الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن الآثار المنقولة عن السلف في باب وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية، وتحريم طاعتهم في المعصية:
ما جاء عن جرير بن عبد الله حينما مات المغيرة بن شعبة، وكان أميرًا كما هو معلوم، فقال جرير للناس:
"أوصيكم بتقوى الله، وأن تسمعوا وتطيعوا، حتى يأتيكم أمير، استغفروا للمغيرة، غفر الله له، فإنه كان يحب العافية"[1].
وهكذا أيضًا ما جاء عن عبد الله بن عكيم قال: "لا أعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان" فقيل له: يا أبا معبد أو عنت عليه؟ قال: كنت أعد ذكر مساويه عونًا على دمه[2].
يعني: أنا كنت ممن ينتقد عثمان ، فكان ذلك يعد في نظره عونًا على دم عثمان ، بمعنى أنه تحركت النفوس، ولم تكن المشاعر طيبة نحو أمير المؤمنين عثمان بن عفان .
وهكذا أيضًا أخبار الصحابة في هذا كثير عثمان لما قال لأبي ذر الغفاري كان في الشام، ووقع بينه وبين معاوية بعض الشيء، وكان له رأي في مسألة المال والكنز، فكان يرى أن كل ما زاد عن قدر حاجة الإنسان أنه كنز، يجب عليه أن يخرجه، وإلا يكوى به جبينه وجنبه وظهره، ويستدل بقوله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35] وهذا كان في أول الأمر، فإن أبا ذر قدم على النبي ﷺ، وكان رسول الله ﷺ في مكة مختفيًا في وقت شدة، ثم بعد ذلك قدم عليه بعدما هاجر إلى المدينة بمدة وفاته شيء من العلم الذي أدركه أصحاب رسول الله ﷺ، فبقي على الحال الأول، ولم يعلم أن ذلك قد نسخ، وأن المال مهما تعاظم وكثر إذا أخرج الإنسان حق الله فيه من الزكاة، فإنه لا يكون كنزًا، ولا يعذب به، سواء كان فوق الأرض، أو تحت الأرض إذا أخذه الإنسان من حله، واتقى الله فيه، فكان على هذا المذهب، فوقع بينه وبين معاوية بعض الشيء فكتب فيه إلى عثمان في المدينة، وهو الخليفة يومئذٍ، فطلبه فجاء فلما جاء أبو ذر كما قال النبي ﷺ: يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده[3]، اجتمع الناس عليه، حتى قال أبو ذر : "كأنهم لم يروني قبل ذلك"[4] اجتمعوا عليه، وهذا يدل على طبيعة في الناس، وهي أن من يقع بينه وبين السلطان شيء من المناوأة أو الاحتكاك ربما أقبلوا عليه بوجوههم، والتفوا حوله، أو نحو ذلك أبو ذر في زمن الخليفة عثمان تأذى من هذا، يقول: كأنهم لم يروني قبل ذلك.
فقال له عثمان : لو تنحيت إلى الربذة" والربذة هذه أرض قريبة من المدينة الآن، وإن اختلف أهل العلم في تحديد الموضع بالضبط، لكنها بادية قريبة من الحنكية الآن، فتنحى أبو ذر ، وذهب وبقي في الربذة إلى أن توفي.
وأيضًا لما عزم الوليد بن عبد الملك على خلع سليمان بن عبد الملك من ولاية العهد، وجعل ذلك لولده عبد العزيز، امتنع عليه عمر بن عبد العزيز، وقال لسليمان: "في أعناقنا بيعة"[5]، يعني: أخذوا له البيعة بولاية العهد، فأخذه الوليد، وطين عليه، أي: وضعه في حجرة أو في بيت وطين الباب، يعني سد الباب، بحيث لا أحد يدخل ولا أحد يخرج؛ إلى أن يموت، فهذه طريقة كانت تستعمل، وفعلت بأبي الزناد -رحمه الله- وهو من أئمة التابعين من أهل المدينة، طين عليه البيت، ومعناها أنه موت، فكانت من العقوبات يطين عليه البيت أو الباب، يعني يخلع الباب، ويوضع جدار، ويطين طين عليه، ثم فتح عليه بعد ثلاثة أيام، ولا أكل ولا شرب، وقد مالت عنقه، يعني: أنه أوشك أن يهلك، وقيل خنقه بمنديل حتى صاحت أخته أم البنين، فسليمان بعد ذلك صارت له الخلافة، فشكر لعمر بن عبد العزيز ذلك، وعهد إليه بالخلافة، فسليمان بن عبد الملك هو الذي عهد لعمر بن عبد العزيز بالخلافة بعده، وحصل ما حصل من الخير والعدل.
وهكذا ابن سيرين إمام التابعين في الفقه والعبادة والورع والعلم بالقرآن والسنة، معلوم أنه دخل الحبس بسبب دَين، وهذا كما يقوله هو -رحمه الله- يقول: عيرت رجلاً قبل أربعين سنة بالفقر، قلت: يا مفلس، فابتلاه الله ؛ وذلك أنه اشترى زيتًا كثيرًا[6]، واستدان لهذه الصفقة، فوقعت فيه فأرة، فهو لا يريد أن يغش الناس، وهذه صفقة كبيرة جدًا، والفأرة إذا وقعت في السمن، كما أمر النبي ﷺ تخرج، ويؤخذ ما حولها، ثم بعد ذلك يؤكل السمن؛ لأنه جامد، لكن الزيت إذا وقعت فيه خلاص يراق، فأراقه جميعًا، وكثير من الناس الآن الذي قل ورعهم ما يدرون، يقول لي أحد الإخوان عن مطبخ من أشهر المطابخ: قدر كبير فيه ثلاثة ذبائح، وقط يلعب عند الطباخ، فقفز في القدر، فأخذ الملعقة الكبيرة يسمونها الملاس، وأخرج القط من الماء ما سخن الماء كثيرًا في البداية، فقال له الواقف عند هذا: هذا يصلح، فقال له: تريد أن أرمي ثلاث ذبائح، وهؤلاء الناس الذين بذلوا هذا المال، وعندهم ضيوف ومناسبة، ويأكلون ويلتذون، لو علموا أنه هذا وقع، بل لو علموا أنه ذباب واقع فيه لرموه، الناس الآن تغيرت، وصارت النظافة تعني الشيء الكثير بالنسبة لهم.
والقصد أن ابن سيرين أراق الزيت بكامله، وخسر، فصار صاحب الدَين يطالبه، فدخل الحبس، فمات أنس بن مالك صاحب رسول الله ﷺ، فجاءوا إليه فقالوا: إن أنس قد أوصى أنك أنت الذي تغسله، وتصلي عليه، فقال: لا يمكن هذا، قالوا: استأذنا الأمير، قال: أنا لم يحبسني الأمير، وإنما حبست بسبب الدَين، فذهبوا واستأذنوا من صاحب الدين، فتأمل! الأمير يقول: اخرج، وهو يقول: لا، ما أخرج، الحق لصاحب الدَين، فذهبوا واستأذنوا من صاحب الدَين، فأذن له أن يخرج ليغسل أنس بن مالك ، ويصلي عليه، ثم يرجع إلى الحبس![7].
وانظر إلى هذا الموقف الثاني له، السجان قال له: إذا كان الليل، فاذهب إلى أهلك، يعني: ما يدري أحد، فبت عندهم، فإذا أصبحت فتعال، فقال: لا، والله، لا أكون لك عونًا على خيانة السلطان[8].
وهذا الأوزاعي كان في لبنان، ولبنان في ذلك الوقت تعد من الثغور المتاخمة للعدو، فالعدو يمكن يأتي من جهة البحر، فالأوزاعي يقول: كان القاسم بن مخيمرة يقدم علينا ها هنا متطوعًا، يعني: يأتي للثغر يرابط تطوعًا، وما أُمر بذلك، فإذا أراد أن يرجع استأذن من الأمير، فقيل له: أرأيت إن لم يأذن لك، لو قال لك: لا تروح، قال: إذًا أقيم، ثم قرأ، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62][9].
فهذه أمثلة على بعض ما جاء عن السلف في باب وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية، ولعلي أكتفي بهذا حتى لا أطيل عليكم.
والله تعالى أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.تأت
- أخرجه أحمد ط 2 الرسالة برقم (19193).
- الطبقات الكبرى ط العلمية (3/58).
- أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم (4373) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (5531).
- أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز برقم (1406).
- تاريخ الخلفاء (ص:172).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/613).
- الطبقات الكبرى ط العلمية (7/18).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/617).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (5/202).