الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "التواضع وخفض الجناح للمؤمنين" أورد المصنف -رحمه الله-:
الصحابة كانوا يرقبون سلوكه وعمله وهديه الظاهر، في حال مخالطتهم وبروزه إليهم ﷺ، ولكنه إذا كان في بيته فإنما يؤخذ ذلك عمن؟ عن أزواجه -ن وأرضاهن.
إن الكثيرين -أيها الأحبة- من أهل الصلف والكبر والترفع والتعاظم لربما إذا دخل في بيته يكون في حال لا يستطيع أحد أن يرد عليه مقالاً، أو أن يتكلم معه، أو أن يحاوره، بل لا يستطيع أحد أن يسأله، وكم سمعنا من النماذج والأمثلة التي يعجب الإنسان كيف يكون الإنسان مع كثرة المخالطة والملابسة، بحيث يصير إلى هذه الحال، مع امرأته، ومع أولاده، لا يستطيع أحد أن يكلمه بشيء، ولا أن يقترح عليه شيئاً ولا أن يراجعه في أمر، أو قرار، أو نحو ذلك، فوضع لنفسه من المهابة والعظمة، حتى صار بهذه المنزلة في بيته، فهذا هل يمكن أن يقدم على أمر كهذا، وهو القيام في مهنة أهله؟ هذا لا يمكن؛ لأنه يترفع عما هو أدنى منه، وهو المراجعة، والمحاورة، فكيف بالعمل في مهنة الأهل؟!.
تقول عائشة: "كان يكون في مهنة أهله"، يعني: في خدمة أهله، بمعنى: أنه يرقع ثوبه ويفليه، ولربما قد يغسله، أو يحك ما يحتاج إلى حك، أو نحو ذلك، يخصف نعله، ويصلحها، كل هذه الأمور.
قالت: "فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة"، بمعنى: أن هذه الأمور لا تشغله عما هو أعظم منها، وهو الصلاة، فإذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر من الزوجة، ومن الأولاد، وأكبر مما في يدك مما تشتغل به، وتذكّر هذه الكلمة فإنها من أعون ما يسعفك ويحملك على المبادرة للخروج إلى المسجد، لا تبقى في بيتك وأنت تسمع الله أكبر؛ لأن ذلك يدل على أن الله أكبر من كل شيء أنت مشتغل به، من المكالمة، من الاشتغال بجهاز، أو غير ذلك، مما يجلس عليه الإنسان لربما في شبكة المعلومات أو غير هذا، فتضيع عليه الصلوات، وتقام الصلاة، وكثير من الناس قد لا يخرج إلى الصلاة إلا إذا سمع الإقامة.
والناس في هذا مراتب: منهم من قد يفرح أنه صلى في الوقت، ومنهم من قد يفرح إذا أدرك شيئا مع الإمام ولو التشهد الأخير، ومنهم من يرى أن من الغبطة العظيمة أنه أدرك ركعة ليكون مدركاً للجماعة، ومنهم من يُعزَّى إذا فاتته تكبيرة الإحرام، ومنهم من يشعر بالخطأ والتقصير إذا أذن المؤذن وهو ليس في المسجد.
وقد ذكرت في بعض المناسبات أحوالا لكثير من السلف فهذا تميم الداري يقول: "منذ أسلمت ما أذن المؤذن إلا وأنا في المسجد، وما دخل وقت صلاة إلا وقد تهيأت لها".
وسعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام، منذ خمسين سنة ما نظرت إلى قفا مصلي.
معناه: أنه في الصف الأول، فالناس على درجات ومراتب، وهكذا يكون الناس في الآخرة، ويتفاضلون بحسب أعمالهم، ومقاصدهم، ونياتهم، وصلاح أحوالهم وقلوبهم وأعمالهم.
قالت: "يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة"، خرج إليها لا يشغله عنها شيء، والواحد منا لربما يشتغل بشيء تافه يستحي من ذكره أحياناً، ويشغله ذلك عن الصلاة، فتُقام ويفرغ الناس من الصلاة، وهو لا زال يشتغل بهذه الأمور التافهة، وما ذلك إلا لتدني حظ الصلاة ومنزلة الصلاة في نفسه، وإلا لم يقدّم عليها هذه الدوافع، لو كان لها شأن عظيم لما قدم عليها هذه الأمور الحقيرة.
ثم أيضاً القيام والعمل بخدمة الأهل -أيها الأحبة- هذا هديه ﷺ وهديه هو الأكمل، وهو أكمل الناس رجولة، ومروءة، وكثير من الناس تأبى عليهم نفوسهم هذا، حيث يرون أن من قلة المروءة ومن ضعف الرجولة أن الرجل يشتغل بشيء في مهنة أهله، لو أنه غسل شيئاً من الأواني -مثلاً- أو كنس شيئاً من الدار، أو نحو ذلك، لربما يُلمز ويُعاب ممن حوله من والد، أو أخ، أو نحو ذلك، يرون أن هذا خلاف الرجولة، وأنه قد تحول إلى امرأة، أو إلى خادم لامرأته، أو نحو هذا.
النبي ﷺ هذه حاله، ولنا نماذج كثيرة من الصحابة فمن بعده إلى عصرنا هذا، الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- سئلت امرأته: ماذا كان يصنع في البيت؟ فذكرت نحو هذا، يجصص بيوت الطين -في السابق، يجصص أشياء، ويصلح في البيت، أو نحو هذا، فهؤلاء أناس عندهم من الكمالات ما ليس عند الكثيرين منا، ومع ذلك ما كانوا يأنفون، وكان ذلك يُذكر على أنه من شمائلهم وكمالاتهم، وأوصافهم التي تعطر بها المجالس.
الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يقول أهله والذين خالطوه: إذا جاء فتح البشت -ما عنده إلا بشت واحد، ويدخل فيه الصغار في الشارع، ويضمهم إليه، ويلاعبهم ويداعبهم، إذا جاء من الصلاة، وإذا كان في طريقه إلى الصلاة في ذهابه، ورآهم يلعبون، جلس يداعبهم وكذا، ثم بعد ذلك يقول: دعونا نذهب فنصلي، وبعد ذلك نجيء ونكمل، فيحبه الصغار والكبار، ويفقده أهله أحياناً لا يدرون أين هو، ويبحثون عنه في كل مكان، ثم يكتشفون أنه في السطح قد دعاه الصغار من أبنائه وقراباته، عندهم زواج غير حقيقي، زواج تمرات وكذا، وهو المدعو، فيجلس معهم، ويباسطهم، ويأكل معهم تمرة، هذا لا يكون لأهل الكبر إطلاقاً، وغير هؤلاء كثير.
لو أراد الإنسان أن يُطبق ذلك عمليًّا، ويرجع إلى نفسه يقول: الآن هل يمكن أن أدخل في المطبخ، وأنظف، وأغسل، أو أكنس، في الدار أو نحو هذا؟ كثير من الناس هو بمعزل عن التطبيق، حينما يسمع هذه الأشياء النظرية قد يأنس بها، ولكن إذا أراد أن يرجع إلى النفس، فإن ذلك يكون في غاية المشقة، والسبب هو ما عند الإنسان أحياناً من خلفية التربية والثقافة، والقياس، والنظر في الأمور وتقييمها.
أبي رفاعة تميم بن أُسيد وبعضهم يقول: ابن أسد وهو الذي -كما ذكر الحافظ في الإصابة -رحمه الله- ولاه النبي ﷺ أو كلفه بتجديد حدود الحرم، النُّصوب التي توضع لتكون علامات على حدود الحرم، ولا زالت تجدد حيناً بعد حين عبر العصور، إلى يومنا هذا.
يقول: "انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، يقول: فأقبل عليّ رسول الله ﷺ وترك خطبته حتى انتهى إليّ"، يعني: نزل من المنبر، وجاء حتى وصل إلى الرجل هذا.
يقول: "فأُتي بكرسي، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله"، علمه يعني الإيمان، والإسلام كيف يصلي، كيف يتطهر، قال: "ثم أتى خطبته، فأتم آخرها"، رواه مسلم.
المتبادر: هذا رجل والنبي ﷺ يخطب يقول: علمني، فيقول النبي ﷺ انتظر إلى نهاية الخطبة، ثم بعد ذلك أعلمك، وأنا الآن بصدد تعليم الناس، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
لكن هذا الرجل يقول: "رجل غريب، جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه"، يعني: معناه أن هذا الرجل قد يموت الآن وهو لا يدري ما دينه، ولهذا ذكر بعض أهل العلم الإجماع على أن من جاء يسأل عن الدين، لا يدري ما هو، يعني: يريد أن يعرف الإسلام ما هو حتى يدخل فيه مثلاً، فإنه يجب أن يُعلم فوراً، لا يؤخر، ويتحمل التبعة من أخر ذلك، لو حصل لهذا الإنسان شيء، بل كيف يقضي هذا الإنسان وقتاً وهو على غير الإيمان، ويكون ذلك بسبب تأخير هذا، سأل فأنظره وأمهله.
وقد سمعت في بعض السنوات الماضية أن رجلاً في بعض البلاد الغربية من الأمريكان السود، جاء إلى مركز إسلامي، فوجد مدير المركز، أو رئيس المركز، أو المسئول، يهم بالدخول إلى المسجد في وقت صلاة المغرب، فاستوقفه، وقال: أريد أن أدخل في الإسلام، فقال له: تأتينا غداً إن شاء الله، قد يكون هذا الإنسان مشغولا، أو غير ذلك، تأتينا غداً إن شاء الله، يقولون: فالرجل رجع ليقطع الشارع، فجاءت سيارة وصدمته، وكانت نهايته، مات على غير الإسلام، من الذي يتحمل هذا؟ الذي يتحمل هذا هو الذي قال له: تأتينا غداً، هذه القضية ما تحتمل التأخير إلى الغد، هذه فيها بقاء هذا الإنسان في النعيم السرمدي، أو العذاب السرمدي، فيجب أن يُعلَّم.
ثم قضية تعليم الإسلام مهما كان عند الإنسان من شغل ماذا تحتاج من وقت وجهد؟ قل: لا إله إلا الله، فإذا قال: لا إله إلا الله، يكون قد دخل في الإسلام.
النبي ﷺ قطع الخطبة، وجاء إلى هذا الرجل، وأقبل عليه، ونزل من المنبر، وجلس ليعلمه الإسلام، من يفعل هذا؟.
اليوم لو جاء أحد دخل المسجد من هؤلاء الذين يُسْلمون، أو يدخلون في الإسلام، أو جاهز يريد الدخول علمه بعض أهل الجاليات، أو نحو ذلك، لكن لم يدخل في الإسلام، وجاء وقال للخطيب يوم الجمعة: علمني الإسلام أريد أن أسلم، ماذا سيقول له الخطيب، أيّ خطيب؟، يقول: انتظر بارك الله فيك بعد الخطبة، لكن الصحيح أن يقطع الخطبة، ويقول له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيُسلم؛ لأنه قد يموت، وأي ذنب أعظم من الكفر بالله حتى نمهله، فيبقى على الكفر لمدة دقائق أو ساعات، ونكون نحن الذين نتسبب في ذلك؟.
هناك أشياء كثيرة نحن بمنأى عنها من الناحية العملية، يعني: قد نسمع الحديث، ولكن من الناحية التطبيقية لو أحد فعله لاستغرب الناس، وذهبوا يتحدثون بعد صلاة الجمعة عن هذا الخطيب الذي لم يتصوروا فعله، ولم يتقبلوا صنيعه.
نزول النبي ﷺ لما أقبل الحسن، والحسين -ا، عليهما قميصان أحمران يعثران، ويقومان، فنزل فأخذهما، فصعد بهما المنبر، ثم قال: صدق الله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة [التغابن:15]، رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في الخطبة[2].
لو أحد الخطباء جاء ولده -أو ابنته- في المسجد يمشي ويقع، ونزل من المنبر، وحمله معه على المنبر، ماذا سيصنع الناس به؟.
الحليم هو الذي سينتظر إلى يوم السبت، حتى يذهب إلى الأوقاف أو الإمارة، هذا الحليم، لكن أظن أن أكثر الناس لن ينتظر إلى يوم السبت، أمّا حديثهم على الغداء يوم الجمعة فهو عن هذا الخطيب، أليس كذلك؟!.
بماذا نفسر فعل النبي ﷺ؟، فمقياس الأخلاق ومقياس هذه الأعمال والأمور التي توزن بها أفعال الناس هو فعل النبي ﷺ فهو الكمال من كل وجه، لما كان يصلي وأُمامة بنت ابنته زينب يحملها إذا قام، وإذا سجد أو ركع وضعها، لو إمام يفعل هذا معه بنت، أو جاءته ابنته، وجلس يحملها إذا قام وإذا قعد، ماذا سيصنع به طلاب العلم فضلاً عن غيرهم، فضلاً عن العامة؟!.
فقد سمعت أحد الشيوخ مرة -والناس يعتبرونه من الفقهاء- يتكلم بأعلى صوته في المسجد، جنبوا صبيانكم ومجانينكم المساجد، والحديث لا أصل له، وهو يعلم الأحاديث الواردة في هذا، كحديث أمامة[3]، ونزول النبي ﷺ من المنبر للحسن أو الحسين، والمرأة التي سمع النبي ﷺ بكاء صبيها فأوجز في صلاته ﷺ لما يعلم من اشتغال قلب أمه به[4].
كل هذه الأشياء يعلمها ﷺ ويراعيها، فمعنى ذلك أنهم يأتون إلى المساجد، لكن الكثير من الناس لا يحتمل فيتصرف تصرفات غير لائقة، فلربما ضربهم، أو تكلم بكلام يُحرج على ذويهم بأعيانهم وأشخاصهم، يعني: وجَّهَ الخطاب مباشرة لهذا الشخص، لماذا تأتي به؟ لماذا تفعل؟.
والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، باب حديث التعليم في الخطبة (2/ 597)، رقم: (876).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث (1/ 290)، رقم: (1109)، والترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ (5/ 658)، رقم: (3774).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة (1/ 109)، رقم: (516)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة (1/ 385)، رقم: (543).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي (1/ 143)، رقم: (710)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (1/ 342)، رقم: (470).