الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "حفظ السر" أورد المصنف -رحمه الله- الحديث الأخير في هذا الباب، وهو:
أنس كان يخدم النبي ﷺ، لما قدم رسول ﷺ إلى المدينة كان قد بلغ العاشرة من العمر، فجاءت به أمه إلى رسول الله ﷺ، وعرضته عليه، وقالت: هذا أنيس يخدمك يا رسول الله، فقبله ﷺ، فهو في تلك الحال حينما بعثه النبي ﷺ كان قد جاوز العاشرة، أتى عليه ﷺ وهو يلعب مع الغلمان، وهذا يدل على أن اللعب مطلب من مطالب هؤلاء الغلمان ممن ناهز البلوغ أو قاربه، إذا كان ذلك في زمن رسول الله ﷺ في ذلك الزمن الشريف، والنبي ﷺ بين أظهرهم، وهو خادم رسول الله ﷺ، وينزل على رسول الله الوحي، وأمه من هي، وتربى في تلك البيئة، ومع ذلك يلعب مع الغلمان، وليس يلعب وحده، وإنما الغلمان كانوا يلعبون، فلا نطالب الأبناء بأكثر مما يطيقون، بمعنى أن الوالد أحياناً يكون عنده نوع من المثالية، ويريد من الأبناء أن تكون برامجهم كبرنامجه إن كان جادًّا، والولد يأتي من المدرسة ويبدأ مباشرة بمذاكرة دروسه وحل واجباته، ثم بعد ذلك بعد العصر في حلقة يحفظ، ثم بعد المغرب في نشاط في مكتبة، في برنامج، ثم يأتي بعد العشاء وينام، هذا واقعنا، متى يكون هناك وقت للعب؟، وإذا رأيناه يلعب أو يمرح أو نحو ذلك مباشرة استدعيناه وعاتبناه، ولربما إذا انتقل من هذا إلى هذا، يعني من هذا البرنامج إلى ذاك وحصل شيء من اللعب بينهما أو التباطؤ نعاتبه على تضييع الأوقات من غير طائل، فهذا لا يستقيم، وقد يسبب ردود أفعال عنيفة، فيكره العلم، وحفظ القرآن، ويكره هذه البرامج التي تريد منه أن يذهب إليها -التوعية أو نحو ذلك، المكاتب، لابدّ من مساحة، لابدّ من وقت يلعب فيه، إلا إذا كان الولد لا يريد اللعب فهذا شأن آخر، وهذا قليل لا يقاس عليه، فالمثالية أحياناً لربما يترتب عليها وينشأ عنها تصرفات ومزاولات ولون من التربية لا يطيقه الأبناء، فيحصل عكس المطلوب، لابدّ من مساحة للعب، ويوسف ﷺ ماذا قال إخوته لأبيه: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يوسف:12] ما قالوا: أرسله معنا غدًا لنقيم له برنامجًا علميًّا، لا، فهذا شأن الصغير، فلابدّ من أن يأخذ هؤلاء الصغار حظهم من ذلك.
يقول: "فسلم علينا" فيه مشروعية التسليم على الصغار، يسلم الصغير على الكبار لكن إذا كان الكبير هو الذي أتى إلى ناحيتهم وغشَى مجلسهم فإنه هو الذي يسلم، قال: "فسلم علينا"، وهذا يدل على تواضعه ﷺ، وعلى حسن تربيته، يُسلم على الصغار، لا يحتقرهم، كثير من الناس لا يسلم على الصغير ولا ينظر إليه، وكأن أحداً لم يعبر بجانبه لأنه لا يراه شيئاً أصلاً، فضلاً عن أن يداعبه أو أن يسأله عن اسمه أو يجلس معه ويسأله عن حاله، وعن شئونه، فللأسف التربية الصحراوية التي نتلقاها أحياناً تكون سبباً لكثير من الحرمان، حرمان هؤلاء الأولاد لكثير من العواطف والمعاني التي ينبغي أن تعبَّأ في نفوسهم؛ من أجل أن يتخرج جيل واثق بنفسه، متزن الشخصية، له قدرة على المبادرة، ويستطيع أن يبدع، وأن يكون كبيراً عظيماً إماماً في الخير، لكن إذا كان يربى تربية احتقار فإنه يجد نفسه حقيرًا لا يصلح لحقير ولا لجليل من الأعمال.
يقول: "فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟"، وهذا فيه حسن التربية أيضاً أمه ما كنت تتركه متى ما جاء، مع أنه في تلك البيئة النظيفة، هناك وقت معين، وقت مقدر لا يتأخر عنه، فإذا تأخر لماذا تأخرت؟، أين كنت؟ أما متى ما جاء الولد ألقى بنفسه على الفراش لا تسأل الأم، ولا يسأل الأب، يمشي مع من؟ يصحب من؟ لا يعرفون عنه شيئاً فهذا خلاف التربية.
فقال لها: "بعثني رسول الله ﷺ لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قال: إنها سر"، وهذا يدل على حسن تربيته، وكمال عقله على صغر السن لم يخبر أمه، ولم يقل: ليس هناك سر دونها، وانظر إلى غرس هذه المعاني في نفوس الصغار، قالت: "لا تخبرنّ بسر رسول الله ﷺ أحداً"، هو ما أخبرها، هو يعلم هذا، ومع ذلك تؤكد هذا المعنى في نفسه، ما قالت: لا، أنا أمك، قالت: "لا تخبرنّ بسر رسول الله ﷺ أحداً"، قال أنس لتلميذه ثابت البناني: "والله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت"، فيه حسن الاعتذار والتلطف، فثابت البناني يريد أن يعرف ما هذا السر، فتلطف به، وفيه أيضاً إكرام له وإشعار بقيمته وقدره، وأنه بمكان ومنزلة عنده، بحيث لو أخبر عنه أي أحد لأخبر به هذا التلميذ، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أنس بن مالك ، برقم (2482).