الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع" أورد المصنف -رحمه الله-:
هذه المرأة جاء في بعض الروايات: أنها كانت تستعير المتاع، وتجحده[2]، وبعضهم يقول: إن اسمها فاطمة بنت أبي الأسد المخزومية، وبعضهم يقول: هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد المخزومية، ومثل هذا لا حاجة إليه، ومن شأنه أن يُستر، فهي امرأة شريفة، قرشية من بني مخزوم، فهؤلاء من قريش كرهوا أن تقطع يدها، أهمهم شأنها، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ؟، يعني: من يشفع لها؟، "فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله ﷺ، حِبُّه أي أنه محبوب رسول الله ﷺ؛ لأن النبي ﷺ كان يحبه، "فكلمه أسامة"، فيه حذف واختصار بمعنى أنهم كلموا أسامة وطلبوا منه أن يشفع، فكلم رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: أتشفع في حد من حدود الله؟، ثم قام فاختطب، يعني: قام فخطب.
القضايا التي تتعلق بالحدود قبل أن تصل إلى الإمام لا بأس إذا احتمل المقام أن تُستر، ولا بأس أن يُشفع فيها قبل أن تصل إلى الإمام أو نائبه، مثلاً الهيئة الآن "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" إذا قبضوا قضية فيها حد خمر، أو زنى هل للشفاعة هنا مجال أو لا؟ بمعنى هل الهيئة الآن تقوم مقام الإمام؟ أو أن الذي يقوم مقامه هو القاضي؟، إذا وصلت إلى المحكمة إلى القاضي فلا مجال للشفاعة.
الإمام هو الحاكم، فإذا أناب أحداً لإقامة الحدود أو نحو ذلك فإذا بلغته فلا مجال للشفاعة، هل الهيئة مخولة لإقامة الحدود؟
الجواب: لا، وبناء على ذلك يقال: يمكن الشفاعة في هذا قبل أن تصل إلى الإمام أو نائبه، إذا احتمل المقام ذلك، كأن يكون هذا الإنسان وقع في هذه الخطيئة لأول مرة، ونادم، ومتأثر جدًّا، ولما قُبض عليه أو هذه المرأة أصابها انهيار، وإذا وصلت القضية إلى الإمام ثم أقيم عليها الحد قد يقتلها أقاربها، قد تحصل أمور ومضاعفات أخرى فهل هنا في مجال يقال: هذه المرأة قد تابت وندمت، وانهارت، وتظهر صحة توبتها، وأنها ليست متمرسة في هذا الجانب، هل هناك مجال للشفاعة عند الهيئة بمثل هذا؟
إنسان سرق فشُفع فيه، وقيل: الحق الخاص يؤدى، ونُكلم أصحاب الحق الخاص، ولا داعِيَ إلى رفع القضية إلى المحكمة، هل هناك مجال؟ إذا قلنا: إن الهيئة ليست جهة مخولة للتنفيذ فلا تكون بمنزلة الإمام، لكن إذا وصلت إلى القاضي فالقاضي هو الذي يحكم، فهو نائب عن الإمام في هذا، وعندئذ إذا وصلت القضية إلى القاضي فلا تجوز الشفاعة في أمر يتعلق بالحدود، فيما فيه حد، أما ما فيه تعزير فتجوز الشفاعة حتى عند القاضي، قضية تعزيرية ما فيها حد، أو ما يُسمى الآن بالحق العام، فيذهب الإنسان إلى هيئة الادعاء، ويكلمهم ويشفع في شخص ويقول: ليس من المصلحة أن يُسجن، السجن سيؤدي به إلى أن يتعرف على أنواع الجرائم، وهذا جديد، لأول مرة يقع له هذا، ونادم، وظهر لنا أنه صادق في توبته، هذا لا إشكال فيه إذا كانت المسألة ليس فيها حد.
إذن الشفاعة لا تجوز في الحدود إذا بلغت الإمام، أو بلغت نائبه، أما ما قبل ذلك فلا بأس، إذا كان المقام يقتضي هذا، يعني: ليست القضية محاباة لأحد، قد يكون الإنسان هذا متمرسًا في الفساد، هنا يقال: لا مجال، ولهذا أحياناً أهل الحسبة يسألون عن الحالات التي تستدعي الستر والحالات التي لا تستدعي، لو كانوا هم بمنزلة الإمام لما حُق لهم أن يُسقطوا شيئاً، لكنهم يسترون غالب القضايا، إذا رأوا المصلحة في ذلك، فهنا قال له النبي ﷺ: أتشفع في حد من حدود الله؟، وهو حد السرقة.
"ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك من كان قبلكم، إلى آخره، بمعنى أنه غضب، وهذا هو الشاهد هنا الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع، "قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، الشريف الذي له وجاهة، منزلة، حسب، نسب، منصب، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، أيم الله هذه من باب أو مثل أو من نظائر: وأيمن الله، وهي للقسم، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، بمعنى أنه لا فرق، من قارف ما يوجب الحد ثم بلغ ذلك الإمام فإنه يجب أن يقام عليه، ولا يحق لأحد أن يسقطه لا الإمام ولا غير الإمام، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3475)، ومسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، برقم (1688).
- أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، باب في القطع في الْعَوَرِ إِذَا جُحِدَتْ، برقم (4395)، والنسائي، باب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون، برقم (4887).