الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما ورد عن السلف في باب "تحريم الكبر والإعجاب":
أن معاوية دخل على عمر وعليه حلة خضراء فنظر إليها الصحابة، فوثب إليه عمر بالدِّرة، وجعل يقول -يعني معاوية: الله الله يا أمير المؤمنين، فيم فيم؟ يعني في أي شيء؟، فلم يكلمه حتى رجع، فقالوا: لم ضربته وما في قومك مثله؟ قال: ما رأيت وما بلغني إلا خيراً، ولكنه رأيتُه -وأشار بيده، يعني كأنه في هذه الحلة- فأحببت أن أضع منه"[1].
وهذا جبلة بن الأيهم ارتد عن الإسلام والتحق بالروم، وكان رجلاً مختالاً معجباً بنفسه، وكان يطوف بالكعبة فوطِئ رداءَه أعرابيٌّ -وكان يجر رداءه- فالتفت ولطم هذا الأعرابي، فاشتكى الأعرابي عند عمر ، فاقتص منه، وغضب وارتحل، ومات على الكفر[2].
وقيل لعلقمة النخعي: لو جلست فأقرأت الناس وحدثتهم، قال: "أكره أن يوطأ عقبي، وأن يقال: هذا علقمة"، فكان يكون في بيته يعلف غنمه ويقتّ لهم، وكان معه شيء يفرع بينهن إذا تناطحن، يعني الغنم، معه مثل العصا أو نحو ذلك، يفصل بين هذه البهائم إذا تناطحت[3].
وكان مسروق بن الأجدع -رحمه الله- يقول: "كفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله"[4].
ومن كلام الأحنف بن قيس -رحمه الله: "عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر"[5]، يعني في مخرجه من صلب أبيه، وكذلك في دخوله في الرحم، وفي خروجه من بطن أمه فهي ثلاث.
ويقول مطرِّف بن عبد الله العامري: "لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً"[6]. ويعلق على هذا الذهبي -رحمه الله- في السير فيقول: "لا أفلح والله من زكى نفسه أو أعجبته"[7].
وكان شهر بن حوشب يقول: "من ركب مشهوراً من الدواب، ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه وإن كان كريماً"[8]، الذهبي يعلق على هذا يقول: "من فعله ليعز الدين، ويرغم المنافقين، ويتواضع مع ذلك للمؤمنين، ويحمد رب العالمين فحسن، ومن فعله بزخاً وتيهاً وفخراً أذله الله وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر وادعى أنه ليس بمختال ولا تيّاه، فأعرِضْ عنه فإنه أحمق، مغرور بنفسه"[9].
هذا منحى -أعني ما ذكره الذهبي -رحمه الله- ذهب إليه بعض أهل العلم، أن من لبس الرفيع من الثياب، وركب الرفيع أو الفاخر من المراكب إعزازاً للدين وإظهاراً وإرغاماً للمنافقين فذلك حسن، هكذا ذهب بعض أهل العلم، وكان بعضهم يفعل ذلك، مثل ما نقل عن ابن الباقلاني -رحمه الله- أنه كان يلبس كذلك ويذكر هذا المعنى أنه يفعله إغاظة لأعداء الإسلام.
وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لما ولي الخلافة، وكان جامع دمشق قد زينت جدرانه وسواريه بالأحجار الكريمة والفُسيفساء ونحو ذلك، فأراد أن يخلع ذلك جميعاً، فقيل له: إن تجار المسلمين قد تعنّوا فيه وجلبوه من بلاد الروم، وبذلت فيه أموال طائلة، فأمر بتغطيته بالستور، بينما هم كذلك إذ جاء رجل من عظماء أهل الكتاب، من أهل دينهم، فنظر فلما رأى المسجد ورأى هذه الأشياء قال: لا يكون هذا إلا لدين عظيم، يعني بهره هذا البناء والمشهد، فقال: لا يكون هذا إلا لدين عظيم، فلما سمع بذلك عمر أمر بتركه، ورأى أن ذلك فيه غيظ لأعداء الله [10]، ومثل هذه الأمور ينظر فيها.
ويقول محمد بن علي -رحمه الله: "ما دخل قلبَ امرئ من الكبر شيء إلا نقص من عقله مقدار ذلك"[11]، وهذا صحيح، الإنسان حينما يتكبر فإن ذلك يكون نقصاً في عقله، فإن مقتضى العقل أن يتواضع الإنسان ولا يترفع، فهو يعدو طوره ويجاوز قدره، وينسى ربه.
يقول عمر بن عبد العزيز: "إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة"[12].
وقيل له: "لو أتيت المدينة فإنْ قضى الله موتاً دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله ﷺ، يعني في الحجرة، حجرة عائشة -ا، فقال: والله لَأَنْ يعذبني الله بغير النار أحب إليّ من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلاً"[13].
يقول: لَأَنْ أعذب بشيء غير النار أحب إلي من أن يطلع الله على قلبي فيكون فيه شيء من هذا أني أجد أني أهل لأن أدفن مع النبي ﷺ وأبي بكر وعمر في الحجرة الشريفة.
وكان بعض السلف يقول: "إذا رأيت الرجل لجوجاً مُمَارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته"[14].
ومن كلام عبيد الله بن أبي جعفر: "إذا كان المرء يحدث في مجلس فأعجبه الحديث فليمسك، وإذا كان ساكناً -يعني ساكتاً- فأعجبه السكوت فليتحدث"[15]، بمعنى أنه إن وجد شهوة للكلام فليمسك، وإن وجد في نفسه انصرافاً فليتكلم، يعني أن النفس لا حظّ لها في الكلام، هذا الذي يريده، ولكن ذلك ينضبط؛ فقد تتحرك نفسه للكلام لأنه رأى ما يوجب عليه الكلام من قيام لله بحق يبين فيه أمراً يجب بيانه، أو ينكر أمراً أو نحو ذلك، وأحياناً قد يسكت الإنسان ويؤثر السكوت، ويكون السكوت أفضل في حقه؛ لأنه يوجد من هو أعلم منه، أو لا حاجة لهذا الكلام أو غير ذلك، أو لا يجد له نية.
وكان في قميص أيوب السختياني بعض التذييل، أنه يقارب الكعبين -لا يزيد على الكعبين، فقيل له، فقال: "الشهرة اليوم في التشمير"[16]، والشاهد في ذلك أن أيوب السختياني مع جلالة قدرة وإمامته في العلم والعبادة كان يتحاشى أن يفعل شيئاً لم يكن معهوداً في زمانه، وهو تقصير الثوب تقصيراً كثيراً، فيشتهر بذلك، يعني إذا رآه الناس في الطريق أو نحو ذلك، فهذا ليس من معهودهم في اللباس، على إمامته.
وبكى ربيعة شيخ الإمام مالك يوماً فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "رياءٌ حاضر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كصبيان في حجور أمهاتهم، إن أمروهم ائتمروا، وإن نهوهم انتهوا"[17].
وقال ابن محيريز لبعض أصحابه: "إني أحدثكم فلا تقولوا: حدثنا ابن محيريز، إني أخشى أن يصرعني ذلك القول مصرعاً يسوءني"[18].
وقال: "اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً"[19]، يعني ألا يشتهر.
وكان يزيد بن المهلب ذا تِيه وكبر، رآه مطرِّف بن الشخِّير يسحب حلته، فقال له: "إن هذه المشية يبغضها الله، قال: أوَما تعرفني؟ قال: بلى، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة"[20].
وقام الحسن البصري -رحمه الله- من الجامع فاتبعه ناس فالتفت إليهم وقال: "إن خفق النعال، أي أصوات النعال والمشي والإسراع فيه، "إن خفق النعال حول الرجال قلَّما يُلبث الحمقى"[21]، يعني أن ذلك يطيش بعقولهم، يصيبه شيء من التيه والعجب والكبر والخيلاء ورؤية النفس.
ويقول ثابت البناني: قال لي محمد بن سيرين: "يا أبا محمد، لم يكن يمنعني من مجالستكم إلا مخافة الشهرة"[22].
وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يبصرنا بعيوبنا وعللنا، وأن يهدي نفوسنا ويصلح أعمالنا وأحوالنا.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (ص:113)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 115)، وسير أعلام النبلاء (3/ 135).
- انظر: الطبقات الكبرى (1/ 203)، وسير أعلام النبلاء (4/ 500).
- انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 99)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 182)، وسير أعلام النبلاء (5/ 20).
- انظر: الطبقات الكبرى (6/ 142)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (57/ 428)، وسير أعلام النبلاء (5/ 27).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (24/ 328)، وسير أعلام النبلاء (5/ 43).
- سير أعلام النبلاء (5/ 106).
- المصدر السابق.
- تاريخ دمشق لابن عساكر (23/ 223)، وسير أعلام النبلاء (5/ 220).
- سير أعلام النبلاء (5/ 220).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 275-276).
- انظر: حلية الأولياء (3/ 180)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (10/ 192)، وسير أعلام النبلاء (4/ 408).
- انظر: الطبقات الكبرى (5/ 286)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (45/ 229)، وسير أعلام النبلاء (9/ 463).
- انظر: الطبقات الكبرى (5/ 316)، وسير أعلام النبلاء (5/ 141).
- انظر: حلية الأولياء (5/ 228)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (10/ 502)، وسير أعلام النبلاء (5/ 526).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (37/ 413)، وسير أعلام النبلاء (6/ 191).
- حلية الأولياء (3/ 7)، وسير أعلام النبلاء (6/ 201).
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 259)، وسير أعلام النبلاء (6/ 249).
- سير أعلام النبلاء (4/ 496).
- انظر: حلية الأولياء (5/ 140)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (33/ 18)، وسير أعلام النبلاء (4/ 496).
- انظر: حلية الأولياء (2/ 384)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (74/ 120)، وسير أعلام النبلاء (4/ 505).
- انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 124)، وسير أعلام النبلاء (4/ 575).
- انظر: الطبقات الكبرى (7/ 149)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (53/ 228)، وسير أعلام النبلاء (4/ 609).