الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
وفي رواية عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها[1]رواه مسلم.
قوله ﷺ: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، يحتمل أن يكون النبي ﷺ قال له ذلك ابتداء، وقال له ذلك ثانية حينما سأل الإمارة، ولكن لا يخلو من بعد باعتبار أنه إن كان قال له ذلك ابتداء فإنه لن يسأل الإمارة، إن كان النبي ﷺ قد قال له هذا، ونصحه هذه النصيحة فلا يتصور أن يأتي بعد ذلك ويقول: يا رسول الله ألا تستعملني؟ يعني ألا توليني؟.
ويحتمل أنه سأل ذلك وقال له النبي ﷺ ما قال، وبعد مدة أعاد عليه النبي ﷺ تأكيداً لهذه الوصية، الشاهد أن قول النبي ﷺ له: يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، هذا فيه مكاشفة، ونُصح، فإن الإنسان قد لا يعرف بعض الجوانب في شخصيته لاسيما إن كان لم يجرب ذلك، قد يظن أنه يقوى على كثير من الأمور ولكنه قد يخفق عند التجربة، وقد يطلع على ذلك غيره، يعرفون ذلك في شخصيته، فمن حقه أن يُنصح، ويُصارح في هذا لكن بألطف عبارة سواء في هذا الباب أو غيره من الأبواب، يا فلان، لا تشتغل في هذا الباب، يا فلان، لا تأخذ أموال الناس وتقول: أحسن إليهم من أجل أن أوظف لهم هذه الأموال في مشروعات، ثم يحصل لهم بسبب ذلك خير وربح ونحو ذلك، لا تدخل في هذا الباب، يا فلان، لا تتساهل في الديون، وهكذا لا تدخل في عمل لم تتهيأ له، ولم تتأهب له أهبته، فإن الإنسان أحيانًا قد يلج في باب ولو في وقت أو في ساعة حماسة قد يدخل في باب احتساب: أمر بمعروف ونهي عن منكر، ولكنه حينما يبتلى لا يصبر، ينكسر، والنبي ﷺ يقول: ليس للمؤمن أن يذل نفسه، وسئل عن هذا فقال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه[2]، فلا يلج في باب إلا وهو يحسن ذلك، ويستشير من يثق به، والمسلم ينصح لأخيه، يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، فلم يغضب ولم يقل: لا، أنا قوي، كيف حكمت عليّ بالضعف؟.
إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي وهذه مقدمة لا شك أنها في غاية التأثير في محو وإزالة ما يمكن أن ينتج عن مثل هذه المصارحة، قد يأتي الشيطان للإنسان حينما يُنصح ويقول له: هذا يتنقصك، هذا يحط من قدرك، ومنزلتك، وشخصيتك، فإذا قال له مثل هذا الكلام: وإني أحب لك ما أحب لنفس عرف أن قصده النصح، وليس التقليل من شأنه، والتحقير منه.
قال: لا تَأمَّرنّ على اثنين، ولا تَولَّينَّ مال يتيم، ذكر له هاتين القضيتين، وذلك يتصل بهذا الجانب الذي حصل عنده النقص فيه، وهذه الأمور هي مواهب من الله -تبارك وتعالى، فمن الناس من يكون في غاية الأمانة، والديانة، والصلاح والخوف من الله كأبي ذر، فإن النبي ﷺ أخبر أنه يحشر أمة وحده، ومع ذلك قال له: إني أراك ضعيفًا، فنهاه عن تولي الإمارة في أدنى صورها: لا يتأمر على اثنين، ولا يتولى مال يتيم؛ لأن تولي مال اليتيم يحتاج إلى أمانة وقوة، وقد يكون الإنسان أمينًا لكنه ضعيف فيضيع هذا المال، ويذهب ويتبخر، فيحتاج إلى رجل حازم قوي، وهكذا ما يتعلق بسائر الأمانات، ولهذا يقول ابن الصلاح -رحمه الله:
احذرْ من الواوات | أربعةً فهُنَّ من الحتوفِ |
واوَ الوصية والوديعة | والوكالة والوُقوفِ[3] |
هو لا يقصد الواو وإنما يقصد هذه الكلمات المبدوءة بالواو وما دلت عليه:
احذرْ من الواوات | أربعةً فهُنَّ من الحتوفِ |
واوَ الوصيةِ والوديعة | والوكالة والوُقوفِ |
هذه أربعة أشياء، يعني لا تكن ناظرًا على وقف، ولا تكن وصيًّا على يتيم أو على مال أو نحو ذلك، ولا تكن وكيلاً أيضاً لأحد على ماله أو على أولاده، وهكذا الوديعة، الشاهد أنه حذره من هذا وأن يتولى على مال يتيم، وهذا يدلنا على أن ديانة الإنسان وصلاح الإنسان لا تعني بالضرورة أنه كامل في الجوانب الأخرى، واللهِ ديّنٌ وطيّبٌ وخيّرٌ ثم تضع عنده مالك فيضيع هذا المال، هو ديانته وصلاحه شيء، ولكن المال يحتاج إلى إدارة مع الأمانة، وكثير من الناس قد يضعف أصلًا لا لعجز في التدبير، بل هو داهية لكن تضعف نفسه عند المال، فإذا تولى على مال يتيم حصل له الطمع، واستحوذ على هذا المال بتأويل أو بغير تأويل، وإذا تولى مالاً لغيره فإنه يضعف، تضعف نفسه، ويحصل منه تجاوز في هذه الأموال، وهذا كثير، والله المستعان.
والرواية الأخرى لما قال: ألا تستعملني؟ فضرب بيده على مَنكِبه، والمَنكِب هو ما بين منتهى العضد إلى الرقبة، قال: ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، ما جامله، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، يعني لمن فرط وضيع، ولم يقم بها كما أمر الله -تبارك وتعالى، ولا يذهب ذهنك بعيدًا يعني أن تحصر هذا في الملك والإمارة ونحو ذلك، لا، حينما يكون الإنسان مدير مدرسة، أو مدير مستشفى، أو مدير قسم أو نحو ذلك هذه إمارة، هذا داخل فيه، وكثير من الناس يتطلع إلى هذه الأمور ويرى أنها من المآثر، قال: إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها، أخذها بحقها هو أهل لها ما أخذها بطريق آخر، وقام بما يجب وأدى الحق في ذلك فهذا يؤجر كما لا يخفى، بل الإمام العادل مع السبعة الذين يظلهم الله في ظله[4].
وذكر أخيراً:
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، برقم (7148).