الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم والشفقة عليهم" أورد المصنف -رحمه الله-:
دخل على عبيد الله بن زياد، وعبيد الله بن زياد ولي في العراق بعد أبيه، قال له: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنّ شر الرِّعاء الحُطمة الرِّعاء: جمع راعٍ، والراعي يجمع على رِعاء ورُعاة.
إن شر الرعاء الحطمة بمعنى الذي يكون فيه صلف وعنف وذلك في رعاة الإبل هو الذي يسوقها بشدة وقوة دون مراعاة لها، فيوردها الماء، وهو يدفعها إليه دفعاً ويسوقها إليه سوقاً عنيفاً فتصطك عند الماء وتحتدم، وهذا أمر معروف لا يخفى على من عرف الإبل وكيف ترد الماء، وكيف تحتاج إلى شيء من الرفق في رعايتها وسوقها، وأنه إن وُجد من يسوقها سوقاً عنيفاً فإنها لربما يكاد يطحن بعضها بعضاً من شدة اصطكاكها ببعض، شر الرعاء يعني: شر الرُّعاة، الحطمة وهو من يكون عنيفاً مع هذه الدواب والبهائم، وكذلك أيضاً الذي يكون والياً ويتعامل مع الناس بشيء من الصلف والعنف والغلظة فإن هذا مذموم، فإذا كان معهم في سفر فإنه لا يترك لهم مجالاً يستريحون فيه، وإنما يمشي بهم مشياً يستنفذ فيه قواهم، وينهكهم بالتعب والإرهاق، ونحو ذلك، وإذا كان يشرف على عمال مثلاً فإنه يعاملهم بصلف ويسوقهم سوقاً إلى العمل، ويطحنهم فيه، ولا يراعي ضعفهم، ولا يراعي ما يحتاجه الإنسان، وما يرد عليه ويعرض له من تعب ونحو ذلك، وهكذا إذا كان يتعامل مع تلاميذ، يتعامل بعنف وقوة وشدة وصلف، حتى إنه لربما لا يناديهم بأسمائهم، بعضهم لربما يتحدث هكذا، أنت، أنت، وبطريقة تنفر منها النفوس ولا تتقبلها، وقل مثل ذلك فيمن كانت له ولاية عامة، فيتعامل مع الناس بشيء من الشدة والغلظة والعنجهية والصلف، وإنما الناس بحاجة إلى من يتجاوز عن الزلة ويعفو ويصفح ويتسع صدره للجميع، ويحتويهم، ويحتوي ضعفهم وعجزهم وما إلى ذلك، ويراعي أحوالهم، ويجازي المحسن بإحسانه، وينظر في حال المسيء.
وكذلك أيضاً الرجل في تعامله مع زوجته أو مع أولاده، لطالما سمعت من أبناء أو من زوجات من يعلن بغضه لأبيه، أو المرأة التي تعلن بغضها لزوجها، وتدعو عليه دعاءً مرًّا شديداً، والسبب أنه يعاملها بصلف وشدة، وقسوة، لا يرحمها، ويهينها ويذل أهلها ويشتمهم، ولربما أخرجها من البيت ليلاً، ولا يمكن أن يغتفر تقصيراً أو خطأً أو سهواً أو ما يعرض للمرأة من ضعف، فيفوته شيء يسير من مصالحه فلا يغتفر لها ذلك، وهكذا الأولاد يتعامل معهم بشيء من القسوة، والقلب إذا أُكره عمي، فيبغضونه وينفرون منه، ولا يحصل مقصوده من استصلاحهم، ولو كان الدافع له على ذلك هو الغيرة أو المحبة أو إخراج هؤلاء الأولاد على حال مرضية من الاستقامة والتعلق بمعالي الأمور وما أشبه ذلك، لكن شر الرعاء الحطمة، فيحطمهم، فيطحنهم فلا يتخرج منهم أحد في شيء من المعالي، ولا يكون أحدهم كبيراً، والسبب أن نفوسهم قد هشمت وكسرت، فهم يعيشون في حال كما يقال: من التحطيم والإذلال، ويشعر الواحد منهم أنه لا يستطيع أن ينهض بشيء، ولولا أن الإنسان يكره أن يذكر بعض الحالات بشيء من التفصيل -لئلا يكون ذلك فيه إشارة إلى صاحبها فقد يعرفه أحد- لذكرت أمورًا تُسكب فيها العبرات، وذكرت أحوالا لا يتمالك الإنسان أحياناً إلا أن يبكي وهو يسمعها، مؤلمة جدًّا في التربية، وتستمر مع هذا الشخص يبلغ الثلاثين والأربعين وهو يعاني، يعاني إذا تزوج، ويعاني مع أولاده، ويعاني مع نفسه، ويعاني مع قراءته لكتاب الله، ويعاني مع قراءته للعلم والكتب، هذا إذا صلحت حاله، وأشياء مؤلمة جدًّا، والسبب هو هذا الطحن في التربية، أسلوب المعلم مثلا: تعنيف، إحراج، جرح للمشاعر، تحطيم لهؤلاء الطلاب والتلاميذ، لا يراعي الكلمات التي تخرج منه، يعاملهم معاملة وتربية العبيد باختصار، ليست تربية القادة، وهكذا يكون أحياناً الداعية وهو لا يشعر، يربي من معه تربية صلفة، فيحول المحاضن التربوية إلى عسكرة، كأنها أماكن تجنيد، عساكر، يعاملهم معاملة قاسية، وهذا الكلام غير صحيح، الناس بحاجة إلى طريقة أخرى في التعامل والتربية، والله المستعان.
من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين..، شيئاً: يعني أي شيء صغيراً كان أو كبيراً، فاحتجب دون حاجتهم وخَلّتهم وفقرهم، دون حاجتهم: بمعنى أي حاجة تعرض لهم، وخلتهم: الخَلّة أي الفقر، والفقير بعضهم يقول: هو أشد من الخلة، والذي يظهر أن هذه ألفاظ متقاربة في المعنى، دون حاجتهم ما يعرض لهم من حاجات، وخلتهم يعني فقرهم، والفقر بمعناه.
قال: احتجب الله دون حاجته وخلّته وفقره يوم القيامة الجزاء من جنس العمل، فمن ولي من أمر المسلمين شيئاً يجب أن يفتح بابه، أو أن يضع لهم من يقوم على حاجاتهم على الوجه المطلوب، قال: "فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس"، رواه أبو داود والترمذي.
هذا كله يؤكد أن قضية الولاية أيًّا كانت صغيرة أو كبيرة أنها مسئولية كبرى، وأنها أمانة وليست تشريفًا، وأن تهافت الكثيرين على الرئاسات والولايات ونحو ذلك أنه تهافت في غير محله، وأن ذلك سيسأل الله عنه صاحبه، ويحاسب على الصغير والكبير، والقليل والكثير، وما حصل من تفريط وتضييع، فإذا كان لا يجد في نفسه الأهلية لهذا على الوجه المطلوب من كل وجه فينبغي أن ينأى بنفسه، أمّا من عرف عن نفسه الضعف ولكنه مع ذلك يكابر ويصارع ويعارك حتى يحصّل ولاية، بأي طريقة، وأحياناً ببذل الدين فهذا أمر في غاية السوء والقبح، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، وما تنفعه الولاية وما تغني عنه في هذه الدنيا القصيرة، إما أن يذهب عن هذا الكرسي، وإما أن يذهب عن هذا الكرسي، وكثير من الناس إذا ولي ولاية تغير ولم يحصل على يده نجاح ولا فلاح ولا إصلاح، فيكون فيها وينتقل منها وقلوب أهل الإيمان لربما تلعنه لما يجدون منه من الإساءة والتضييع لمصالحهم، والتضييق عليهم وما أشبه ذلك، والذي لا يستطيع أن يقوم على الوجه المطلوب ويكثّر المصالح ويقلل المفاسد فينبغي أن ينأى بنفسه، فالمسألة ليست تشريفًا، وما تلقيناه في كثير من الأحيان من التربية أن هذا أمر جيد يحصل للإنسان ويفتخر به أهله ومن حوله إذا حصل له رئاسة أو نحو ذلك هذا خطأ في التربية، هذا غير صحيح، هي أمانات، وتكاليف يُسأل عنها في الدنيا ويسأل عنها في الآخرة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحَجَبة عنه، برقم (2948)، والترمذي، أبواب الأحكام عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في إمام الرعية، برقم (1332)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (2/ 205)، في الكلام على حديث رقم (629).