الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(60) دعاء لبس الثوب الجديد " اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه ... "
تاريخ النشر: ٠١ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 2864
مرات الإستماع: 5835

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: في هذه الليلة -أيها الأحبة- نتحدث عن حديثٍ آخر من أحاديث الأذكار مما يتَّصل باللباس، وذلك ما إذا لبس ثوبًا جديدًا، ماذا يقول؟ فهذه نعمةٌ مُضافةٌ، نعمةٌ جديدةٌ أعطاها اللهُ -تبارك وتعالى- لعبده، فهي مُستوجبة لشكرٍ جديدٍ.

بالأمس تحدَّثنا عمَّا يقوله مَن لبس ثوبًا، ولو لم يكن ذلك جديدًا، يعني: كلَّما لبس قال ذلك، أمَّا في هذه الليلة فماذا يقول حينما يلبس ثوبًا جديدًا لم يلبسه من قبل؟

كان النبيُّ ﷺ كما في حديث أبي سعيدٍ الخدري : "إذا استجدَّ ثوبًا سمَّاه باسمه: عمامة، أو قميصًا، أو رداءً"[1]، سمَّاه باسمه يقول: هذا قميصٌ، هذه عمامة، هذا رداء. المرأة قد تقول: هذه بلوزة، هذا قميص، هذه تنورة، أو نحو ذلك مما تلبسه المرأةُ: "سمَّاه باسمه".

يحتمل أن يقول: هذا قميصٌ؛ لأنَّ الثوبَ قد يكون قميصًا، وقد يكون إزارًا، وقد يكون رداءً، ويذكر الدُّعاء فيقول: هذا قميصٌ، اللهم لك الحمدُ أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صُنِعَ له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ له.

ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّه يقول ذلك في أثناء هذا الذكر؛ يعني: لا يقوله ابتداءً، كما في الاستخارة حينما يُسمِّي حاجته، إذا استخار يُسمِّي ما يُريد: من سفرٍ، من شراء سلعةٍ، أو غير ذلك، فيقول هكذا إذا استجدَّ ثوبًا: اللهم لك الحمدُ أنت كسوتني هذا القميص؛ يعني: بدلًا من أنت كسوتنيه: أنت كسوتني هذا القميص، أنت كسوتني هذه العمامة.

المرأة تقول: أنت كسوتني هذه العباءة، أنت كسوتني هذا الفستان، أسألك من خيره وخير ما صُنِعَ له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ له.

وكأنَّ هذا هو الأقرب -والله أعلم-؛ إذ إنَّه لا يعلم بأنَّ هذا قميص، أو أنَّ هذا رداء؛ يعني: يقول: هذا رداء، ثم يقول: اللهم لك الحمد. فإنَّ هذا فيما يبدو لو قال قائلٌ بأنَّه لا جدوى له، ولا فائدة من هذه التَّسمية ابتداءً؛ لكان ذلك مُستقيمًا، والله أعلم.

حينما يقول الإنسانُ مثل هذا: اللهم إني أسألك من خيره وخير ما صُنع له. خير هذا الثّوب ما هو؟ خير هذا الملبوس ما هو؟ ما خير هذه الغُترة؟ ما خير هذا الرِّداء؟ ما خير هذا القميص، وخير ما صُنِعَ له؟

خيره يدخل فيه نفعه المقصود من شرائه، من كون الإنسان لابسًا له، ماذا يُريد من هذا اللباس؟ فإنَّ هذه الألبسة لها منافع، فمن منافعها أنها تستر العورة، وهذا قدرٌ واجبٌ، ومن منافعها أنها تستر البدن، وتكون أيضًا زينةً وجمالًا يتجمّل به الإنسان، والله -تبارك وتعالى- يقول: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].

هنا خُذُوا زِينَتَكُمْ حمله جمعٌ من أهل العلم من الفقهاء والمفسّرين على أنَّ المقصود به ابتداءً؛ يعني: أنَّ الآية نزلت ابتداءً بستر العورات؛ لأنَّهم كانوا يطوفون بالبيت عُراةً: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ مواضع العبادة، عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في بيوت الله -تبارك وتعالى-، أماكن الصَّلاة، فكان كما في "صحيح مسلم": "كانت العربُ تطوف بالبيت عُراةً"[2]، المرأة تطوف وتقول وهي نافشةٌ لشعرها تُواري به سوءتها:

اليوم يبدو بعضُه أو كلّه  وما بدا منه فلا أُحلّه[3]

هكذا يتعبَّدون الله بهذا العُري عند بيته الحرام، يعتقدون أنَّ هذه الثياب التي عصوا الله -تبارك وتعالى- فيها أنَّه لا يصحّ الطواف أو الإحرام بها.

وكان من أنساكهم ومن محظورات الإحرام عندهم في الجاهلية أنَّهم إذا وصلوا إلى منطقة الحرم -حدود الحرم- وأرادوا الإحرام؛ فإنَّهم يُلقون ما معهم من الأزواد، لا يدخلون إلى مكّة -إلى الحرم- بشيءٍ من الأزواد، وكانت قبيلةُ قريشٍ هي التي تُقدِّم لهم ما يحتاجون إليه من العسل، تسقيهم العسل، واللَّبن، والنَّبيذ، وماء زمزم، وما إلى ذلك؛ ولهذا كانوا إذا جاء الموسمُ –أعني: قريشًا- لا يسلؤون، ولا يأقطون؛ يعني: لا يُخرجون شيئًا من الألبان، كل ذلك يجعلونه لوافدي البيت الحرام، ويفتخرون بهذا، مجَّانًا.

فعلى كل حالٍ هذا كان من تعبُّدهم، ومن تعبُّدهم في الإحرام ومناسكهم أنَّهم ينزعون عنهم الثِّياب، بزعمهم أنَّهم قد عصوا الله فيها، فلا يطوف أحدٌ بثوبٍ إلا أن يكون هذا الثوبُ من الجديد الذي ما لبسه من قبل؛ يعني: ما عصى اللهَ فيه، أو أن يكون له أحدٌ من الحمس -وهم قريش ومَن ولدت- فيُعيره ثوبًا -يعني: من ثياب أهل الحرم- فيطوف به، ولكن في النِّهاية لا بدَّ من العُري، ثم يُلقى هذا الثوب الجديد الذي طاف به في نهاية المطاف، يُلقى في نفس المطاف، ويطأه الناس بأقدامهم، ولا يأخذه أحدٌ؛ ولهذا يُمثلون أحيانًا للقتيل تحت الخيل، أو نحو ذلك في أرض المعركة، يُمثلونه باللّقا، اللّقا: هو الثوب الطَّريح الملقى في صحن الحرم، يدوسه ويطأه الطَّائفون بأقدامهم، كأنَّه لقا، فلا بدَّ من إلقائه.

فهذا كلّه من أعمال الجاهلية، وهو مُحرمٌ، فستر العورات هذا من المطالب الشَّرعية، مما يُقصد باللباس: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يدخل فيه ستر العورات، ويدخل فيه أخذ الزينة والتَّجمل؛ لأنَّ الزينة -كما هو معلوم- إمَّا أن تكون خلقةً؛ فالله خلق الإنسانَ في أحسن تقويمٍ في الظَّاهر والباطن. وإمَّا أن يكون بقدرٍ زائدٍ يتجمّل به، وهذا يكون بالثِّياب، ويكون أيضًا بالأصباغ بالنسبة للنِّساء: الكحل، الحنَّاء، الحمرة، وما إلى ذلك، مكياج. كل هذا من الزينة: الأصباغ بأنواعها، والقسم الثالث الذي هو الحُلي؛ ولهذا يقول الشَّاعر:

وما الحلي إلا حيلة لنقيصةٍ يتمم من حسنٍ إذا الحسن قصرا
فأمَّا إذا كان الجمالُ مُوفَّرًا كحُسنك لم يحتج إلى أن يزورا[4]

ولهذا قال الله : أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف:18] يعني: المرأة تحتاج إلى تجميلٍ، لكن لو طلع رجلٌ ووضع على وجهه المكياج، ولبس حليةً، وعليه أساور من ذهبٍ، وعليه قلادة؛ لكان ذلك في غاية القُبح؛ لأنَّ جمال الرجل فطري، لا يحتاج إلى تكميلٍ، أمَّا المرأة فإنَّ ذلك يزيدها جمالًا وزينةً.

فحينما يقول الإنسانُ: "أسألك خيره وخير ما صُنِعَ له" يدخل فيه ستر العورات، يدخل فيه التَّجمل، وهذا من المكملات، ويدخل فيه ما بين ذلك، وهي الأمور الحاجيّة؛ يعني: غير الأمر الواجب الذي لا بدَّ منه، وهو حتمٌ؛ أعني: ستر العورة، فيدخل فيه ما بين ذلك: تقيكم الحرّ: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81]، فهذه الثِّياب تقي الناسَ الحرَّ، فهي من الأمور التي يحتاجون إليها، وتقيهم أيضًا البرد، فهذا كلّه عائدٌ إلى هذه الثِّياب، كما أنَّ الدُّروع التي يلبسها المقاتلون في الحرب تقيهم البأس وضرب السلاح، وما إلى ذلك.

فهنا هذا اللباس يستر العورات، ويقي الأجساد من الحرِّ والبرد، ويكون زينةً وجمالًا، فيحسن مظهره ومنظره.

تصور لو كان الناس؛ يعني: حتى تعرف نعمة الله بهذه الألبسة، حينما يقول الإنسانُ هذا الذكر إذا حصل له ثوبٌ جديدٌ، تصور لو أنَّه كما كان في السَّابق -كما يقول المؤرخون- فجاء قُطَّاع طرقٍ، أو جاء العُربان، أو نحو ذلك إلى قافلةٍ من الحجيج، أو إلى المسافرين، فأخذوا ما بأيديهم، وأخذوا ما عليهم من اللِّباس، تصوّر! تركوهم بلا لباسٍ! كيف يكون حالُ الإنسان؟! فيكون أول ما يطلب هو اللِّباس، كيف سيقدم على الناس؟ كيف سينتقل إلى بلدٍ آخر، إلى قريةٍ، إلى مكانٍ، إلى وجهةٍ؟

فهذا اللباس نعمةٌ عظيمةٌ من الله -تبارك وتعالى-، ولا يقدر هذه النِّعَم ويعرفها إلا مَن فقدها.

وكذلك أيضًا حينما يُقال: من خيره وخير ما صُنِعَ له ما يترتب على هذا اللباس وينشأ عنه من الخير أو الشَّر: من خيره وخير ما صُنِعَ له، ما يترتب عليه من الخير الذي يكون بطاعة الله وعبادته مثلًا، فهذا من المطالب الشَّرعية: أن يصرف ذلك في مرضاة الله -تبارك وتعالى-، من خير هذه الثِّياب أنَّه يحصل مطلوبُ لابسيها، يُريد بها ماذا؟

يُريد بها التَّجمل، يُريد بها الدّفء، يُريد بها التَّبريد للبدن، قد يلبس الإنسانُ لباسًا ولا يُلائمه، وقد يلبس لباسًا فيمرض بسبب ذلك، فالآن تجد ألبسةً مُسرطنة، أليس كذلك؟ مصنوعات ومنسوجات مُسرطنة، وكم من إنسانٍ لبس ثوبًا فكان هذا اللباسُ هو آخر عهده بعافيته، وهذا أمرٌ يعرفه الناس، أمرٌ معلومٌ، فهذا كلّه داخلٌ في قوله: أسألك خيره وخير ما صُنِعَ له، صُنِعَ لماذا؟

وفي المقابل: أعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ له، شرّ هذا اللباس؛ قد يكون هذا اللباسُ سببًا للاعتلال والمرض، بعض الألبسة تكون سببًا لتنامي الأشياء الضَّارة التي تضرّ بالبدن من أنواع الهوام، والجراثيم، وغير ذلك، تتكاثر فيها، فهذا الإنسان لا يشعر، وبعض هذه الألبسة قد تكون مُشتملةً على السُّموم، تعرفون أنَّ بعض الشُّعراء في الجاهلية كانت قتلتُه بلباسٍ أُهدي له من بعض الملوك، حُلَّة، ففرح بها ولبسها، ولكن كانت نهايتُه في ذلك، فالإنسان لا يدري عمَّا يقتني، وعمَّا يلبس، وعمَّا يُعافس.

فهنا أيضًا يدخل فيه شرُّ هذا اللباس، شرُّ ما صُنِعَ له: الكبر، الخيلاء، البطر، المفاخرة، وهذا قد يكون قليلًا بالنسبة للرجال، الرجل ماذا يلبس؟

كما ترون في لباسنا هذا، ربما بعض الناس نُعِّمَ فيُبالغ في الملابس، ويبحث عن الأغلى، ولكن أظنّ أنَّ هؤلاء يُمثلون فئةً قليلةً، ربما تجد البعض يبحث عن قميصٍ مثلًا يلبسه، وهو لا يشتري إلا الأشياء الغالية، يشتري بالآلاف، ونفس القميص، نفس النوع، نفس اللون، بجميع مُواصفاته في سوقٍ شعبيٍّ بخمسة عشر ريالًا، لكن ذاك لا يغشاه إلا الكُبراء؛ السوق الذي اشتراه منه، نفس الثوب، وقد قال هذا بعضُ الباعة: عنده مكانٌ في سوقٍ شعبي، ومكانٌ آخر في سوقٍ من الأسواق الرَّاقية جدًّا، التي لا يأتيها إلا أهل الثَّراء، يقول: نفس الثّوب أبيعه هنا بكذا، وأبيعه في المكان الآخر بكذا.

وهؤلاء حينما يسألون ويستفتون يقول لك: ذاك ما يمكن أن يشتريه لو قلت له: بخمسة عشر ريالًا، وأنا رابحٌ أضعاف قيمته، لكن لا بدَّ أن أقول له: أنَّ هذا القميصَ بأربعة آلاف ريالٍ، فهنا يشتريه، ساعة بمئة وخمسين ألف ريال، ساعة بأربعمئة ألف، وبعضهم يقول: أنا ما ألبسها إلا عند العقود، والوفود، والشَّركات؛ لأنَّ هؤلاء لا ينظرون إلى وجهي، ينظرون إلى لباسي، فأنا آتي عندهم وأقول لهم: كيف الحال؟ فإذا نظروا إلى السَّاعة أخذهم ما قرب، وما بَعُد، وصاروا يقدِّروني، ويحترموني، ويتعاملون معي بحرصٍ، وجدوا أني أملك لربما عشرة آبار نفطيَّة في نظرهم من أجل هذه السَّاعة التي رأوها عليَّ.

هذا لا يُبرر له أن يلبس هذه الألبسة، لا سيما إذا كانت مُحرَّمةً من الذَّهب، فهنا يدخل فيه الأشرُ والبَطَرُ والكِبْرُ والتَّعالي على الخلق، وأكثر ما يكون ذلك عند النِّساء؛ لأنَّ ألبسةَ النِّساء ليست كألبسة الرِّجال، ويدخلها هذا التَّفاوت الكبير في أشكالها، وأنواعها، ومُوديلاتها -كما يقولون-، وألوانها، وأيضًا في الأموال التي تُشترى بها، وكثيرٌ من النِّساء تبحث عن الأشياء التي تكون غالية الثَّمن، تُجاري فيها الآخرين، كما يقولون: ماركة، ما تلبس إلا ماركة، لماذا ماركة؟ لتُباهي، والتي لا تجد؟!

المتشَبِّع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبي زورٍ[5]، تبحث عن الأشياء المقلّدة، هذه الحقيبة التي في نظري ما تُساوي أربعة ريالات، لا صورة، ولا معنى، شكلها غير مقبولٍ، ولا تُمثِّل شيئًا، يشترونها بألفين وخمسمئة، وثلاثة آلاف، وأربعة آلاف، غير جميلةٍ، لكن ماركة! هذه ماركة! وإذا كانت ماركة، أنا الله أعطاني عقلًا، وأعطاني عيونًا، وأعطاني حسًّا، وأعطاني فهمًا، ما الماركة؟

فمَن لا تستطيع ماذا تفعل؟ تشتري تقليدًا بسبعةٍ وعشرين ريالًا، وتُظهرها من فوق العباءة، تتجمَّل بها أنها تلبس ماركة، هذا مُتَشَبِّع بما لم يُعْطَ، كلابس ثوبي زورٍ.

فللنِّساء أشياء من هذا كثيرة تقع.

من شرِّه شرّ اللباس، النِّساء، التَّعرِّي، الكاسيات العاريات في بعض المعاني المشهورة للحديث، العُري باللباس، اللباس الشَّفاف، اللباس الضَّيق الذي يُبين مفاتن الجسد، ولو كان أمام النِّساء، فإنَّ هذا لا يجوز، تتعرى المرأةُ، تُظهر بطنَها وظهرَها ونحو ذلك أمام النِّساء، لا يجوز، تلبس لبسًا مُحتشمًا، واسعًا، ضافيًا أمام النِّساء، وأمام المحارم.

فهذا كلّه من شرِّه، من شرِّ هذا اللباس، وشرِّ ما صُنِعَ له فخر، خُيلاء، مُباهاة أمام الآخرين: فلانة ما تلبس إلا ماركات. فهذا كلّه لا قيمةَ له في نظر العاقل البصير، الذي ينظر إلى ما وراء الأشياء، وإلى الحقائق:

خذ بنصل السيف واترك غمده[6]  

العِبرة ليست بالغمد، العبرة بما تحت الثِّياب، ماذا يحمل الإنسانُ من دينٍ، وعقلٍ، وأخلاقٍ؟ ما فائدة ثيابٍ يتجمَّل بها، ولكن من الدَّاخل مُختلٌّ: لا عقلَ، ولا دينَ، ولا مُروءةَ، ولا خُلُقَ؟ ما الفائدة؟

فالمقصود -أيها الأحبّة- أنَّ شرَّ اللباس: التَّعري، التَّبرج، المباهاة، الفخر، الخُيلاء، إظهار أشياء غير حقيقيَّة أنها من ذات ثراءٍ وغنًى، ولو بالدُّيون والقروض، ولو بالأشياء المقلّدة، السوق مليء بالأشياء الضَّارة من النَّاحية الصحية، فمَن لم يُزيّن باطنَه بالإيمان والعمل الصَّالح والتقوى والأخلاق الكريمة؛ لم تُغْنِ عنه زينتُه الظَّاهرة.

فهذا اللباس -أيها الأحبة- نعمةٌ امتَنَّ اللهُ بها علينا: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا، وانظروا ماذا قال معه: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، يقرن بين اللِّباسين: هذا اللباس الذي نتجمَّل به، ثم يُذكِّر باللباس الآخر الأهم: لباس التَّقوى، لباس التَّقوى هو الذي يستر الإنسانَ حقيقةً؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: رُبَّ كاسيةٍ في الدُّنيا عاريةٍ في الآخرة[7]؛ لأنها ليست ممن له لباس التَّقوى.

أعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ له فكل ما يحويه من الشُّرور، أو مما يُقصد به من المقاصد المحرَّمة، وما يكون فيه من التَّبعة؛ هذا كلّه داخلٌ فيه، فيكون اللباسُ المقصود بأن يكون مُبلغًا للمطلوب هذا الذي صُنع لأجله هذا الثوب: العون على العبادة، الطاعة لله ، ولا يكون نجسًا، ولا مُحرَّمًا.

يكثر سؤال النِّساء هذه الأيام عن أحذيةٍ -أعزَّكم الله ومَن يسمع- فيها مثلًا جلد خنزير، فيها شعر خنزير، وما أشبه ذلك من الأمور التي يحرم عليها أن تلبسها، كذلك جلود السِّباع، فهذا من شرِّ اللباس.

وكذلك أيضًا أن يكون ذلك اللباسُ سببًا للمعاصي؛ يعني: بعض الناس قد يلبس ألبسةً مُعينةً ليفتن بها؛ ليُوقع بالآخرين، يعني: شابٌّ يلبس ألبسةً مُعينةً ليُوقع بالفتيات، فيذهب إلى الأسواق، أو غير ذلك، وامرأة قد تلبس ألبسةً فاتنةً، مُتبرجةً، ولو كانت عباءةً، كما يُقال: عباءة فرنسية، عباءة كذا، عباءة كذا، وتخرج في غاية الأناقة، وتفتن كلَّ مَن يمرّ بها، فهذا من شرِّ اللباس، من شرِّ ما صُنِعَ له، صُنعت هذه العباءة لماذا؟ من أجل الفتنة، الحجاب لا يُراد لهذا.

وهكذا ما يُورثه الغرور والشُّرور، ابن العربي -رحمه الله- يقول: "خير ما صُنع له استعماله في الطَّاعة"، انظروا كيف يُفكِّر العلماء: "وشرّ ما صُنع له استعماله في المعصية"[8].

فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم شُكر نِعَمِه، وأن يُعيننا على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب اللباس، برقم (4020)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (4342).
  2. أخرجه مسلم: كتاب الحج، بابٌ في الوقوف وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، برقم (1219).
  3. أخرجه مسلم: كتاب التفسير، بابٌ في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، برقم (3028).
  4. انظر: "التمثيل والمحاضرة" للثعالبي (ص286).
  5. أخرجه البخاري: كتاب النكاح، برقم (5219)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النَّهي عن التَّزوير في اللباس وغيره والتَّشبّع بما لم يُعْطَ، برقم (2129).
  6. انظر: "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" للسَّفاريني (2/343).
  7. أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب التَّكبير والتَّسبيح عند التَّعجب، برقم (6218).
  8. انظر: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمُناوي (5/98).

مواد ذات صلة