الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فبعد أن أورد المصنف -رحمه الله- باب "العزلة" أعقبه بباب "فضل الاختلاط بالناس، وحضور جمعهم وجماعاتهم، ومشاهد الخير، ومجالس الذكر معهم، وعيادة مريضهم، وحضور جنائزهم، ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم وغير ذلك من مصالحهم لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقمع نفسه عن الإيذاء، وصبر على الأذى"، وما ورد من النصوص في فضل العزلة ليس على إطلاقه، وإنما ينزل على أحوال معينة تتعلق بالأحوال والأشخاص، وهذا الباب يُبين ذلك.
يقول المصنف -رحمه الله: "اعلم أن الاختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته هو المختار" يعني: بهذا القيد، إذا كان يحصل به هذه المصالح مع قدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقمع النفس عن الإيذاء، والصبر على الأذى، إذا حصل هذا فالاختلاط بالناس يقول: "على الوجه الذي ذكرته هو المختار" يعني: هو الأرجح، "الذي كان عليه رسول الله ﷺ وسائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم، وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين، وأخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأحمد، وأكثر الفقهاء ، قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، والآيات في معنى ما ذكرته كثيرة معلومة"[1]، ولا شك أن هذا هو المختار، وأنه هو الجادة وهو الأصل وإلا لما وصل هذا الدين إلينا أصلاً، الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يبعثون إلى أقوامهم، فيدعونهم إلى الله، ويأمرونهم بالتوحيد، وينهونهم عن الشرك، والمنكر ويصبرون على أذاهم، وهكذا أتباع الرسل، والله يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، وقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وقدّم ذلك على الإيمان بالله هنا؛ لأنه من أخص خصائص هذه الأمة، فالإيمان بالله تشترك فيه هذه الأمة مع غيرها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان موجوداً في الأمم التي قبلنا كما قال الله -تبارك وتعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:113-114]، فجعل ذلك بعد الإيمان بالنسبة إليهم، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وفي هذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فأخر الإيمان، فأخذ من ذلك بعض أهل العلم أن هذه الأمة تتميز في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تميزاً لا تضاهيها فيه أمة من الأمم، فهو سمة بارزة فيها، فإذا كان الإنسان معتزلاً لا يخالط الناس فمن يأمر ومن ينهى؟، وكيف تكون الدعوة إلى الله؟، بل كيف تقوم سوق الجهاد؟ والله -تبارك وتعالى- يقول: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، ويقول: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [التوبة:39]، ويقول: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، إلى غير ذلك من النصوص، فلا يقوم أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ولا جهاد في سبيل الله إذا كان الناس قد آثروا العزلة، وهكذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وبعض أصحاب السنن: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن -أو أفضل من المؤمن- الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم[2]، وقد ذكرته في الباب الذي قبله.
فهنا ذكر المصنف -رحمه الله- قوله -تبارك وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، والمقصود بذلك أنه لا يحصل التعاون على البر والتقوى إذا آثر الناس العزلة، وبقي كل واحد في شِعب من الشِّعاب يعبد الله -تبارك وتعالى، لكن إذا كان هذا الإنسان في وقت فتنة فهذا حسب التفصيل الذي ذكرته سابقاً، فإن كان لم يتميز له الحق فيجب عليه أن يعتزل، وإذا كانت الفتنة عامة، وقد ركب فيها الناس أهواءهم ولا يستجيبون إليه ولا يقبلون منه ووجوده فيها لا يؤثر، يعني: وجوده في الناس لا يؤثر تأثيراً إيجابيًّا فالعزلة أفضل؛ لأن الفتن خطافة، ومن استشرف إليها فإنها تستشرفه، وأما إذا كان هذا الإنسان يستطيع أن يخالط الناس في فتنة عَرف فيها الحق، ويسمعون ويستجيبون له فينهاهم عن ذلك، أو كان في غير وقت فتنة فيدعوهم إلى الله، ويعلمهم الخير أو نحو هذا فلا شك أن هذا أفضل، كما هو في وقتنا الآن، فالخلطة لمن يصبر على الأذى، وينتفع الناس به أفضل، بل حتى لو كان الناس لا ينتفعون به، إذا كان يستطيع أن يكف شره عنهم فإن الخلطة أفضل، يحضر الجُمع والجماعات، ومجالس الذكر، ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله..[3]، ولهذا نهى النبي ﷺ عن التعرّب بعد الهجرة، والسبب في ذلك كما قال الله -تبارك وتعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97]، مع أنه قال بعده: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [التوبة:99]، فالمقصود أن نفاق الأعراب وكفر الأعراب كان أشد؛ لما يوجد فيهم من الغلظة، والفظاظة، والرعونة، فإذا وُجد معه جهل ونفاق أو كفر فإن ذلك يكون مضاعفاً، يكون أشد كفرًا ونفاقًا من أهل الحواضر والقُرى، ولهذا قال: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، مع أنه قال بعد ذلك: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ [التوبة:101]، فيوجد من هؤلاء وهؤلاء، ولكن إذا وُجد مع النفاق صلف، وجهل، ورعونة وجفاء فإن ذلك يكون أشد، والمقصود أن التعرّب مظنة للجهل، ومظنة للجفاء؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لا تَغلبنَّكم الأَعرابُ على اسْمِ صَلاَتِكُم[4]، يعني: على اسمها، صلاة العشاء يسمونها بالعتمة، فهذا في ضمنه النهي عن التشبه بهم؛ لما في ذلك من الجفاء وما شابهه.
فالمقصود أن الخُلطة أفضل لمن يستطيع أن يكف شره، فإنه ينتفع بذلك، ولهذا يقال لهؤلاء الشباب الذين لربما الواحد منهم تزين له نفسه أن يعتزل، وأن يترك ما هو فيه من خير، وأعمال طيبة، ونفع وأمر بمعروف ودعوة إلى الله ، بزعم أنه يريد أن ينفرد فيطلب العلم، ويشتغل بالعبادة ونحو ذلك، الواقع المشاهد أن ذلك مع حداثة السن، وكثرة الفتن في داخل البيوت في هذا العصر، بما لا يعلمه إلا الله، ولا يطلع إلا الله، أن ذلك يكون غالباً سبباً للانتكاسة، والضعف والتلاشي، فالقوة الكامنة في نفوس الشباب من الشهوات، والغرائز وما شابه هذه تحتاج إلى أن تفرغ في أعمال، وخلطة، لابد للإنسان من خلطة، لابد له من صحبة، فتُفرغ هذه الطاقة، ويبقى هناك شيء من التواصل والتواصي، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، بخلاف رجل قد تقدمت به السن واستقر عقله، ونضج، فإن رأى أنه لا يستطيع أن يكف شره وأذاه عن الناس، ولا يستطيع أن يعبد ربه كما ينبغي إلا بالعزلة فإن العزلة في حقه تكون أفضل، فالمقصود بهذا أنه لا يقال: الخلطة أفضل بإطلاق، ولا العزلة أفضل بإطلاق، وإنما ذلك يتفاوت إلا إذا كانت الفتنة فتنة عامة عمياء، فعند ذلك، وكما هو في آخر الزمان الفتن التي ذكرها النبي ﷺ، والله أعلم.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
- رياض الصالحين، للإمام النووي (ص: 210)، ط الرسالة.
- أخرجه الترمذي، في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2507)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم (4032)، وأحمد في المسند، برقم (5022)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6651).
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2699).
- أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من كره أن يقال للمغرب: العشاء، برقم (563)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، برقم (644).