الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد ورد عن السلف في هذا الباب الذي نحن بصدده: باب "حث السلطان والقاضي وغيرهم من ولاة الأمور على اتخاذ وزير صالح وتحذيرهم من قرناء السوء والقبول منهم" آثار كثيرة جدًّا تدل على هذا المعنى من كلامهم وفعالهم.
منها: ما جاء عن عمر بن عبد العزيز، كما ذكر ذلك الإمام مالك -رحمه الله- أنه كان لا يقضي بقضية حينما كان أميرًا على المدينة حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل إليه إنسانًا يسأله، فدعاه، فجاء، فقال: عمر له: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه ليسألك، وأنت في مجلسك، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه، وكنت أُوتَى بما عند سعيد بن المسيب[1].
يعني: لا يتعنّى ويأتي ويحضر إلى مجلسه -إلى مجلس عمر بن عبد العزيز، وهو أهل لذلك، ولكنه كان يبعث إليه من يسأله إجلالًا له.
وجاء عن معاوية أنه قال لفضالة بن عبيد: إني قد وليتك القضاء.
فاستعفى منه، فقال: والله ما حابيتك بها، ولكني استترت بك من النار، فاستتر منها ما استطعت[2].
وبعث أبو بكر الصديق إلى أنس ليوجهه على البحرين ساعيًا، فدخل عليه عمر، فقال: إني أردت أن أبعث هذا على البحرين، وهو فتى شاب، يعني: أن أبا بكر يستشير عمر في تولية أنس فقال عمر: ابعثه، فإنه لبيب كاتب، فبعثه، فلما قُبض أبو بكر قدم أنس على عمر، فقال عمر: هات ما جئت به، يعني: من المال، فقال: يا أمير المؤمنين، البيعة أولًا، فبسط يده[3].
وهذا يدل على كمال عقله وحسن نظره.
وقد جاء عن الأحنف بن قيس أنه قال: لا يتم أمر السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا تنفع المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفة[4].
عنده حسن نظر بالأمور، وعنده عفة بمعنى أنه لا يختلس، ولا يريد أن يتوصل من هذه الولاية إلى تحصيل الأموال والمكاسب والثروة، وما أشبه ذلك، وينبغي أن يضاف إلى هذا، وإن كان مضمنًا في النصيحة "إلا بالمودة والنصيحة" لكن على سبيل التصريح: الديانة، أن يكون صالحًا تقيًّا، يخشى من الله .
وذكر عبد الله بن المبارك -رحمه الله- أن فقهاء أهل المدينة الذين كان الناس يصدرون عن رأيهم سبعة، وهم: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وسالم، والقاسم، وعروة، وعبيد الله بن عبدالله، وخارجة بن يزيد، وكانوا إذا جاءتهم مسألة دخلوا فيها جميعًا، فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها، فيصدر الناس عن قولهم[5]. وهؤلاء أئمة معروفون.
والمقصود بسالم: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب .
وقيل: إن مروان لما قرر ابنه عبد العزيز على مصر جعل عنده موسى بن نصير، ثم كان موسى مع بشر بن مروان وزيرًا بالعراق، ولما كتب ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز، يقول: إني شيخ كبير رقيق، كلفتني أن أقضي بين الناس، وكان علي الخراج والقضاء بالجزيرة، فكتب إليه: إني لم أكلفك ما يُعنِّيك، اجبِ الطيب من الخراج، واقضِ بما استبان لك، فإذا التبس عليك شيء فارفعه إليّ...[6].
وولى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- نافعًا صدقات اليمن[7].
ولزم عون بن عبد الله عمر بن عبد العزيز، فكانت له منه مكانة، وقد كان طال مقام جرير الشاعر، والشاعر كانت له حظوة عند الخلفاء، قبل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- له منزلة، وله مكانة، يأتي ويدخل ويمدح ويُعطَى الأموال الطائلة، لما جاءت خلافة عمر بن عبد العزيز صار جرير ينتظر بالباب طويلًا، لا يؤذن له، فكتب إلى عون بن عبد الله هذه الأبيات، ليدخله على عمر بن عبد العزيز، يستشفع بهذا العالم، يقول:
يا أيها القارئُ المُرخِي عمامته | هذا زمانك إني قد مضى زمني |
أبلغ خليفتنا إن كنتَ لاقيَه | أني لدى الباب كالمصفودِ في قَرَن[8] |
وذلك أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قرب أهل الفضل والخير والدين والصلاح والعلم.
وكان صالح بن كيسان مولى امرأة من دوس، وكان عالمًا فضمه عمر بن عبد العزيز إلى نفسه، حينما كان أميرًا على المدينة، وكان يأخذ عنه، ثم بعث إليه الوليد بن عبد الملك، فضمه إلى ابنه عبد العزيز بن الوليد[9].
ودخل أبو حازم المديني على أمير المدينة، فقال له أمير المدينة: تكلم، فقال له -وهذه عبرة وحكمة عظيمة جدًّا: انظر الناس ببابك، إن أدنيت أهل الخير ذهب أهل الشر، وإن أدنيت أهل الشر ذهب أهل الخير[10]، هذه حكمة بالغة.
وكان سليمان بن عبد الملك يستعين في أمر الرعية بعمر بن عبدالعزيز، وعزل عمال الحجاج[11].
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (4/ 225).
- المصدر السابق (3/ 115).
- المصدر السابق (3/ 401).
- المصدر السابق (4/ 95).
- المصدر السابق (4/ 461).
- المصدر السابق(5/ 74).
- المصدر السابق (5/ 98).
- المصدر السابق (5/ 104).
- المصدر السابق (5/ 454).
- المصدر السابق (6/ 100).
- المصدر السابق (5/ 112).