الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه نماذج قليلة اخترتها من كثير مما جاء عن السلف في باب "حفظ السر"، من ذلك ما جاء عن ابن عباس -ا- قال: "قال لي أبي: إن عمر يدنيك فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشينّ له سرًّا، ولا تغتابنّ عنده أحداً، ولا يجربنّ عليك كذباً"[1]، ثلاثة أشياء، الخليفة عمر كان يُدخل ابن عباس -ا- وهو شاب صغير مع الأشياخ من أصحاب رسول الله ﷺ لكمال عقله، وحسن نظره، فأوصاه بهذه الثلاث، ينبغي للإنسان أن يعتبر بها.
"لا تفشينّ له سراً" إذا دخلت عليه فلا تخرج وتقول: قال كذا، وقلت له كذا واستشارني في كذا، ونحو ذلك.
"ولا تغتابنّ عنده أحداً"، فإن غيبة الناس أمر مذموم، وبها ينكشف عوار الإنسان، وجراءته على الله -تبارك وتعالى، وعلى عرض إخوانه المسلمين، وفي كثير من الأحيان يتسلل الشيطان إلى نفس الإنسان فيذكر الآخرين بالنقائص من أجل أن يرتفع.
"ولا يجربنّ عليك كذباً"، فإن هذا تنعدم معه الثقة، ولهذا كان بعضهم يوصي من يدخل على السلطان يقول: "إذا خرجت فكن أعمى، أو كالأعمى"، كأنك ما رأيت شيئاً، لا تخرج وتتكلم رأيت كذا، وشاهدت كذا، ورأيت عنده كذا، "وإذا خرجت فكن كالأصم أو الأبكم"، كأنك لم تسمع شيئاً في مجلسه، فلا يحسن للإنسان إذا دخل أن يخبر عما شاهد وما رأى وما قال وما قيل له، لاسيما في الأمور الخاصة، فإن هذا ينزع الثقة تماماً، لاسيما من يريد أن يكرر الزيارة بحسب قصده إن كان يريد الإصلاح، والدعوة إلى الله ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح، فلا يحسن إذا خرج أن يتكلم، قال، وقلت، وفعل، وفعلت ونحو ذلك، فإن ذلك قد يبلغ المحدث عنه فيزهد فيه، ولا يثق به، ولا يطمئن إليه؛ لأنه يعلم أن كل ما سيقال سينقل، إذا كان هذا في آحاد الناس، إذا كنت تعرف من الناس من إذا جلست معه كل ما يقال في المجلس سينقل إلى الآخرين، فالناس يتحرزون منه ومن مجالسته، وإذا جلسوا معه لا يتكلمون.
وهذا مثال آخر: لما مرض سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي قال لرجاء بن حيوة وهو من العلماء ممن كان يدخل عليه ويثق به سليمان بن عبد الملك، قال: "يا رجاء أستخلف ابني؟"، الآن سليمان بن عبد الملك مرض مرض الموت بعيداً عن موطن إقامته، مرض بدابق، "قال: ابنك غائب، قال فالآخر؟، قال: صغير، قال: فمن ترى؟ قال: عمر بن عبد العزيز، قال: أتخوف بني عبد الملك ألا يرضوا"[2]، هؤلاء أولاد عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز بن مروان، أبناء عم، لكن عبد الملك بن مروان هو أقوى خلفاء بني أمية، وأولاده أربعة تولوا الخلافة، وكان قد رأى رؤيا، وبعث بها رجلاً إلى ابن سيرين، قال: "ما تقول في رجل رأى أنه يبول في محراب المسجد أربع مرات؟، قال: من هو؟ فالرجل ارتبك، قال: أخبرني من هو؟، قال: أنا، قال: لا، لا يكون، ما أنت صاحب الرؤيا، فهو كان خائفًا، وعبد الملك قال له: لا تقل له: إني أنا، أبول في المحراب ظاهرها غير جيد، قال: أخبرني، لست أنت صاحب الرؤيا، قال: عبد الملك بن مروان، قال: نعم، يلي الخليفة من أولاده أربعة، محراب، تقدَّمَ على الناس، يبول فيه أربع مرات يعني من صلبه أربعة أولاد[3]، وهذا الذي كان.
فالشاهد أن هؤلاء لن يتنازلوا عن الملك لابن عمهم عمر بن عبد العزيز، فقال: "أتخوف بني عبد الملك ألا يرضوا، وهذا أخوهم سليمان بن عبد الملك، فقال: فولِّه ومن بعده يزيد بن عبد الملك"، يزيد، والوليد، وهشام، وسليمان، قال: حتى يضمنوا أن يكون الملك فيهم من بني عبد الملك، وليزيد من بعده، وتكتب كتاباً وتختمه، تقفل الكتاب تضع عليه شمعًا أحمر، وتدعوهم إلى بيعة مختوم عليها، بايِعوا من وُلي في هذا الكتاب، قال: فكتب العهد، وختمه، فخرج رجاء، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب، ولا زال سليمان لم يمت بعدُ، فسئل من فيه؟ قال: مختوم ولن تُخبَروا بمن فيه حتى يموت، فامتنعوا، فرجع إلى سليمان، وأخبره، فقال: انطلق إلى أصحاب الشُّرط، ونادِ الصلاة جامعة، ومرهم بالبيعة فمن أبى فاضرب عنقه، ففعل، وهذا قرار حازم، فبايعوا، يقول رجاء بن حيوة: فلما خرجوا أتاني هشام في موكبه -هشام بن عبد الملك، فقال: لقد علمت موقفك منا، أنا عارف أنك ما تبغانا، ولا نصلح لك، وأنا أتخوف أن يكون أمير المؤمنين أزالها عني، فأعلمني ما دام في الأمر نفَس، ما دام أن الرجل ما مات إلى الآن، على أساس نستدرك ونغير هذا الخطاب، والكتاب، وولاية العهد، فقال رجاء: سبحان الله! يستكتمني أمير المؤمنين وأطلعك؟، لا يكون هذا أبداً، وهذا جيد أنه ما خاف منه، يقول: فأدارني وألاصني، يعني قلبني يمنياً وشمالاً، حاول فأبيت عليه، فانصرف، فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز فقال: يا رجاء، قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، يعني من سليمان بن عبد الملك، أتخوف أن يكون جعلها إليّ، أنا خائف أن تكون ولاية العهد، لو قال له: أنت لكن لا يدري أحد، كان خرج الخبر، ويمكن أن تتحول القضية إلى شيء آخر عمر سيذهب إليه ويقول: أنا لا أريد، وهشام سيأتي مسرعاً ويقول: لا، أنا لها، أنا لها، فعمر بن عبد العزيز يقول: أتخوف أن يكون قد جعلها إليّ ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفَس لعلي أتخلص، هذا الفرق بين هشام وبين عمر بن عبد العزيز، عمر بن عبد العزيز في وقته كان الناس يتساءلون كم حفظت من القرآن؟ حديث المجالس، وفي عهد سليمان نفسه أو هشام كان كم دجاجة أكلت؟ الأكل وكثرة الأكل والترف، والمطاعم، والمشارب وكذا، يتحدثون بهذا ويتساءلون، وهذا يأكل ويثنون عليه بكثرة الأكل ويغبطونه، قال رجاء لعمر بن عبد العزيز: سبحان الله! يستكتمني أمراً أطلعك عليه؟"، فلما مات سليمان أخرج الكتاب وقرأه على الناس على المنبر بولاية عمر بن عبد العزيز، فكان من الخير العظيم، والعدل، وأظهرت الأرض ألوان البركات، وكان الرجل يخرج بصدقته فلا يجد من يقبلها، وكما قال الإمام أحمد: "وجدوا صرة في بعض خزائن بني أمية فيها حبة البُر كُبر النواة مكتوب فيها رقعة: هذا يخرج أيام العدل"، بُر، الواحدة كُبر النواة، يخرج أيام العدل فهذا نموذج، وهناك نماذج أخرى متنوعة أكتفي بواحد.
أسر العباس بن أحمد الوزير سرًّا إلى حماد بن إسحاق فلما ولي قال له: "أوكِ وعاءك، وعمِّ طريقك"، يعني السر الذي أودعتك انتبه أن يخرج، فماذا قال؟ قال: "نسيتُ سقائي"، ما يحتاج أني أربطه، "نسيت سقائي فكيف أوكيه، وضللت طريقه فكيف أعمِّيه؟"[4]، يقول: أنا أحرص منك، إذا كنت تريدني أن أربط السقاء أنا أقول: السقاء بكبره انتهى، ونسيته ولا أعرف طريقه، فسرك مصون محفوظ، فهكذا ينبغي حفظ السر، وهي خصلة من خصال الكمال، والذي لا يمسك السر، ويتكلم مع كل من دخل عليه، ويخبر عن كل من خرج من عنده، أو جلس معه أو تكلم معه، فإن الناس لا يطمئنون إليه، ولو كان كبيراً، سواء كان من السلاطين، أو من العلماء، أو كان من غيرهم من وجهاء الناس، الناس يتعارفون فلان تجلس معه الآن تخرج الذي سيدخل عليه سيقول له كل ما دار، مثل هذا لا يجري على يده إصلاح، ولا ينتظر منه القيام والنهوض بأعمال؛ لأن الناس ما يطمئنون، ما يستطيعون أن يأتوا إليه ويتكلموا معه في أمر من شئونهم، أو من الشئون العامة من أجل النصيحة والإصلاح؛ لأن ذلك يفشو، وإذا فشا حصل بسبب ذلك من ألوان الفشل والمضار ما لا يخفى، وقل مثل ذلك في الأمور الخاصة، حياة الإنسان الخاصة في أي شأن من شئونه، إنسان يريد أن يتزوج ويذهب ويخبر هذا سرًّا، ويخبر هذا سرًّا، ثم بعد ذلك يجد أن الخبر انتشر ووصل إلى زوجته، وإلى أهلها، وإلى كذا، ثم بعد ذلك تبدأ المشكلات قبل أن يتخذ أي إجراء عملي واقعي بهذا الصدد، فكان هو المخطئ، لو أنه سكت وصمت وحفظ ذلك ولم يفشه، وغالب ما يكون ذلك في النساء، وليس كل النساء، لكن معروف أن المرأة لا تكاد تصبر على حفظ السر، والعرب لهم أخبار في هذا ووقائع وأمور عجيبة في حكاياتهم، ويمكن أن تراجع في مظانها.
وبعضهم لربما اختبر أقرب الناس إليه أمه أو نحو ذلك في أمور غير حقيقية، فتكشفت عن مصائب لو كانت حقيقية، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- تاريخ دمشق لابن عساكر (73/ 188)، وسير أعلام النبلاء (3/ 346).
- سير أعلام النبلاء (5/ 124).
- انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 236).
- سير أعلام النبلاء (14/ 52).