- مقدمة باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه
- كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا
- كان كلام رسول الله ﷺ كلامًا فصلًا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك.
بيان الكلام: يعني إظهاره بأن ينطق به نطقًا واضحًا غير ملتبس، وأما الإيضاح للمخاطب فهو أن يخاطب غيره بما يفهمه، ويظهر له، دون قصد الغامض من الكلام، والوحشي من الألفاظ، وإنما يخاطب الناس بطريقة يفهمونها، سهلة، ليصل المعنى؛ لأن الألفاظ هي قوالب المعاني، والمقصود هو الإفهام.
وهكذا تكرير الكلام ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك، إذا فهم لأول مرة كفى، ولكن إذا احتاج ذلك إلى إعادة أعاد، فيمكن أن يعيد في الأشياء المهمة التي يخشى أن تفوت على السامعين، أو إذا رأى أن بعضهم لم يصغِ إليه تمام الإصغاء، أو نحو ذلك، لبُعدٍ ونحوه.
"إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا": بمعنى أنه يكرر ذلك ثلاثًا، وهذا قد يُحتاج إليه، يعني: إذا دعت الحاجة إلى هذا، لبعد المخاطب، أو لأنه يرى بعضهم لم يصغِ إليه الإصغاء المطلوب، أو لاشتغال عن المتكلم، "فيعيد ذلك ثلاثًا"، من أجل أن يسمعه، وأن يفهم عنه مراده.
وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثًا: والسلام إنما يشرع مرة واحدة، ولكن أهل العلم قالوا: إن ذلك يحتمل أن يكون، لأن بعضهم ما سمعه، أو أنه يدخل على قوم، فيسلم على بعضهم، وهم كثير فلا يبلغ ذلك آخرين، فيسلم ثانية، وثالثة، ليبلغ ذلك إلى الجميع.
وبعض أهل العلم يقول: إذا استأذن سلّم، يقول مثلًا: السلام عليكم، أأدخل؟ فهذا سلام الاستئذان، فإذا دخل سلم سلام التحية، فإذا انصرف سلم سلام الخروج والتوديع، فهذه ثلاث.
من أهل العلم من حمله على هذا، ولا يبعد أن يكون المراد -والله تعالى أعلم- ليبلغ ذلك من لم يبلغه، أو أنه إذا خشي أنهم لم يسمعوه، أو نحو ذلك فيسلم ثلاثًا.
كلامًا فصلًا، يعني: أنه ظاهر واضح، مبين للمراد، لا يلتبس، فلا يذكر العبارات الموهمة، أو المشكلة والمحتملة، التي تحتمل معانيَ متعددة، لاسيما إذا كان ذلك يحتمل معنى صحيحًا، ومعنى فاسدًا، وإنما يعبر بالألفاظ التي لا تحتمل إلا الحق، ولهذا قال الله مؤدبًا أهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104].
وذلك أن لفظة "راعنا" يستعملها اليهود في معنى سيئ من الرعونة، ويستعملها أهل الإيمان بمعنى آخر، وهو الملاحظة لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا.
فهذا أدبه ﷺ وهديه الكامل في الكلام، والإنسان إنما يتخلف عنه هذا الوصف إما لضعف فيه، ضعف في التعبير، فيحاول أن يوصل المعنى، ولكنه يطيل الكلام، ويحوم حول المعنى ولا يبلغه، ولربما سئم السامع.
وقد يحصل ذلك أيضًا للمتكلم أحيانًا بسبب قصد الإغراب، وإيراد الكلام الصعب، لربما بزعمه من أجل أن لا يستوي مع العامة، وقد ابتُلي بهذا أقوام، وجاء الذم على لسان رسول الله ﷺ ذم المتفيهق، والمتشدق، الذي يتنطع ويتكلف في الكلام؛ إظهارًا للبلاغة والفصاحة، ولربما يتكلم بكلام لا يفهمه أحد، وهذا خلاف المقصود.
العاقل يخاطب الناس من أجل أن يفهموا، فإذا كان يتكلم بكلام يخرج الناس من مجلسه ويقولون: ما فهمنا شيئًا، كأنه يتكلم بلغة أخرى، فهذا غير محمود، ولكنه قد يُحتاج إليه في مواضع قليلة.
وقد يلقي الإنسان محاضرة بين يدي قوم يظنون أن عندهم شيئًا -وليس عندهم شيء كثير- من المتفيهقين في الأندية الأدبية ممن يلبِّسون على الناس برموز وشعر حداثة، وأدب لربما يكون أبعد ما يكون عن الأدب الحقيقي، ويظنون أنهم هم الناس، وأنهم هم أهل الأدب والفصاحة، إلى آخره.
فيمكن لفصيح بليغ أن يأتي ويتكلم بالعربية الفصيحة، بكلام لا يفهمه منهم أحد، ليوصل إليهم رسالة أنهم لم يبلغوا شيئًا، ولم يحصّلوا شيئًا، وأنهم ليسوا من تلك المراتب، هذا لا بأس.
وكذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مناقشة المتكلمين، أهل الكلام من الأشعرية، أو المعتزلة، أو غيرهم، ممن له اشتغال بالفلسفة، فبعض هؤلاء لا يقنع إلا بالمخاطبة بالغامض من الأدلة والكلام بزعمه أنه لا يريد أن يستوي مع العامة، فمثل هذا إذا اضطر إلى ذلك فلا بأس للوصول معه إلى الحق، إن كان مريدًا للحق، وإلا فالأصل الجادة المسلوكة أن الإنسان يعبر بالكلام الواضح، الكلام الذي يفهمه الصغير والكبير والعامي وغيره من أجل أن يُفهم عنه.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه (1/ 30)، رقم: (95).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (4/ 261)، رقم: (4839).