إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الأحبّة، من الأذكار التي تُقال عند الاستيقاظ، يقول: الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ عليَّ روحي، وأذن لي بذكره[1].
يذكر ثلاثة أشياء إذا استيقظ يحمد ربَّه -تبارك وتعالى- بها: يذكره بجميله الاختياري، ويستحضر إنعامَه عليه، ويُضيف النِّعمة إلى مُسديها، ومُبديها، والمتفضّل بها، فلا يغفل، ولا ينسى.
فذلك يقوله بمجرد استيقاظه؛ يحمد الله : الحمد لله، كل الحمد لله؛ لأنَّه المتَّصف بالكمال -كما مضى- من كل وجهٍ، وهو المنعم المتفضّل: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، فله الحمدُ كلّه، ليس لأحدٍ سواه.
الحمد لله الذي عافاني في جسدي، مُعافاة العبد في جسده: أن يُسلّمه اللهُ من الآفات، فتكون سلامتُه أولاً من العطب لهذا الجسد بالكليّة، وذلك بمُفارقة الروح للجسد مُفارقةً كاملةً، بالموت يعني، الوفاة الكبرى، فهذا الذي مات وفارقت روحُه جسدَه لم يُعافَ في جسده، صار جسدُه جثةً هامدةً، وعمَّا قريب يتغيَّر، ثم بعد ذلك يُوضَع في قبره، فيبتدئ بالتَّلاشي، ويصير طعامًا للدُّود.
فالمقصود أنَّ هذا الجسد الذي ردّت إليه الروح هذه من المعافاة: الحمد لله الذي عافاني في جسدي.
الأمر الآخر: هذا الإنسان الذي لربما يمشي على الأرض كأنما يخرقها حينما يضرب بقدمه بقوةٍ عليها، ويشمخ بأنفه ليتطاول الجبال، هو أضعف من ذلك كلّه، لو أنَّه توقّف فيه عِرْقٌ، أو تجمَّدت في عِرقه قطرةٌ من الدَّم لأصبح وهو لا يستطيع أن يُحرِّك أصبعه، وهذا أمرٌ مُشاهدٌ بلحظةٍ، وبلا مُقدِّمات، فلربما هذا الرجل له عناية بالغة في جسده.
نعرف بعضَ مَن يأكلون أكلاً مُقننًا، وعندهم من الأسباب والحمية والعناية بهذه الأجساد، والمشي في كل يومٍ، يفتخر أنَّه يمشي كلَّ ليلةٍ خمسة كيلو مترات، لا يصدّه عن ذلك ضيفٌ حلَّ به، ولا شغلٌ يشغله، كل يومٍ خمسة كيلو مترات، وتجد هذا الجسم، وهذا القوام، ولربما جاوز السَّبعين، ومع ذلك ينام ليس به بأسٌ، ثم يُصبح لا حراكَ به، لا يستطيع أن يقوم من فراشه، فضلاً عن أن يمشي خمسة كيلو مترات، أو خمسة أشبار، ويفرح أولادُه غاية الفرح لو أنَّه استطاع أن يردَّ عليهم، يستبشرون لو استطاع أن يردّ، أن يتكلم، أو أنَّه عرفهم، أو أنَّه يُحرِّك طرفَه، لعلَّ وعسى أنَّه يراهم، ويشعر بمَن حوله، ما الذي حلَّ به؟
حلَّ به أمرُ الله: "الحمد لله الذي عافاني في جسدي"، يعرف الإنسانُ قدر هذه النِّعمة التي تتجدد في كل يومٍ، ولا نزداد إلا غفلةً وإمعانًا في الغفلة.
هذه المعافاة في الجسد -أيها الأحبة- لربما يقوم الإنسانُ وهو فاقدٌ لشيءٍ من هذه الحواسّ، أو قد تعطّلت بعض وظائف الأعضاء، هذه الكُلى لو توقَّفت عن العمل لدخل الإنسانُ في مُعاناةٍ طويلةٍ، فصار ليس له شغلٌ إلا تتبع هذا الغسيل، وما يُصاحبه من معاناةٍ تتكرر لربما في الأسبوع ثلاث مرَّات، أو نحو ذلك، فلا يهنأ بعيشٍ، ولا يطيب له مقامٌ وهو بهذه الحال، وقُلْ مثل ذلك لو تعطّلت الرِّئة؛ لصار الإنسانُ يكاد يطير يريد أن يتنفَّس ولا يستطيع.
أحيانًا قد توجد ثقوبٌ في الرِّئة بلا أسبابٍ ظاهرةٍ، فهذا الإنسانُ بينما هو على فراشه، أو مع أصحابه، أو بين أهله، في لحظاتٍ يتغير كلُّ شيءٍ، فيبدأ ينطلق من كل ناحيةٍ يبحث لعله يستطيع أن يتنفس ولا يستطيع، ومَن حوله يجرون خلفَه يُحاولون أن يعرفوا ما به، ما الذي حصل؟ وهو لا يستطيع أن يُجيب: الحمد لله الذي عافاني في جسدي، عافية الجسد هذه -أيها الأحبة- لا نستشعرها.
أحدهم يذكر عن نفسه أنَّه نام في غرفةٍ، فرأى كأنَّه توهم أنَّ هذه السَّتائر على نافذةٍ مُطلّةٍ، فهو ينتظر الفجرَ، ينتظر الصباح، والحال لم تتغير، فرفع الستارةَ ولم يرَ شيئًا، فظنَّ أنَّ بصرَه قد أُخِذَ، فأخذه ما قرب، وما بَعُدَ، فتبين له أنَّ هذه النافذة إنما وُضعت السَّتائرُ على جدرانٍ بصورة نافذةٍ، وليست حقيقيةً، فاطمأنت نفسُه بهذا، لكن هل هذا يقود إلى شُكر الله على هذه النِّعَم؟
ولهذا قال بعضُ السلف: إذا أردتَ أن تعرف نعمةَ الله عليك فأغمض عينيك تعرف قدرَ هذه النِّعمة: عافاني في جسدي، انظر إلى الناس الذين يفقدون حاسةَ السمع، كيف يتوارى الواحدُ منهم غالبًا عن المجالس التي تجمعه بالناس؛ لأنَّه لا يسمع ما يتحدَّثون به ويُخاطبونه، ولا يستطيع الردَّ؟ ويضحكون وهو ينظر، ويتفاعلون مع الحديث فيما بينهم، وهو يرى التَّعابير على وجوههم، ولا يدري: يتحدَّثون عن ماذا؟
هذه الأدواء والأمراض لربما يُصبح الإنسانُ، ثم بعد ذلك يقوم مع مُعاناةٍ جديدةٍ، فيدخل مع إحصائيّة هي بالآلاف المؤلفة في كل عامٍ؛ يعين الذين يجد لهم مرضًا كهذا، أمراض السَّرطان -عافانا الله وإياكم وكلّ مُبتلًى- وما يُدريه، بلحظةٍ ليس به بأسٌ، آلافٌ كل سنة يُصابون بهذا المرض، آلافٌ من الأطفال، والرِّجال، والنِّساء، وما يُؤمنه أن يُصبح الإنسانُ أو يُمسي وهو في بلاءٍ، قد نُزِعَتْ منه نِعَمٌ.
لو قيل له -مهما كان يملك من الدنيا-: كم تدفع لتعود إليك عافيةُ الجسد؟ لبذل ما يملك، قلَّ ذلك، أو كثر، على أن ترجع إليه هذه النِّعمة، ولكنَّها الغفلة الغالبة -أيها الأحبة.
عافاني في جسدي، وردَّ عليَّ روحي، فهذا داخلٌ في عافية هذا الجسد -كما سبق-، ولكنَّها أجلُّ هذه العوافي، ولاحظ هذه العوافي، هذه العافية: ردّ الروح إلى الجسد يُطلب لماذا؟
وأذن لي بذكره فلا خيرَ في حياةٍ من غير ذكر الله -تبارك وتعالى-، رجلٌ، امرأةٌ، إنسانٌ لا يعرف ربَّه، ولا يذكره بلسانه، ولا بقلبه، ولا بجوارحه، فأقول: "وأذن لي بذكره" هذه نعمةٌ عظيمةٌ، جعلها في عداد هذه النِّعَم: عافية الجسد، وردّ الروح، وهل تُطلب الحياة إلا لهذا؟ إلا لذكر الله؟ وهل تطيب الحياةُ إلا بهذا؟ وهل يكون للحياة معنًى إلا بذكر الله ؟ فإذا تقشع ذكرُ الله من قلب عبدٍ ولسانه تصحَّرت نفسُه؛ فإنَّه يلتحق بعالمٍ آخر: عالم البهائم.
بل كما قال الله : إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]، يصير الإنسانُ كما وصف اللهُ من أولئك الذين لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، لا ينتفع بقلبٍ، لا ينتفع ببصرٍ، لهم أعينٌ لا يُبصرون بها، لا ينتفع بأذنٍ، ولا بسمعٍ، لهم آذانٌ لا يسمعون بها، هؤلاء صورٌ وأشكالٌ، كما قال الله عن المنافقين الذين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قال عنهم: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ؛ لأنَّ العنايةَ كلَّها مُنصرفة إلى هذا الجسد: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، كلامٌ جميلٌ، لكن بلا فعلٍ، ولا حقيقةٍ تنطوي عليها نفسه، ثم وصفهم بهذا الوصف البليغ: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، فهم عبارةٌ عن ألواحٍ لا تفهم، ولا تفقه، وأشباح بلا أرواحٍ، وجسوم بلا فهومٍ، عِبْءٌ وعالةٌ على المجتمع، وعلى الأُمَّة، خُشُبٌ لا يقوم عليها سقفٌ، مُسنَّدة، تعتمد على الجدار، تعتمد على غيرها، لا تكون في سقفٍ، ولا تكون لرفعه أعمدة، ولا يُنتفع بها في شيءٍ، إنما هي مُسنَّدة، تحجز مكانًا، تُضيِّق على الناس، وتعيش على هامش الحياة -والله المستعان-.
فهذه الإعانة على الذكر -أيها الإخوان- لا شكَّ أنها نعمةٌ عظيمةٌ، يُشَرِّف اللهُ بها مَن شاء: أذن لي بذكره، وهذا الإذن المقصود به الإذن الكوني، وإلا فالله أمر بذكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، هذا الأمر الشَّرعي، وهو إذنٌ شرعيٌّ، ولكن بقي الإذنُ الكوني هو الذي يُوفّق اللهُ إليه مَن شاء.
فمَن وُفِّق إلى ذكر الله -تبارك وتعالى- وجرى ذلك على لسانه وقلبه وجوارحه؛ فهذه نعمةٌ عظيمةٌ حُرِمَ منها الكثيرون، فيحتاج العبدُ إلى شُكرها، واستحضارها، والازدياد منها، وأن يتذكّر أنَّ الله هو الذي تفضَّل عليه، وحباه، واجتباه بعدما حرم الكثيرين الذين يقومون لا يذكرون الله لا بألسنتهم، ولا بقلوبهم، ولا بجوارحهم، يقوم وهو لا يُصلي، يذهب إلى عمله، يذهب إلى دراسته، لا يعرف ذكرَ الله، ولا يُصلي، لم يُصلِّ الفجر، ويذهب إلى عمله، لم يجرِ ذكرُ الله على لسانه، هذا كيف يُوفَّق؟ كيف يستطيع أن يُواجه صعوبات الحياة؟ كيف يستطيع أن يُواجه الكَبَد الذي خُلِقَ الإنسانُ كأنَّه قطعةٌ منه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، يُكابد منذ أن يخرج من بطن أمِّه، فكيف يستطيع أن يُواجه مَن كان بهذه الحال من الجفاف؟!
نسأل الله العافية، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعيننا وإياكم على ذكره، وشكره، وحُسن عبادته.
ولهذا يقول شيخُ الإسلام بأنَّ هذا الدُّعاء: أعني على ذكرك، وشُكرك، وحُسن عبادتك من أفضل الدُّعاء[2]؛ لأنَّ الإنسان إذا أُعين عليه؛ أُعين على طاعة الله -تبارك وتعالى- وبلوغ مرتبة الإحسان؛ لأنَّ العبدَ إمَّا أن يكون يعبد الله ابتداءً بما فرض عليه، وكلَّفه، وأمره به، أو يكون في نِعَمٍ تحتاج إلى شكرٍ: على ذكرك، وشُكرك، ويحتاج إلى إحسان العمل، وهو الذي خلق الناسَ من أجل تحقيقه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2].
هذا، وأسأل الله أن يرحم موتانا، وأن يشفي مرضانا، وأن يُعافي مُبتلانا، ويجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدَّعوات، برقم (3401)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (714).
- انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (8/ 330).