- مقدمة باب أمر ولاة الأمور بالرفق
- قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
- قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...}
- الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب "أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم، ونصيحتهم، والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم، والتشديد عليهم، وإهمال مصالحهم، والغفلة عنهم وعن حوائجهم"، صدّر المصنف -رحمه الله- هذا الباب كعادته بآيات من كتاب الله -تبارك وتعالى.
قوله: باب "أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم" ولاة الأمور هنا يشمل أصحاب الولايات العامة كالخليفة، والملك، والأمير، وكل من له سلطة، حتى المدير في المؤسسة، المدير في الشركة، في المدرسة، بل المعلم مع طلابه وتلامذته، فهؤلاء داخلون فيه.
"بالرفق برعاياهم"، قيل لهم: رعايا؛ لأنه يجب مراعاتهم، والقيام على شئونهم والتفقد لأحوالهم.
قال تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، هذا أمر لرسول الله ﷺ، وقد جبله الله -تبارك وتعالى- على الرحمة، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، وكان ﷺ يسليه ربه لشدة ما يجد بسبب كفر الكافرين وإعراض المعرضين، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على عظم شفقته ورحمته، ومع ذلك فإن الله -تبارك وتعالى- يقول له: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فإذا كان هذا يوجه للنبي ﷺ فهو متوجه إلى غيره من باب أولى، وذلك لا يختص به، فيقال لكل أحد من الناس ممن تحت يده ولاية أو رعية، كالأب في بيته ونحو ذلك: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كما يقال للداعية والمعلم والعالم وغير ذلك.
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ، خفض الجناح بمعنى اللين، إلانة الجانب والتواضع، والله -تبارك وتعالى- وصف أو ذكر أوصاف من يحب قال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] وذكر هذه الصفة في أول صفاتهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ووصف أصحاب محمد ﷺ بأنهم رحماء بينهم.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، هذه الآية من الآيات الجامعة في التعامل والأخلاق.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، العدل: أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن ينصف من نفسه، وأن يضع الأمور في مواضعها.
والإحسان: هو قدر زائد على العدل، بمعنى أنه يتفضل. وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وهم قرابة النبي ﷺ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، الفحشاء: هي الذنوب العظام، كل ذنب عظم فهو فاحش وفاحشة، فأصل هذه المادة -الفاحش- تقال للشيء الكثير، يقال: مال فاحش، وهذا كلام فاحش، أي: كلام شنيع، قد عظمت شناعته وقبحه، وكذلك أيضاً يقال للذنب العظيم: فاحشة، وتطلق في عرف الاستعمال غالباً الفاحشة على الزنى وما في معناه، يقال: الفاحشة، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32].
قال: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، والفحشاء داخلة في المنكر فهي منكر، ولكن هذا من قبيل عطف العام على الخاص، وذكر الفحشاء لشدة شناعتها ثم ذكر المنكر بعد ذلك وهو أعم، فيدخل فيه كل منكر من الذنوب الصغار والكبار.
وَالْبَغْيِ، والبغي أخص من المنكر، البغي منكر ولكنه نوع خاص منه، وهو ما يحصل به التعدي على الآخرين باللسان أو بأخذ أموالهم، أو بأذيتهم بأي نوع من الأذى، كل ذلك من البغي، الاستطالة على الناس والعدوان عليهم هذا من البغي، فهو نوع من المنكر.
قال: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: أن الله -تبارك وتعالى- يُذّكر أهل الإيمان ويأمرهم وينهاهم ويقرن ذلك بالترغيب تارة وبالترهيب تارة من أجل أن يحصل لهم التذكر، فإذا حصل التذكر حصلت اليقظة في القلب، وانقشعت سحب الغفلة، ثم بعد ذلك حصل الامتثال.
قال: الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والإمام هو السلطان الأعظم، الخليفة، ويلحق بذلك من له ولاية من إمارة، ونحو ذلك.
مسئول عن رعيته والمسئولية تقتضي المؤاخذة، أي: أنه سيحاسب، عندما تقول لإنسان: أنت مسئول عن عملك هذا، أنت مسئول عن كلامك هذا، معنى ذلك أنك ستؤاخذ على هذا الكلام، وهذا الفعل، وستحاسب عليه، ومن ثمّ يحتاج الإنسان إلى أن يعد للسؤال جواباً، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسَب، وكل من له ولاية فإنه سيقف بين يدي الله ، ويسأله عما استرعاه، وجاء في الحديث الآخر: ما من أميرِ عشرةٍ إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يطلقه الحق أو يوبقه[2].
قال:والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته؛ لأنه هو القيم على امرأته، وهو الولي والمسئول عن هؤلاء الأولاد، فيجب أن يقوم عليهم بما يجب، وبما ينبغي من تهذيب أخلاقهم وتربيتهم وتعليمهم مع النفقة عليهم وكفهم عما لا يليق، فإذا كان الأب قد سرحهم وتركهم وضيعهم، ولو كان ينفق عليهم، لكنه لم يتعاهد هؤلاء الأولاد بالتربية، تركهم لقرناء السوء، أو لقنوات السوء، أو لمواقع السوء في الإنترنت أو نحو ذلك فإنه يكون مضيعاً لهؤلاء الرعية، والله سيحاسبه عنهم.
يقول: والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، لا يترك امرأته تخرج متبرجة، لا يتركها تخرج بأي صفة شاءت في الزواج والمناسبات، لا تخرج متعطرة، لا تخرج بعباءة غير لائقة.
والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها هي مسئولة عن الأولاد، وفيما يعهد إليها من شئونهم، ومسئولة عن مال الزوج، ومسئولة عن بيته فلا يدخل فيه من لا يحب.
والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، وهذا المال يدخل فيه -إن كان سائقاً- السيارة التي تحت يده، هو مسئول عنها فيرفق، ويتصرف بها أعظم مما يتصرف بماله الخاص، وإذا عُهد إليه شيء من المال ليتصرف فيه ليشتري أو نحو ذلك فإنه مسئول عن هذا، وسيحاسبه الله عليه، فإذا اختلس شيئاً منه أو ضيعه فإن الله -تبارك وتعالى- مطلع على ذلك.
قال: وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، يعني ما ذكره هو أمثلة، وإلا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالحارس راعٍ عما تحت يده مما اؤتمن عليه، وكذلك أيضاً المعلم راعٍ، والمدير راعٍ، إلى غير ذلك، وكل هؤلاء سيحاسبون عما استرعاهم الله -تبارك وتعالى.
فهذا -أعني الاسترعاء- وما يحصل للإنسان من نوع ولاية كبيرة أو صغيرة لا تكون تشريفاً له، وإنما هي مسئولية وواجب وتبعة وعبء عليه أن يقوم بها على الوجه الصحيح، والله سيحاسبه عليها.
فهذه ليست مكاسب شخصية يترفع بها الإنسان، وإذا حصّلها ضيع كثيراً من أمر الله -تبارك وتعالى- في سبيل أن يبقى على هذه الولاية، أو الرتبة، أو المكاسب والوظائف التي حصلت له، فإنه يجب أن يقوم عليها بما يحصل به النفع وقيام المطلوب والمقصود، لاسيما أهل العلم.
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، برقم (893)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم (1829).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (22781)، وقال محققوه: "صحيح لغيره"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5695) و(5696).