن ابنه كان صغيراً، يعني: حينما هاجر الراجح أنه كان قد بلغ الحادية عشرة من عمره، صغير، يعني: لا يهاجر بنفسه من كان في هذا السن عادة، فهو هاجر على سبيل التبع مع أن مثله كان مسلماً، يعني: من كان بهذا السن فهو مميز يدرك ويعرف ويصح إسلامه، وتقع منه الردة، وما أشبه ذلك.
فالمقصود أنه نقصه من باب التورع، باعتبار أن هجرته كانت على سبيل التبع لهجرة أبويه، ولم تكن على سبيل الاستقلال، الآخرون الكبار هجرتهم على سبيل الاستقلال، يخرج الرجل بنفسه، أمّا هو فخرج مع أبويه، فنقصه بهذا القدر، وجعله ليس كمن هاجر بنفسه.
فهذا الحديث، وما سبق من الأحاديث، وما سيأتي أيضاً من الآثار عن السلف في هذا الباب كلُّه يؤكد هذا الأصل العظيم في ديننا وهو الورع، الورع من أموال الناس، فيتحرز الإنسان، ولا يَدخل عليه شيء منها، والورع من الأموال العامة، وما في حكمها، الأموال العامة بيت مال المسلمين، سواء كان ذلك من النقود، أو كان ذلك من الآلات، أو كان ذلك من المراكب والسيارات، أو نحو هذا، فإن الإنسان يتورع، وليس ذلك كلأً مباحاً، فإذا كان عند الإنسان سيارة ملكاً للدولة مثلاً، أو ملكاً لشركة، أو مؤسسة يعمل فيها، أو نحو ذلك، يعني: من الحقوق العامة أو من الحقوق الخاصة، أُعطي من أجل أعمال هذه المؤسسة، أو هذه الجهة، فإنه لا يجوز له أن يوصل أولاده إلى المدارس فيها، ولا يجوز له أن يذهب إلى السوق، ولا أن يتمشى فيها ويتنزه، ويقضي حاجاته الخاصة بها، لا، وإنما هذه للعمل، أمّا لو أعطاه وقال: تصرف فيها ولكنك لا تملكها، فهذا لا إشكال فيها، لكن الغالب أنه إنما يُعطَى من أجل العمل، يذهب بها للعمل ويأتي بها إلى العمل، فإذا جاء وضعها في مكان، ثم استعمل سيارته الخاصة، يتورع.
وقل مثل ذلك فيما ينفقه الإنسان على أعمال وُكلت إليه أو نحو ذلك، ينبغي أن يفصل بين ما يختص به هو، وبين ما يتعلق بهذه الأعمال، وما يكون له من نفقات يُخص بها إزاء إشرافه على هذا العمل أو ذاك، وبين ما ينفقه على نفسه إذا كان ذلك لا يتصل بالعمل، يعني: في أوقات لا علاقة لها بالعمل، انتهى مجال العمل، وذهب هنا، أو هنا من أجل أن يقضي متعة أو فسحة، أو نحو ذلك.
وقل مثل ذلك فيمن يُنتدب إلى مكان، ثم بعد ذلك يقضي المدة بدلا ما يجلس أسبوعًا يجلس ثلاثة أيام وينجز العمل، ثم يرجع ويقول: بقيت أسبوعاً أو نحو هذا، فمثل هذه الأشياء كلها يحتاج أن يتورع فيها.
من الناس من يعمل في جهة خيرية ويتصرف، لربما وجدوا في أربعة أيام أو خمسة أيام ما يزيد على أربعة آلاف ريال في فاتورة الهاتف، من يكلم هذا؟ يكلم المشارق والمغارب، لا يتذكر صديقاً له درس معه في الجامعة، أو في أهله، أو في بلده، في أي مكان إلا ويتصل، في أربعة أيام أكثر من أربعة آلاف ريال!، لماذا؟ لأنهم وثقوا بك؟، هذا لا يجوز، هذا حرام.
وآخر يُعطَى سيارة في مؤسسة خيرية لمدة يومين أربعاء وخميس وجمعة تبقى عنده، ثم يفاجئون أن السيارة مشت أكثر من ستمائة كيلو متر، أربعاء وخميس وجمعة المفروض أنه يوقفها، أين ذهب بها؟، وأين هذه المشاوير؟.
يجب على الإنسان أن يعلم أن ما يدخل عليه من هذه الأمور أنه لا يحل له، ولا يتساهل الإنسان في هذه الأموال العامة، أو الأموال التي في معناها، أو في حكمها.
صدقات يُعطاها بعضُ الناس ثم يأخذ منها، لماذا تأخذ منها؟ قال: لأني أنا محتاج، هم أعطوك من أجل أن توصل، ما أعطوك من أجل أن تأخذ، فليس لك أن تأخذ، فاستأذن من أهل الصدقة.
يُعطَى هذه الصدقة من أجل أنها لمشروع معين، إفطار الصائم في هذا المسجد، انتهى رمضان، وفاض فائض عشرة آلاف ماذا أفعل بها؟ قال: هذه نوزعها على طلاب الحلقة هدايا، من قال لك؟، هذه إفطار صائم، لا يجوز أن تُصرف إلا في إفطار الصائم، ما عندك عمل، ما عندك مشروع في هذا المجال، تدفعها إلى إفطار صائم في مكان آخر، هناك جهات، هناك توعية جاليات عليهم ربما مئات الألوف من الديون بسبب إفطار الصائم، أعطهم إياها، قل: هذه تبع المشروع، وأجر هؤلاء الذين أفطروا من قبل بقدر هذا يذهب إليهم، فتقع اجتهادات وتساهل في أمور كثيرة، وأشياء أحياناً لا يُتنبه إلى حكمها، فالإنسان يريد خيراً ويعمل أعمالا خيرية، ولكنه يقع في الإثم، يتعاقد، مؤسسة خيرية تترك الدار التي استأجرتها، وصاحب الدار يبحث عنهم ويلح عليهم، ويتصل بهم، ويطالبهم خذوا هذه الأشياء، صناديق من التمر تملأ غرفاً، بطانيات جديدة، مواد غذائية جيدة وصالحة ومعلبات، أشياء، خذوا هذه، وما من مجيب، وقد أفرغ البيت، يعني: ترك البيت، أعطي المفتاح، خلاص انتهى، تركوه، أخذوا ما شاءوا، وتركوا الباقي، هذا ما يحل، ما يجوز، هذه أموال تبرعات يجب أن تصل إلى مستحقيها، ما يفرط فيها الإنسان هذا التفريط.
هذا الحديث في سنده عبد الله بن يزيد الدمشقي، وهو متكلَّم فيه، ضعيف، الحديث لا يصح، لكن ليس المقصود به أن يترك الحلال هكذا بإطلاق، لا، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [لأعراف:32].
ولكن المقصود هنا أن يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً وسياجاً من الحلال، هذا معناه، وهذا الذي ذكره الشاطبي -رحمه الله- وغيره من أن التوسع في المباحات يفضي به إلى الوقوع في المشتبهات، ومن ثَمّ المحرمات.
فهذا هو المراد، أن يدع ما لا بأس به يعني: بعض الحلال؛ ليكون ستراً ووقاية وحرزاً من الوقوع في الحرام.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 634)، رقم: (2451)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الورع والتقوى (2/ 1409)، رقم: (4215).