إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا زال الحديثُ عن قول النبي ﷺ: مَن تعارَّ من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر[1].
فقد مضى الكلامُ على هذه الكلمات الأربع، وأنَّها قد دلَّت على التوحيد بمجموعها، وأيضًا بكل جملةٍ منها بمفردها.
وعرفنا أيضًا وجه التَّرتيب في ذكر هذه الكلمات حينما يُبتدأ بالتَّسبيح، ثم التَّحميد، ثم يقول: لا إله إلا الله، ثم بعد ذلك يُكبر الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ ذلك أيضًا كما صرَّح النبيُّ ﷺ: لا يضرُّك بأيّهن بدأتَ[2]، فله أن يُقدّم، وله أن يُؤخّر.
والمقصود أنَّ هذه الكلمات هي أفضل الكلام بعد القرآن، وقد ذكر شيخُ الإسلام[3] -رحمه الله- كلامًا على هذا المعنى، وأنهنَّ الباقيات الصَّالحات، فالنبي ﷺ قد جاء عنه في جملةٍ من الأحاديث ذِكر هذه الكلمات الأربع فيما يُقال من الأذكار في مناسباتٍ وأحوالٍ شتَّى، فمَن عجز عن القراءة -قراءة القرآن- فإنَّه يمكن أن يقول ذلك[4].
وكذلك أيضًا أفضل الاستفتاحات الثابتة عن النبي ﷺ ما تضمّن ذلك، كقوله: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك[5]، فإنَّ هذا مُتضمّن لهذه الكلمات.
وذكر شيخُ الإسلام[6] -رحمه الله- أنَّ هذا الثناء بهذا التَّسبيح، والتَّحميد، والتَّهليل، والتَّكبير أنَّه أفضل من الدّعاء، وذلك -كما سبق- أنَّ هذا الذي يُثني على الله -تبارك وتعالى- بأوصاف الكمال فحاله أبلغ من ذاك الذي يسأل حاجته ويطلب بُغيته؛ فهذا يُثني بأفضل الكلام بعد القرآن.
شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: ذلك أيضًا مُقتضي للإجابة إذا أثنى بمثل هذا الثَّناء، كما دلَّ عليه هذا الحديث في آخره -كما سيأتي- أنَّه إذا دعا استُجيب له، وإذا استغفر غُفِرَ له، وإذا توضَّأ وصلَّى قُبِلَتْ صلاته، فأخبر النبيُّ ﷺ أنَّ هذه الكلمات إذا افتتح بها المستيقظُ من الليل كلامَه كان ذلك سببًا لإجابة الدُّعاء، ولقبول الصَّلاة، فدلَّ ذلك على قيمة هذا الثَّناء، وعلى منزلة هذه الكلمات، وعلى عظيم ما دلَّت عليه من المعاني والتوحيد، وكل ذلك قد مضى الكلامُ عليه.
ومن هنا فإنَّ افتتاح الصَّلاة بمثل هذه الكلمات أو ما تضمّنته يكون سببًا لقبولها، مع ما في الصَّلاة من الدُّعاء، وفيها من حمد الله -تبارك وتعالى- والثَّناء عليه، فيكون هنا مُثنيًا مُبتدئًا بالثَّناء، فإذا صلَّى أو دعا في صلاته فإنَّ ذلك يُقبل منه؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ في حديث المسيء في صلاته قال: كبِّر فاحمد الله، وأثني عليه، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن[7]، فقال له: كبِّر فاحمد الله، وأثني عليه.
وفي أحاديث أُخر من أحاديث الافتتاح أنَّه كان يقول: الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً[8]، إلى غير ذلك.
وهكذا أيضًا في الحديث الآخر من أحاديث الاستفتاح أنَّه كان يُكبِّر عشرًا، ويحمد عشرًا، ويُسبِّح عشرًا، ويُهلل عشرًا، ويستغفر عشرًا، ..."[9]، إلى آخر الحديث.
فهذا كلّه يتوافق مع ما ذُكر في هذه الكلمات الأربع، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول[10]: إنَّ هذا التَّوافق والتَّواطؤ والتَّكاثر والتَّوارد في النصوص حينما تتوارد في الاستفتاحات وفي الذكر الذي يكون بعد الصَّلاة، وحينما يقول ذلك المستيقظُ من نومه، أو من تعارَّ من نومه؛ كل ذلك يدلّ على أنَّ هذه الكلمات، وأنَّ هذا الذكر أرجح من غيره من سائر الأذكار"، وذلك يدل على كثرة قصد النبي ﷺ لتلك المعاني، ومن هنا يقول شيخُ الإسلام: "يكون ذلك مُقدَّمًا على غيره".
ولذلك -أيها الأحبة- شُرع لنا أن نقول ذلك بعد كل صلاةٍ، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "فتكون هي من الفواتح والخواتم التي أُوتيها النبيُّ ﷺ"[11]، فإنَّه أُوتي فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه، باعتبار أنَّه يفتتح بها الصَّلاة، وتُقال أيضًا بعد الصَّلاة، فكل ذلك يدل على منزلتها وفضلها وأهميتها، فهل نعقل ما نُردده؟!
ثم قال ﷺ فيما يقوله بعد هذه الكلمات الأربع مَن تعارَّ من نومه، قال: ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
"لا حولَ" لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ، لا يمكن أن يتحوّل الإنسانُ من حالٍ، وهذا الإنسانُ حينما يتعارّ من نومه، أو حينما يستيقظ من نومه، فهو ينتقل من حال النّوم إلى حال اليقظة، من حال الإخلاد إلى الرَّاحة إلى حال الجدِّ والعمل والنَّشاط، من حال السُّكون والدّعة إلى حال الانطلاق والعمل وطلب الرزق، لا تحول من حالٍ إلى حالٍ إلا بإعانة الله وقوته، "لا حول ولا قوة إلا بالله" إلا بإعانة الله، وتوفيقه، وهدايته، وتسديده.
ومن هنا هذا الإنسان الذي يستيقظ ويقول مثل هذا الكلام يكون قد قاله في موضعٍ هو في غاية المناسبة، يقول: أنا لا أنتقل من حالٍ إلى حالٍ يا ربّ، أنا أعجز من أن أتحوّل من حالةٍ إلى أخرى إلا بإعانتك وتسديدك وتقويتك، لا حولَ ولا قوةَ، فالإنسان بهذه يخرج من الالتفات إلى نفسه، والالتفات إلى أعوانه، والالتفات إلى إمكاناته، والالتفات إلى قُدرته العقلية، والالتفات إلى قُدراته الجسمانية، والالتفات إلى شبابه ونشاطه، والالتفات إلى عزيمته وهمّته: أنا صاحب جلدٍ، أنا صاحب عزيمةٍ، أنا أستطيع أن أصبر، وأن أُضَحِّي، وأن أُواصل العملَ ليل نهار، ويكفينا من النّوم لحظات، أو كإغفاءة الطَّائر، أو كما يقول بعضُهم؛ التفاتًا إلى قوته ونشاطه وجلده وصبره، لا، المؤمن يخرج من هذا كلِّه، يقول: لا حول ولا قوةَ، فإمكاناته العقلية والجسمانية، وإمكانياته المادية المالية، كل ذلك لا ينفعه، ولا يدفع عنه، إنما تكون القوةُ بإعانة الله وتقويته للعبد، وإذا تُرك وخُلي بينه وبين نفسه فإنَّ ذلك جميعًا يتلاشى، إذا وكّل العبدُ إلى نفسه وقوّته ضعف وأصابه الوهنُ والعجزُ، وأقعدته نفسُه عن كل فضيلةٍ وعملٍ ينفعه في الدنيا والآخرة.
هذا الإنسان الذي يستيقظ من النوم هو بحاجةٍ إلى عزيمةٍ، بحاجةٍ إلى همَّةٍ، بحاجةٍ إلى إعانةٍ، بحاجةٍ إلى هدايةٍ، بحاجةٍ إلى تسديدٍ، بحاجةٍ إلى توفيقٍ، بحاجةٍ إلى بركةٍ، وهنا يقول: يا ربّ، أنا أخرج من حولي وطولي وقوتي، لا قدرةَ لي، ولا إمكانَ ولا نشاطَ ولا عزيمة إلا بتقويتك، وإعانتك، وهدايتك، وتسديدك، فكلّ ذلك إنما يكون من الله وحده، فهنا يكون قد فوَّض الأمرَ إلى الله ، وتبرأ من كلِّ حولٍ له وقوّة، فهو يقول: لا أملك من أمري قليلاً ولا كثيرًا، ولا حيلةَ لي ولا طاقةَ في دفع المكاره والشُّرور والمخاوف، فأنت الذي تدفع ذلك عني، كما أنَّه لا طولَ ولا قوةَ في جلب المنافع واللَّذات والأمور المحبوبة، إنما يكون ذلك بإعانتك وتقويتك: ثم يقول: اللهم اغفر لي، أو دعا؛ استُجيب له، فإن توضّأ قُبِلَتْ صلاتُه[12]، وفي روايةٍ: فإن توضّأ وصلَّى قُبِلَتْ صلاتُه[13].
فهذا كلّه يدعوه إلى تفويض الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-، وإلى الجدِّ أيضًا؛ يقوم يذكر الله ، فإنَّ الإنسان في كثيرٍ من الأحيان قد يضعف عن هذا، أو عمَّن دونه، ينعقد لسانُه لا يتحرَّك بالذكر، فيحتاج إلى مجاهدةٍ، ثم بعد ذلك يحتاج إلى مجاهدةٍ أخرى، وهي أن يقوم ويتوضّأ، ثم يحتاج إلى مجاهدةٍ ثالثةٍ: أن يقوم فيُصلي، وقد أخبر النبيُّ ﷺ أنَّ الشيطان يعقد على ناصية أحدنا ثلاث عقدٍ، فقال: يعقد الشيطانُ على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقدٍ، يضرب كلَّ عقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ، فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدةٌ، فإن توضّأ انحلَّت عقدةٌ، فإن صلَّى انحلَّت عقدةٌ، فأصبح نشيطًا طيبَ النَّفس، وإلا أصبح خبيثَ النفس كسلان[14].
فمَن أراد النَّشاط، مَن أراد التَّألق -كما يقال-، مَن أراد الحيوية فإنَّه يفعل هذا، أحيانًا تقرأ للبعض حينما يتكلّمون ويتفلسفون، لربما يكتب في عمودٍ أو نحو ذلك، قرأتُ مرةً لإحداهنَّ تقول: إذا قمت. هؤلاء قد يكون بعضُهم لا يُصلي؛ لأنَّه من عموده ومن كتاباته السَّاخرة في ثوابت الدِّين، وفي شرائع الإسلام، وفي الصَّالحين، وفي عباد الله المتقين، يدل على أنَّه بعيدٌ عن هذه الأمور، فتجد أشياء مُضحكة، يعني: قرأتُ لأحدهم إذا قام كيف أنَّه ينبغي للإنسان أن يفعل كما يفعل، هو يحكي عن نفسه: يقف أمام المرآة ويبتسم، ويحاول أن يُوسّع ابتسامته، ويُمرّن عضلات الوجه على الابتسامة، ويقول: إنَّ هذا يبعث في النَّفس شيئًا من النَّشاط والتَّفاؤل. أين هؤلاء من مثل هذه المعاني الكبار العظيمة التي أخبر عنها النبيُّ ﷺ؟!
المسألة لا تحتاج إلى تمثيلٍ، قبل أن يخرج إلى عمله أو دراسته يقف أمام المرآة لحظات، ويحاول أن يتصنّع ابتسامةً مُتكلَّفةً لا تُغني عنه شيئًا إذا كان الوجهُ كالحًا؛ لبُعد صاحبه عن ذكر الله وعن طاعته، فهو أبعد ما يكون عن الانشراح، والنَّشاط، والإقبال، والإقدام، والجدّ، والحيوية، لكن مَن أصبح بهذه الطريقة انحلَّت عُقده فأصبح نشيطًا، هذا هو السّر، مَن أراد النشاط، مَن أراد الجدَّ، مَن أراد العزيمة، مَن أراد الإعانةَ من الله -تبارك وتعالى- فليفعل هذه الأمور.
وتأمّل قوله ﷺ حينما قال: ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، في زيادةٍ: العلي العظيم، والزِّيادات الصَّحيحة تُؤخذ، ويكون الحديثُ على أوفى الألفاظ، هذا هو الأكمل والأفضل.
ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا هكذا بالشَّك في هذه الرِّواية، فيحتمل أنها للشَّك.
يحتمل أنَّ "أو" هذه للتَّنويع، يعني حينما يقول: اللهم اغفر لي، أو دعا أو يدعو فإنَّه يُستجاب له، يعني: إذا استغفر أو دعا ربَّه قال: اللهم ارزقني، اللهم عافني، ونحو ذلك؛ فإنَّه يُستجاب له.
إذن هذا وقتٌ وحالٌ من أحوال الإجابة: أن يتعارّ من الليل، لاحظ: وهو في فراشه، قد لا يكون مُستقبل القبلة، وليس على طهارةٍ، ومع ذلك إذا قال هذه الكلمات فإن دعا استُجيبَ له، وإن استغفر غفر اللهُ له، وهذه معاني مُتلازمة؛ لأنَّ المستغفر هو داعٍ في الواقع، فهو يطلب مغفرةَ الله -تبارك وتعالى-، ومما يُقوي أنها للشَّك ما جاء في روايةٍ: ثم قال: ربّ اغفر لي، غفر له، أو قال: فدعا، يعني: أو قال النبيُّ ﷺ: فدعا استُجيب له، فهذا شكٌّ من بعض الرُّواة.
وهكذا في بعض رواياته: غفر له، وفي لفظٍ: أو قال: دعا استُجيب له، وفي لفظٍ: ثم قال: ربّ اغفر لي، أو قال: ثم دعا، كل هذا يدل على أنَّ ذلك من قِبَل بعض الرُّواة.
ومن اللَّطائف التي تُذكر في هذا: ما ذكره الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- عن أحد الرُّواة عن الإمام البخاري؛ لأنَّ هذا الحديثَ مُخرَّجٌ في "صحيح البخاري"، فهذا أبو عبدالله الفربري -وهو محمد بن يوسف- يقول: "أجريتُ هذا الذكر على لساني عند انتباهي"[15]، وكما قلنا لكم بأنَّ هذا الظَّاهر أنَّ المقصودَ به أنَّه إذا حصلت له يقظةٌ في حال النوم، يعني: تنبّه في حال النوم، تعارَّ من الليل، مع أنَّه يحتمل كما قال بعضُ أهل العلم أنَّه استيقظ كما فسَّره به بعضُ الشُّراح، لكن الأقربَ أنَّ المقصودَ: حصلت له انتباهة في نومه فقال هذا، وكما سبق بأنَّ الإنسان في مثل هذه الحال يكون يُغالب النوم، وقد لا يتفطّن الذكر، إنما يجري ذلك على لسان مَن كان في حالٍ من الملازمة للذكر، والمداومة عليه، فقلبه يقظٌ، ولسانه رطبٌ من ذكر الله -تبارك وتعالى.
فهذا الإمام محمد بن يوسف يقول: "أجريتُ هذا الذكر على لساني عند انتباهي ثم نمتُ، فأتاني آتٍ -يعني في الرّؤيا- فقرأ: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الحج:24]"[16]، ونحن لا نبني على الرُّؤى، يكفينا حديثُ النبي ﷺ، ولكن هذه الرّؤيا هي مُوافقة لمضمون هذا الحديث؛ لأنَّ هذه الكلمات أفضل الكلمات بعد القرآن، الكلمات الأربع، ورتَّب عليها ما قد سمعتُم.
يُوافق هذا الحديث ما جاء عن معاذٍ -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي ﷺ قال: ما من مسلمٍ يبيتُ على ذكر الله طاهرًا بهذا القيد، وفي هذا الحديث -حديث معاذٍ -: فيتعارّ من الليل، كما سبق تحصل له انتباهة: فيسأل اللهَ خيرًا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه اللهُ إياه[17].
لاحظ: يسأل الله خيرًا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، هناك: إذا دعا استُجيبَ له، استغفر غُفِرَ له، توضّأ قُبِلَتْ صلاتُه، فذاك الحديثُ أتمّ، لكن فيه ذكرٌ يُقال هنا لم يذكره هذا الذكر، وإنما يُقال: يتعارّ من الليل فيسأل الله خيرًا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه، بقيد أنَّه يبيت طاهرًا، فلو جمع هذا إلى هذا: بات طاهرًا وقال الذِّكر حينما تعارَّ من الليل فهذا أكمل الأحوال.
فالناس الذين يُريدون الرزق، الغنى، يُعانون من الضِّيق في العيش، الناس الذين يُعانون من أمراضٍ، أوجاعٍ، الناس الذين يعانون من همٍّ، الناس الذين يُعانون من مشاكل أسرية، مشاكل اجتماعية، الناس الذين عندهم مُعاناة من أمورٍ أخرى، الناس الذين لهم مطالب، ولهم رغبات في الدنيا، أو في الآخرة، فهنا أمرٌ يسيرٌ: فيسأل الله خيرًا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إيَّاه، وعدٌ ثابتٌ على شيءٍ يسيرٍ، ولو قيل للناس بأنَّ المسؤول الفلاني سيستقبل الناس من السَّاعة الثانية والنصف ليلاً إلى أذان الفجر، سيستقبل المعاريض، وطلبات الناس، وحاجات الناس، وأيّ واحدٍ عنده مشكلة ستُحلّ، كيف سيصنع الناس؟ سيبيتون تلك الليلة؟! لا يبيتون تلك الليلة، لمخلوقٍ هو عاجزٌ أن ينفع نفسه! فكيف بنفعهم؟!
والله ينزل في ثلث الليل الآخر ويقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأُعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له[18]، وهنا أمرٌ يسيرٌ يُرتَّب عليه ألا يسأل شيئًا من أمر الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه الله إيَّاه، يعني هنا ما قال: يقوم الليلَ، يُصلي ليلاً طويلاً إطلاقًا. إنما هو ذكرٌ يقوله، أو يتوضّأ، وهو طاهرٌ، فيسأل إذا حصلت له انتباهةٌ، لكن هذا لماذا لا يُعان عليه أكثر الناس؟
لا يُعان عليه أكثرُ الناس أولاً: لضعف اليقين، فإنَّ ضعفَ اليقين هو الذي يُقعد الإنسان، إذا كان الإنسانُ يستيقن هذا لفعل.
الأمر الثاني: وهو ضعف الصِّلة بالله، وضعف الذكر. ضَعُفَ الذكرُ فلا يُعان الإنسانُ، يكون هذا من أشقِّ الأشياء عليه، كأنَّ لسانَه مربوطٌ فلا ينطق بهذا الذكر، يتعارّ من الليل ومع ذلك لا ينطق، تجد الإنسان لربما يجلس وقتًا طويلاً وهو يحاول أن يستجلب النوم قبل نومه، ولربما لا يقول الأذكارَ، يشعر أنَّ لسانَه محبوسٌ، يابِسٌ، فهذا كلّه بسبب الجفاف؛ فمَن جفَّ لسانُه بالنهار، جفَّ لسانُه بالليل ولا بدَّ، ومَن كان مُلازمًا للذكر في آناء الليل والنَّهار، فإذا حصل له مثل هذا التَّنبه انطلق لسانُه على سجيةٍ يذكر الله -تبارك وتعالى-.
أسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب التَّهجد، باب فضل مَن تعارَّ من الليل فصلَّى، برقم (1154)، وأبو داود -واللفظ له-: أبواب النوم، باب ما يقول الرجلُ إذا تعارَّ من الليل، برقم (5060).
- أخرجه مسلم: كتاب الآداب، باب كراهة التَّسمية بالأسماء القبيحة وبنافعٍ ونحوه، برقم (2137).
- "مجموع الفتاوى" (22/394).
- "مجموع الفتاوى" (10/554).
- أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب حجّة مَن قال: لا يجهر بالبسملة، برقم (399).
- انظر: "مجموع الفتاوى" (22/478).
- أخرجه البخاري: كتاب الاستئذان، باب مَن ردَّ فقال: عليك السلام، برقم (6251).
- أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يُقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم (601).
- أخرجه النَّسائي: كتاب قيام الليل وتطوع النَّهار، باب ذكر ما يُستفتح به القيام، برقم (1617)، وابن ماجه: أبواب إقامة الصَّلوات والسُّنة فيها، باب ما جاء في الدّعاء إذا قام الرجلُ من الليل، برقم (1356)، وذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصَّحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (7/ 1014).
- انظر: "مجموع الفتاوى" (22/479-480).
- "مجموع الفتاوى" (22/480).
- ذكره البغوي في "شرح السنة" (4/72)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ".
- أخرجه البخاري: كتاب التَّهجد، باب فضل مَن تعارّ من الليل فصلَّى، برقم (1154).
- أخرجه البخاري: كتاب التهجد، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يُصلِّ بالليل، برقم (1142)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما رُوِيَ فيمَن نام الليل أجمع حتى أصبح، برقم (776).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/41).
- المصدر السابق.
- أخرجه أبو داود: أبواب النّوم، بابٌ في النوم على طهارةٍ، برقم (5042)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (5754).
- أخرجه البخاري: كتاب التهجد، باب الدّعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم (1145)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، برقم (758).