الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء عن السلف في باب "حسن الخلق":
أنه كان يجتمع في مجلس الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- زُهاء خمسة آلاف أو يزيدون، ونحو خمسمائة يكتبون -يعني يكتبون الحديث، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت[1].
ويقول أبو بكر بن المطوعي: "اختلفتُ -يعني ترددت- إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل ثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ المسند على أولاده، فما كتبت عنه حديثاً واحداً، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه"[2]، يعني يأخذون ذلك عنه.
وهكذا حينما تقرأ في ترجمة ابن المديني مثلاً، وهو من أقران الإمام أحمد وأصحابه، فكانوا يكتبون كل شيء، يأخذون عنه هديه وقيامه وقعوده وكلامه، ولباسه، والطبع سرّاق، والإنسان يتأثر بمن يأخذ عنه ويتلقى عنه، فإذا كان يجالس أهل العلم وأهل السمت فإنه لا شك يتأثر شاء أم أبى، ومن جالس غيرهم ممن تخففوا في مروءاتهم فإن ذلك يؤثر فيه لا محالة.
ويقول الربيع صاحب الشافعي وتلميذه: كتب إليّ أبو يعقوب البويطي: أن اصبر نفسك للغرباء، وحسّن خلقك لأهل حلقتك -يعني لطلابك، فإني لم أزل أسمع الشافعي يقول كثيراً ويتمثل:
أهينُ لهم نفسي لكي يكرمونها | ولن تُكرَم النفسُ التي لا تهينها[3]. |
وكان محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- مخصوصاً بثلاث خصال على ما كان فيه من الخصال المحمودة، يعني أن شمائله كثيرة لكن تميز بثلاث، كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم[4]، وهذا من الأدب والخلق، فالذي يتكلم كثيراً فإن ذلك لا شك أنه يؤثر في دينه ومروءته، ويصدر عنه ما قد يندم عليه، ويكثر غلطه، وكان لا يطمع فيما عند الناس، والذي يطمع فيما عند الناس هذا هو الشحيح، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، وكان لا يشتغل بأمور الناس، سواء كان معهم مباشرة، بمعنى أنه يسأل إذا جلس مع واحد أين تعمل؟ كم يأتيك من هذا العمل من الدخل؟ كم أجرتك؟ ويجلس يسأل: كم عندك من الأولاد؟ ما أكبرهم؟ يعملون أو يدرسون؟ أين يدرسون؟ أين يعملون؟ وأسئلة كثيرة جدًّا، مقابلة مملة ثقيلة، أو كان يشتغل بهم في غيبتهم، فلان فيه كذا، وفلان فعل كذا، وفلان سوى كذا، وفلان حصل له كذا، وشغله في الناس، وإذا أراد الله بعبد شرًّا شغله بعيوب الناس عن عيوب نفسه، وإذا أراد به خيراً شغله بنفسه وبعيوبه وذنوبه عن عيوب الخلق، فإذا رأيت العبد مقبلاً على الناس منشغلاً بهم، بعيوبهم وذنوبهم وخطاياهم وينسى نفسه فإن ذلك قد مُكر به.
ويقول أحمد بن يونس: "قدمني أبي إلى الفضيل بن عياض، فمسح رأسي، فسمعته يقول، -يعني الفضيل بن عياض: اللهم حسِّن خَلْقه وخُلُقه"[5]، وهذا دعاء نحتاج إليه قل ما ندعو به، يعني الآن لو جلس الإنسان يعيد الذاكرة إلى ما كان يدعو به لنفسه أو لأولاده أو كذا، هل يقول: اللهم ارزقني حسن الخلق، اللهم ارزق أولادي حسن الخلق، مثلاً، أو نحو هذا، قل ما يدعو الناس بهذا.
ويقول سهل التستري: من أخلاق الصديقين -ذكر جملة منها: أنهم لا يغتابون، ولا يُغتاب عندهم، ولا يشبعون، وأنهم إذا وعدوا لم يخلفوا[6]، إلى غير ذلك مما ذكر، فإن بعضه قد لا يسلّم به.
وكانت قطر الندى، هذه زوجة الخليفة المعتضد العباسي، وهي من أهل مصر، وكانت من أجمل نساء العالمين، قطر الندى لقب لها، كانت بديعة الحسن، جيدة العقل، قيل: خلا بها المعتضد، وهو زوجها يوماً فنام على فخذها، فوضعت رأسه على مخدة لما نام وخرجت، فاستيقظ فناداها وغضب، وقال: ألم أُحِلَّكِ إكراماً لك، فتفعلين هذا؟ قالت: "ما جهلت إكرامك لي، ولكن فيما أدبني أبي أن قال: لا تنامي بين جلوس، ولا تجلسي مع النائم"[7]، هي من ولد صاحب مصر ابن طولون، لا تنامي بين جلوس؛ لأن النائم قد يصدر منه من الأفعال والأقوال أيضاً دون أن يشعر والأشياء التي لا يرتضيها في حال يقظته، ولا تجلسي مع النائم؛ لأنه قد يبدر منه شيء يكره أن يطلع عليه الناس.
ويقول أبو النضر الفقيه: "سمعت البوشنجي يقول: من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على رسول الله ﷺ"[8].
ويقول أبو محمد الخلال: "قال لي ابن سمعون: ما اسمك؟ قلت: حسن، قال: قد أعطاك الله الاسم فسله المعنى"[9]، يعني حسن الخلق.
ويقول الضياء المقدسي: كان الموفق -يعني ابن قدامة رحمه الله- لا يناظر أحداً إلا وهو يتبسم[10]، وهذا نادر؛ لأنه غالباً في وقت المناظرة تحضر النفوس، ويشتد الغضب، وكما قال بعض أهل العلم كابن قدامة والذهبي وجماعة: إنه يحصل أحياناً شيء من القذف والإقذاع، ولربما دنا منه دون أن يشعر، ولربما أخذ بلحيته.
غالباً في وقت المناظرة تحضر النفوس، ويشتد الغضب، وكما قال بعض أهل العلم كابن قدامة والذهبي وجماعة: إنه يحصل أحياناً شيء من القذف والإقذاع، ولربما دنا منه دون أن يشعر، ولربما أخذ بلحيته.
يقول الذهبي: "بل أكثر من عاينّا لا يناظر أحداً إلا ويَنْسَمّ"[11]، يعني عكس ما كان من ابن قدامة -رحمه الله.
إلى أن قال الضياء: وما علمت أن ابن قدامة المقدسي أوجع قلب طالب، وكانت له جارية تؤذيه بخلقها فما يقول لها شيئاً، وأولاده يتضاربون وهو لا يتكلم، وسمعت البهاء المقدسي يقول: "ما رأيت أكثر احتمالاً منه"[12]. يقول البهاء: كان الشيخ في القراءة يمازحنا وينبسط، وكلموه مرة في صبيان يشتغلون عليه، يعني قالوا له: هؤلاء الصبيان يصدر منهم ما لا ينبغي من اللعب والحركة، يدرسون عند ابن قدامة الإمام، فقال: "هم صبيان ولابد لهم من اللعب، وأنتم كنتم مثلهم، وكان لا ينافس أهل الدنيا، ولا يكاد يشكو، وربما كان أكثر حاجة من غيره، وكان يؤثر"[13]، هذا ما يتعلق بحسن الخلق.
فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الأخلاق الفاضلة، وأن يعيننا وإياكم على أنفسنا.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (11/ 316).
- المصدر السابق.
- انظر: تاريخ بغداد (14/ 304)، وسير أعلام النبلاء (12/ 61).
- سير أعلام النبلاء (12/ 449).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 124)، وسير أعلام النبلاء (12/ 596).
- سير أعلام النبلاء (13/ 332).
- المصدر السابق (13/ 473).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 208)، وتهذيب الكمال (24/ 313)، وسير أعلام النبلاء (13/ 586).
- انظر: طبقات الحنابلة (2/ 156)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 12)، وسير أعلام النبلاء (16/ 507).
- انظر: سير أعلام النبلاء (22/ 170)، وذيل طبقات الحنابلة (3/ 288).
- سير أعلام النبلاء (22/ 170).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (22/ 171).