الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء عن السلف في باب "التواضع" ما جاء في صفة الإمام أحمد -رحمه الله- عن المروذي، قال: لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد، كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر[1]. بمعنى أنه يصلي في أي مكان تهيأ.
ورآه بعض أصحابه وقد قال له رجل خرساني حينما دخل عليه: الحمد لله الذي رأيتُك.
فقال أحمد: اقعد، أي شيء ذا؟ من أنا؟.
وقال بعضهم: رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله، وقد أثنى عليه شخص، وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، قال: بل جزى الإسلام عني خيرًا، من أنا؟ وما أنا؟[2].
قال للمروذي: قل لعبد الوهاب: أخمِلْ ذكرك فإني أنا قد بليت بالشهرة[3]. أخمِلْ ذكرك بمعنى اتقِ الشهرة.
ويقول محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد.
يقول الذهبي: إيثار الخمول والتواضع -الخمول المقصود به خلاف الشهرة- وكثرة الوجل من علامات التقوى والفلاح[4].
ويقول أحمد بن الحسن الترمذي: رأيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يشتري الخبز من السوق، ويحمله في الزّنبيل، ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة، ويجعله في خرقة، فيحمله آخذًا بيد عبد الله ابنه[5].
بمعنى أنه هو الذي يذهب ويشتري الخبز والباقلاء، وما شابه ذلك، وهذا إنما يفعله المتواضعون.
وكان الوزير ابن الفرات يمنع الناس من المشي بين يديه[6].
ومن الأمثلة على التواضع: أن ابن الأنباري -رحمه الله- الإمام اللغوي المعروف، وقد عرف بالزهد، والتواضع، يقول الدارقطني: إنه حضره فصَحّف في اسم، يعني: ابن الأنباري حصل له تصحيف -غلط- في اسم رجل حينما ذكره في مجلس العلم.
يقول الدارقطني: فأعظمت أن يُحمل عنه وهمٌ.
يعني الآن كلام ابن الأنباري، ابن الأنباري إمام، والناس سيضبطون هذا عنه، وينقلونه.
يقول: وهِبتُه، فعرّفتُ مستمليه.
المستملي هو: رجل يبلغ الناس، أو يوصل كلامه للناس؛ لكثرة الحضور في مجالس هؤلاء الأئمة.
فلما حضرت الجمعة الأخرى، قال ابن الأنباري لمستمليه: عرِّف الجماعة أنا صحفنا الاسم الفلاني ونبهَنا عليه ذلك الشابُّ على الصواب[7].
يعني: ما استنكف أنه صحّف، مع أنه إمام كبير، محقق، بل نبه الناس، ونبههم أنه قد عرّفه بذلك شاب، يعني: ليس بعالم مشهور كبير في السن، وإنما هو شاب في مقتبل العمر، هذا في غاية التواضع، والنفس تأبى هذا إلا إذا رُوضت ترويضًا شديداً.
وقد ذكرت في بعض المناسبات كلاماً للشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله- في كتابه "التنكيل" ذكره في القسم المعروف بـ"القائد إلى تصحيح العقائد"، ذكر مدخلاً دقيقا للهوى في هذا الأمر، وخلاصته يقول: إن الإنسان أحياناً يقرر مسألة، ويحبرها تقريراً يعجبه، يعني: يرى أنه قد أحسن في تقريرها فينقدح في نفسه قادح، يعني: يقدح في هذا التقرير إيراد على هذا الاستدلال أو التقرير، يقول: فيضيق بذلك ويزعجه، يقول: فكيف لو كان هذا الإيراد جاء من شخص آخر؟! وكيف لو كان هذا الإيراد جاء وقد أعلن هذا الإنسان هذه المسألة للناس؟! يعني: الآن بينه وبين نفسه مجرد إيراد يتأذى به، فكيف لو كان أعلنها؟ فكيف لو جاء الإيراد من إنسان آخر؟ فكيف لو كان هذا الإيراد من إنسان يكرهه فقال له: أنت أخطأت في المسألة الفلانية؟. فهذه أمور يصعب التحرز منها، لكن النفس تحتاج إلى مجاهدة.
وجاء في وصف الوزير علي بن عيسى أنه كان متواضعاً، وقال: ما لبست ثوباً بأزيد من سبعة دنانير[8].
ويقول أبو منصور: كتبوا مرة لعمي أحمد بن الحسين بن خيرون الحافظ، يعني قالوا: فلان بن فلان الحافظ، أضافوا كلمة الحافظ، يعني: حافظ السنة، فغضب وضرب عليه، يعني: شطب عليه بالقلم، وقال: قرأنا حتى يُكتب لي الحافظ؟[9]
فهذا إمام وعالم، ويغضب حينما قيل له: الحافظ، واليوم تجد لربما يقال لبعض طلبة العلم: محدث، علامة، وهذه مشكلة.
قد يكون هذا الإنسان لا يقصد هذا، ولا يطلبه، ولكن قد يسيء إليه بعض التلامذة، وبعض المريدين من الشباب الصغار الذين إن جاراهم في ذلك فإنه يضره، ويكون ذلك شينًا في حقه، والناس قد لا يدركون، أو لا يعلمون، أو يشعرون أن الذي فعل ذلك هم أولئك التلاميذ، فكان المتعين أن ينهاهم عن هذا، وأن يعلمهم كيف يكون التوقي من هذه الأمور، فلا ينسبون إليه أمراً لا يصلح له، أو أن ذلك يشنؤه عند الناس، ولربما تحركت نفوسهم، وهذه مشكلة أيضاً أخرى.
السيوطي -رحمه الله- قال عن نفسه: إنه مجتهد في سبعة فنون -سبعة علوم، بلغ فيها رتبة الاجتهاد، فلما قال هذا تحركت نفوس علماء عصره، وناصبه بعضهم العداوة، ووقعت بينه وبينهم ردود، وأمور كثيرة جدًّا.
فالعاقل لا يُظهر عقله للناس، كما قال أهل العلم، تجدون هذا في مثل كتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للبستي، والناس سيدركون هذا، ولابد، أمّا أن يأتي إنسان، ويقول لهم: أنا كذا، وأنا كذا، ويعطيهم من عقله، ومن فطنته، ومن ذكائه، ودهائه، لا.
ليس الغبيُّ بسيدٍ في قومه | لكنّ سيد قومه المتغابي |
ولهذا كان بعض أهل العلم يحدث من الكتاب مما يكتبه حتى لا يظهر أمام الناس أنه حافظ، ويوجد من يسارع في مثل هذه الأمور، يعني: حينما تكتب أحياناً لبعض الطلاب، أو في الدرس، أو نحو ذلك حديثًا بالإسناد، لربما تأتي من الغد، أو من نفس الليلة، وتجد من يقول: إنك تحفظ الكتب الستة بالأسانيد مع ترجمة رجال كل إسناد، هذه عبارات رخيصة دائماً تقال بلا تورع، ولا روية، ويُكذَب للإنسان كثيراً، يسمع أشياء هي كذب تقال في مدحه، وثق تماماً أن هؤلاء الذين يمدحونك، ويرفعونك فوق مرتبتك بالكذب، أنهم بكل سهولة ينقلبون عليك، ويضيفون إليك أكاذيب ويرمونك بأمور أنت بريء منها، فالاتزان والعقل، مع تقوى الله هو الذي يعصم الإنسان من مثل هذه الأمور.
الأمثلة كثيرة، ويطول بذكرها المقام، لكن يكفي هذا -إن شاء الله، ومثل هذه الأمور نحن بحاجة إليها؛ لأن الغفلة غالبة، والنفس تواقة، والإنسان من طبعه أنه ظلوم جهول، ويحب الترفع، ويحب أن يذكر، وأن ينوه به، حتى الطفل الصغير الذي له أربع أو خمس أو ست سنوات، إذا مُدح انتشى وفرح، فهذه جبلّة في الإنسان، فينبغي للإنسان ألا ينساق خلف هذه الأمور، ويحب الذي يثني عليه ويصدقه، ويستجيب لمثل هذا الثناء ويطرب له، وهذا غلط، وإنما ينبغي على العبد أن يعرف نفسه معرفة حقيقية، ولا يغتر بكلام الناس، ويلزم طوره، لا يتعداه، ويعرف قدر نفسه، فلا يغتر، وهو أدرى بها وبضعفها وعجزها ونقصها، وهو أدرى بذنوبه.
وأما من خف عقله، أو استزله الشيطان، فإنه قد يصدق ما يقال له، ثم يصير ذلك عادة وسجية، فيبحث أو يتقرب من أولئك الذين يثنون عليه، وينفر غاية النفور ممن ينتقده، ثم بعد ذلك يعارك على الدنيا، وعلى مراتبها، ومباهجها، ومناصبها، ووظائفها، وما شابه ذلك، ويعارك على تحصيل الجاه والرفعة والمنزلة في قلوب الخلق، ولو كان لا يحمل شيئًا من المقومات، لا في العلم، ولا وفي العمل، وهذه مشكلة، وقد تكلمت على هذا المعنى بكلام فيه شيء من التفصيل عند الكلام على حديث: ما ذئبان جائعان...[10].
وأسال الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يعيننا وإياكم على نفوسنا، وعلى ذكره وشكره وحسن عبادته.
- سير أعلام النبلاء (11/ 218).
- المصدر السابق (11/ 225).
- المصدر السابق (11/ 226).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (11/ 310).
- المصدر السابق (14/ 477).
- المصدر السابق (15/ 277).
- المصدر السابق (15/ 300).
- المصدر السابق (19/ 107).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، (4/ 588)، رقم: (2376).