الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما ورد عن السلف في باب "فضل الاختلاط بالناس وحضور جمعهم وجماعاتهم" ما جاء عن يونس الصدفي قال: "قال لي الشافعي: ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر الذي فيه صلاحك فالزمه"[1]، بمعنى أن رضاء الناس لا يمكن أن يتحقق، وإنما ينظر الإنسان فيما يصلحه، وينفعه مع مداراة حسنة للناس، ولا يكون وجهته وعمله وسعيه وبذله في سبيل طلب مرضاتهم.
رضاء الناس لا يمكن أن يتحقق، وإنما ينظر الإنسان فيما يصلحه، وينفعه مع مداراة حسنة للناس، ولا يكون وجهته وعمله وسعيه وبذله في سبيل طلب مرضاتهم.
وقال الشافعي -رحمه الله- ليونس الصدفي: "الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط"[2].
وكان يقول أيضاً ليونس: "رضاء الناس غاية لا تدرك، وليس إلى السلامة منهم سبيل، فعليك بما ينفعك فالزمه"[3].
وجاء عن المأمون أنه قال: "الناس ثلاثة: رجل منهم مثل الغذاء لابد منه -وهذا الذي ينتفع منه في دينه تتعلم وما أشبه ذلك، إذا رآه ذكر الله ، ومنهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض -فيرجع إليه ويشكو ما به، ونحو ذلك، مشكلة يرجع فيها إلى إنسان يجد عنده الحل والمساعدة، ومنهم كالداء مكروه على كل حال"[4]، يعني إذا خالطته لا تنتفع في دين ولا دنيا، وإنما تجد الضرر المحض، فمثل هذا لا خير في صحبته، الذي لا تنتفع من مصاحبته ومجالسته لا بعلم ولا عمل، ولا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة، فما الفائدة من مجالسته؟، إنما هو ضياع الأوقات في أقل الأحوال، وإلا فالغالب أن الإنسان لا يسلم، ومن لم يكن في زيادة فهو حتماً إلى نقصان، ومن استوى يوماه فهو مغبون.
ومن الناس من يُحتاج إلى مجالسته من أجل إجمام النفس، ولكن يكون ذلك بقدر، فإذا جلس معه الإنسان لربما استروح بعض الشيء، ومن الناس من يحتاج إلى مجالسته لإصلاح أمر دنياه، لكن لا تكون علائق الناس بهذا الاعتبار.
يقول أبو إسحاق الشيرازي:
سألتُ الناسَ عن خلٍّ وفيٍّ | فقالوا: ما إلى هذا سبيلُ |
تَمسّكْ إنْ ظفرتَ بوُدِّ حُرٍّ | فإنّ الحرَّ في الدنيا قليلُ[5] |
هذه هي الآثار المنقولة في هذا الباب، والعاقل هو الذي ينظر في الأمور بالتوسط والاعتدال، إساءة الظن بالناس كما في بعض هذه الأبيات، -وقد تركتُ أشياء أخرى من الآثار المنقولة، إساءة الظن بالناس، وذم الناس ووصفهم بالعيب هذا أمر لا يحسن، وهكذا إحسان الظن المطلق بمن يصلح، ومن لا يصلح، فإن هذا يجر على الإنسان ويلات في دنياه وفي آخرته، وكثير من الناس قد يكون فيه خير ودين، ولكنه لو عاملته وسافرت معه عاملته بالدينار والدرهم لرأيت انفصاماً وتغيراً بين ما هو عليه من ديانة واستقامة في الظاهر وبين حاله في معاملاته المالية، لا ذمة، ولا وفاء، ومن الناس من لا تسلم من شره بسبب آفات نفسية كالحسد مثلاً، فنفسه تتحرك عند رؤية الكمالات، مثل هذا لا خير في مصاحبته، ولو كان فيه صلاح ودين.
فينبغي للإنسان أن يجعل خاصته -وهم الأفراد- قلائل وهم من تتوفر فيهم الأوصاف الكاملة قدر الإمكان، من العلم، والدين، وكمال المروءة والأخلاق، فإذا وجد من هؤلاء فيكون هم في الدائرة الأولى، هم الذين يراهم صباح مساء، إذا رآهم ذكر الله ، وإذا غاب لا يذكرونه إلا بخير، وفي الدائرة الثانية من يشترك معهم في عمل، أو يربطه معهم رابط عمل أو دراسة أو نحو ذلك، فهؤلاء يؤدي حقوقهم كما قال الله : وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36]، وهو الصاحب في العمل، الرفيق في السفر، له حقوق أكثر من غيره، والدائرة الثالثة هم عموم المعارف، فهؤلاء يؤدي لهم الحقوق العامة، حقوق المسلمين، وقد يتغير من في الدائرة الأولى، أو يظن في أحد أمراً ثم يكتشف أنه ليس كذلك، فيبعده إلى الدائرة التي تليق به، رقم اثنين أو الدائرة الثالثة، فالإنسان ينتفع بالصحبة والمخالطة، فلا يجعل الناس على وتيرة واحدة، ولا يسمح لأحد بأن يفرض عليه صداقة، وصحبة، ومخالطة وهو لا يرتضي حاله، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
وصلى الله على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه وسلم.
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 412)، وسير أعلام النبلاء (8/ 251).
- سير أعلام النبلاء (8/ 275).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (8/ 380).
- انظر: البداية والنهاية (12/ 125)، وطبقات الفقهاء (ص:17)، ووفيات الأعيان (1/ 29)، وسير أعلام النبلاء (14/ 13).