الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما ورد عن السلف في باب "النهي عن سؤال الإمارة، واختيار ترك الولايات إذا لم يتعين عليه، أو تدعُ حاجة إليه" ما جاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه قال: "لو كان لي أن أعهد -يعني في الخلافة، ما عدوت صاحب الأعوص"، يعني إسماعيل بن أمية، "أو أعيمش بني تيم" يعني القاسم بن محمد، يعني هؤلاء من أهل الصلاح والتقى والعلم وقد بلغت هذه الكلمة التي قالها عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- القاسم بن محمد وهو من الفقهاء السبعة في المدينة، فقال: "إني لأضعف عن أهلي فكيف بأمر الأمة؟"[1]، يعني إني لا أكاد أستطيع القيام بالمسئولية، والأمانة التي أنيطت بي تجاه أهلي، فكيف أتولى أمر الأمة؟.
وعن ميمون بن مهران قال: "إني وددت أن أصبعي قطعت من هاهنا، وأني لم ألِ لعمر بن عبد العزيز ولا لغيره"[2]، ميمون بن مهران إمام، من خيار التابعين.
وجاء عنه: "وددت أن إحدى عينيّ ذهبت، وأني لم ألِ عملا قط، لا خير في العمل لعمر بن عبد العزيز ولا لغيره"[3]، عمر بن عبد العزيز عُد خامس الخلفاء الراشدين آية في العدل وفي الزهد، ويقول ميمون بن مهران هذا الكلام، فأين الذين تستشرف نفوسهم للرئاسة، وتطمح للولاية، ويبحث عن الشرف والرفعة في قلوب الخلق، والحظوة ولو كان ذلك ببذل دينه؟! يلي الإنسان العمل أحياناً وهو لا يصلح، وليس له فيه نية، ثم بعد ذلك يحصل بسبب ولايته وبلاء الناس به يحصل لهم ضرر في دنياهم، ولربما يحصل لهم ضرر في دينهم، كان ميمون بن مهران ولي قضاء الجزيرة وخراجها، يقول الذهبي: "وكان من العابدين"[4].
وجاء عنه أنه قال: "وددت أن عيني ذهبت وبقيت الأخرى أتمتع بها، وأني لم ألِ عملًا قط، فقيل له: ولا لعمر بن عبد العزيز؟، قال: لا لعمر، ولا لغيره"[5].
وجاء عن مكحول: "لأنْ أُقدم فتضرب عنقي أحب إليّ من أن ألي القضاء، ولأنْ ألي القضاء أحب إليّ من أن ألي بيت المال"[6].
وكان أيوب السختياني -رحمه الله- صديقاً ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، فلما صارت الخلافة إلى يزيد بن الوليد هل قال أيوب: فرصة الآن هذا صديق لي لن ينسى الصداقة والعلاقة وسيعهد إليّ بشيء من الولايات، ويعطيني شيئًا من الأموال، وسأكون من أهل الحظوة والقرب منه؟ فرح بهذا؟ لا، لما ولي الخلافة يزيد قال أيوب: "اللهم أنسه ذكري"[7]، يعني لئلا يذكره فيوليه شيئاً من الولايات.
وهذا محمد بن واسع آية في الورع والزهد والعبادة، دعاه مالك بن المنذر، وهو أحد الولاة فقال: "اجلس على القضاء، فأبى، فعادوه ثانية، وقال: "لتجلسن أو لأجلدنك ثلاثمائة، قال: إن تفعل فإنك مسلط، إنّ ذليل الدنيا خير من ذليل الآخرة"[8]، وطلب منه بعض الأمراء أن يتولى له بعض الولاية فأبى، فقال له أمير: "إنك أحمق"، فقال محمد بن واسع: "ما زلت يقال لي هذا منذ أنا صغير"[9]، يعني إذن لماذا أتولى ولاية؟!
ويقول الليث بن سعد: قال لي أبو جعفر المنصور: "تلي لي مصر؟"، ومصر قرينة الشام، وهذا الليث بن سعد يُعدل بمالك بن أنس، إمام من أئمة الفقه والعلم، يقول له أبو جعفر المنصور، وأبو جعفر المنصور كبير الخلفاء العباسيين، يقول: "تلي لي مصر؟"، فقال: "لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي"، فقال: "ما بك ضعف معي، ولكن ضعفت نيتك في العمل لي"[10].
وكان بشر بن منصور -رحمه الله، لربما قبض على لحيته، وقال: "أطلب الرياسة بعد سبعين سنة؟"[11]، مع أن هذه القضية تبقى شابة عند الإنسان، حب المال، وحب الشرف والرئاسة، ولربما يعارك الإنسان على مثل هذه الأمور ويوالي، ويعادي ويسعى جهده من أجل تحصيل شيء من ذلك.
وهذا السلطان مسعود جاء إلى بغداد وكان يحب زيارة العلماء والصالحين، فالتمس حضور ابن الطَّلَّاية، فقال للرسول: "أنا في هذا المسجد"، هذا ابن الطَّلَّاية رجل من العباد الزهاد يقول: "أنا في هذا المسجد -يقول لرسول الأمير- أنتظر داعي الله في النهار خمس مرات، فذهب الرسول، يعني هو يعتذر ما أستطيع أن آتي إليه وأنا جالس في المسجد، فالرسول أخبر الأمير بذلك، فقال السلطان: أنا أولى بالمشي إليه، لا يأتي، فزاره فرآه يصلي الضحى، وكان يطولها، يصليها بثمانية أجزاء، فصلى معه بعضها، فقال له الخادم: السلطان قائم على رأسك، يعني ينتظر، خفِّف الصلاة، فلما سلم قال: أين مسعود؟ أين الأمير؟ قال: ها أنا، قال: يا مسعود، اعدل، وادع لي، الله أكبر وجعل يصلي[12]، وهذا الأمير يحب العلماء ويزورهم ويبحث عنهم ويتفقدهم، ثم دخل في الصلاة، فبكى السلطان، وكتب ورقة بخطه بإزالة المكوس والضرائب، وتاب توبة صادقة من هذه الكلمة.
والأخبار عنهم في هذا كثيرة، ونخرج من هذا بفائدة وهي أن الإنسان يبتغي ما عند الله ، وهذه الولايات من القضاء وغيره هي من فروض الكفايات، وإنما المذموم أن يتطلع الإنسان لهذا أو يبذل دينه لهذا، أو أن يخطئ في النظر والتصور والفهم، فيظن أن ذلك من المكاسب العظيمة، والمطالب العالية، فيسعى جهده من أجل الوصول إلى هذا بكل سبيل مستطاع، فهذا مذموم، إنما هي أمانة كبيرة يُسأل الإنسان عنها، ولو استشعر الناس هذا المعنى فإنه ولابدّ سيؤثر في سلوكهم وأعمالهم، لو أن الإنسان الذي حصلت له ولاية صار مديراً لجامعة أو مديراً لوزارة أو نحو ذلك استشعر هذا المعنى أنها أمانة ثقيلة، أن الله سيحاسبه على ذلك، أن هذا عبء، سيقف بين يدي الله ويسأله عن الصغير والكبير فإنه سيؤدي العمل بصورة تختلف تماماً، وسيلتفت لحاجات الناس ولمشكلاتهم وهمومهم، ويتفقد ذلك بنفسه.
وإذا كان الإنسان يستشعر أو يفهم أن هذه القضية هي عبارة عن شرف ما بعده شرف، فإنه يحرص على التمسك بها بيديه ورجليه والمهم عنده ألا يزاول من الأعمال ولا يصدر منه من الأقوال والفعال إلا ما يثبّته في هذا المكان فقط، فإن كان يشعر أن تركه لحاجاتهم أو نحو ذلك أن هذا يثبّت ويقوّي في هذا المكان فعل، وهكذا يكون سلوكه بحسب هذا الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، فهذه مصيبة، وأمانة مضيعة، فنسأل الله أن لا يجعلنا وإياكم ممن يريدون علوًّا في الأرض ولا فساداً، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (5/ 59).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (61/ 352)، وسير أعلام النبلاء (5/ 72).
- سير أعلام النبلاء (5/ 73).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (5/ 77).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (60/ 220)، وسير أعلام النبلاء (5/ 161).
- سير أعلام النبلاء (6/ 22).
- تاريخ دمشق، لابن عساكر (56/ 167)، وسير أعلام النبلاء (6/ 122).
- سير أعلام النبلاء (6/ 122).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (50/ 367)، وسير أعلام النبلاء (8/ 146).
- سير أعلام النبلاء (8/ 360).
- المصدر السابق (20/ 262).