- إن الله يحب العبد التقي
- أي الناس أفضل يا رسول الله
- يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم
- ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم
- من خير معاش الناس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب (استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان، أو الخوف من فتنة في الدين، ووقوع في حرام وشبهات ونحوها) أورد المصنف -رحمه الله-:
وقوله ﷺ: إن الله يحب العبد التقي، فيه إثبات صفة المحبة لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، والأحاديث التي جاءت في الكتاب والسنة في ذكر من يحبهم الله -تبارك وتعالى- جديرة بالعناية، وأن يجمعها الإنسان ليعرف محبوبات الرب -تبارك وتعالى؛ ليتصف بذلك، ويتحقق به من أجل أن يحبه الله ، كما في الحديث القدسي المشهور: ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...[2].
فهنا: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي، التقي يعني الذي قد جعل بينه وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر وترك ما نهى، يعني يفعل المأمورات ويترك المحظورات، والناس يتفاوتون بالتقوى، فمنهم من يترك الأمور المكروهة ويفعل الأمور المستحبة، ويسارع في الخيرات، فهذه مراتب عالية في التقوى.
وفسر المصنف -رحمه الله- الغنيّ بأن المراد به غني النفس، واحتج بحديث: ليس الغِنى عن كثرة العرض، وإنما الغِنى غٍِنى النفس[3]، وذلك أن الإنسان مهما أوتي من الدنيا ومتاعها إن لم توجد عنده القناعة وغناء النفس فإنه كما قال النبي ﷺ في آية قد نسخ لفظها وبقي حكمها، وهو أن الله قال: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، إلى أن قال:ولا يسد جوف -أو ولا يملأ جوف- ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب[4]، وهذا شيء مشاهد.
ومن أهل العلم من فسره بغنى المال، كما قال البيضاوي وابن عياض والطيبي: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي، ولو أنه فسر بالمعنيين بحيث إنه يتصف بغنى النفس وهو مستغنٍ عن الناس، يعني عنده ما يكفيه وليس المقصود كثرة العرض، وإنما قد اكتفى، وأعفّ نفسه، ولم يُذهب ماء وجهه بتكفف الناس، وطلب ما في أيديهم.
وأما الخفيّ فالمراد به: الذي لا يعرف، إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يذكر، فليس من الناس الذين قد اشتهروا وعرفوا ونحو ذلك، وإنما هو خفي في شأنه، وفي حاله قد شغل بذنوبه وبطاعة الله -تبارك وتعالى، لا يشعر به الناس، وليس معنى ذلك أن من لم يكن بهذه الصفة أنه مذموم؛ فالنبي ﷺ هو أعرف الخلق -عليه الصلاة والسلام، وهكذا كبار الصحابة ، وهكذا أيضاً القادة، والعلماء، وأئمة العدل في هذه الأمة سلفاً وخلفاً، لابد أن يُعرف، ومن قام ونهض بشيء من مصالح هذه الأمة العامة فلابد أن يعرفه الناس، ولكن المقصود الذي ينبغي أن يلتفت العبد إليه -وهذا الحديث يربي على هذا المعنى وجاءت أحاديث أخرى كذلك- أن الإنسان لا يتطلب الرفعة والعلو في الأرض، أو يريد أن يعرفه الناس، فإن ذلك مذموم، والنبي ﷺ قال: ما ذئبان جائعان أرسلا على غنم بأفسد لها من إرادة -أو من حب- المرء للمال والشرف لدينه[5]، يعني أن ذلك يفسد دينه أعظم من إفساد الذئبين الجائعين اللذيْن أرسلا على غنم، فما ظنكم؟ الذئب ولو لم يكن جائعاً فإنه يفتك بالغنم جميعاً، فكيف به إذا كان جائعاً؟ وهكذا حب الشرف أن يكون له منزلة في نفوس الناس، وأن يعظموه ويقدروه، وينوهوا به، وأن يُقدم في محافل الناس وما أشبه هذا، هذا أمر لا ينبغي للمسلم أن يلتفت إليه، وأن يطلبه، وأن يحرص عليه، ونحو ذلك.
وفي رواية: يتقي الله، ويدع الناس من شره. متفق عليه.
قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، يعني يجاهد الكفار بماله ونفسه، قال: ثم من؟: قال: ثم رجل معتزل في شِعب من الشِّعاب يعبد ربه[1]، وهذا هو الشاهد معتزل في شعب من الشعاب، وهذا بظاهره يدل على فضل العزلة، ولكن يُجمع هذا مع النصوص الأخرى، كقوله ﷺ: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم[2]، فمثل هذا يحمل على أحوال معينة عند فساد الزمان، أو وقوع الفتن، أو نحو ذلك.
والشِّعب هو: الطريق في الجبل، ومسيل الماء ونحو ذلك، يعني: المكان الذي يوجد فيه أثر المطر من العُشب ونحو هذا.
وفي رواية: يتقي الله ويَدعُ الناسَ من شره[3]، متفق عليه.
وقع ذلك بعد وفاة النبي ﷺ، وبعد أن قتل عثمان وقعت الفتنة، فاعتزل جماعة من الصحابة .
قوله: يوشك يدل على القرب، والمقصود بشَعَف الجبال: أعالي الجبال، ومواقع القطر حيث يظهر أثره من الكلأ، مواضع الكلأ فالمطر إذا نزل بأرض أنبتت، يفر بدينه من الفتن، رواه البخاري.
علاقة هذا الحديث بموضوع العزلة:
لما ذكر حديث: يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم ما ذكر وهو الغنم، كأنه أراد أن يقول: إن ذلك لا يعيبه، ولا يكون ذلك نقصاً في مرتبته فجاء بهذا الحديث.
قوله: قراريط بعضهم قال: قراريط المقصود به مكان في مكة ترعى به دوابهم، وهذا وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه مُستبعد، والمتبادر إلى الذهن أن القراريط هي من المال، ولهذا قال بعضهم: إنها من الدينار، أو الدرهم.
والحكمة في رعي الأنبياء -عليهم السلام- للغنم ذكرها أهل العلم فقالوا: إن ذلك يكون دُربة له على سياسة أمور الناس، ولمِّ شعثهم، والرفق بهم؛ وذلك أن الغنم تحتاج إلى مراعاة الضعيفة منها، وإلى لمِّ شعثها، والنظر في مصالحها وما إلى ذلك، فيسوسها، والغنم أسهل انقيادًا من الإبل كما هو معلوم، وتورث صاحبها طبيعة من اللين لا توجد عند رعاة الإبل، فإن النبي ﷺ ذكر أن الجفاء والرعونة في الفدّادين من رعاة الإبل من ربيعة ومضر[6]، فما يخالطه الإنسان ويزاوله من الصنائع، وما يخالطه من الدواب ونحو ذلك يؤثر في طبيعته وشخصيته وهيئته وسمته ونحو ذلك؛ ولهذا النبي ﷺ قال: إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم بأذناب البقر -كناية عن الحرث،ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم[7].
وكذلك لما دخل بعض الصحابة بيتاً فرأى فيه المحراث، قال: "ما دخل هذا بيتاً إلا دخله الذل"[8].
بمعنى أن أهل الزرع فيهم من المسكنة والضعف والمسالمة والخنوع ما لا يوجد عند أهل الفروسية، ويوجد ذلك عند أهل البقر، وأهل الغنم فيهم السكينة كما أخبر النبي ﷺ، وأهل الإبل فيهم الغلظة والجفاء؛ لأنهم يكتسبون ذلك من طبعها، وأهل الفروسية فيهم من العزة والنخوة ما لا يوجد عند أهل الزرع مثلاً.
مِن خير معاش الناس لهم رجلٌ ممسكٌ عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، يعني أنه يركب فرسه، كلما سمع هَيْعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل، بمعنى أنه يطير يعني يسرع على ظهر هذا الفرس، والهيعة هي الصوت للحرب وهكذا الفزعة، كلما سمع هَيْعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانَّه، يعني حيث يُظن الموت، وقال: أو رجل في غُنيمة في رأس شَعَفة من هذه الشَّعف، يعني أعالي الجبال، أو بطن وادٍ من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين -يعني الموت، ليس من الناس إلا في خير[1]، رواه مسلم.
بمعنى أنه يدع الفتن، وما يوقع فيها، ويكف شره عن الناس، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط، برقم (1889).