الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الوعظ والاقتصار فيه" أورد المصنف -رحمه الله-:
معاوية ابن الحكم السلمي نسبة إلى القبيلة المعروفة أعني بني سُليم، وهي قبيلة منازلها بين مكة والمدينة، معروفة إلى اليوم، صلى مع النبي ﷺ وكان ذلك حينما هاجر إلى المدينة ودخل في الإسلام، وكان حديث عهد بالجاهلية، بمعنى أنه لم يتعلم من شرائع الإسلام إلا اليسير القليل يقول: إذْ عطس رجل من القوم، يعني من المصلين، فقلت: يرحمك الله، هذا يدل على أنه كان يعرف التشميت، وهل قال الرجل: الحمد لله؛ لأنه لا يشمت إلا من قال: الحمد لله؟، ليس ذلك بلازم؛ لأن معاوية كان حديث عهد بالإسلام، بمعنى أنه قد يخفى عليه هذا، قد يشمت الرجل ولم يقل: الحمد لله، فالشاهد: أنه قال له: يرحمك الله، يقول: فرماني القوم بأبصارهم، يعني مَن معه من المصلين جعلوا ينظرون إليه، كيف يتكلم وهو يصلي؟ وبهذا فارقت أنظارهم موضع السجود، فنظروا إليه، وهذا يدل على أن الالتفات بالنظر لا يبطل الصلاة، وهو أسهل من الالتفات بالرأس أو بالوجه، ولكن المصلي مأمور بأن ينظر إلى موضع سجوده، ولا بأس للحاجة، فقد كانوا يرمقون النبي ﷺ في صلاته، ويعرفون قراءته في السرية من اضطراب لحيته، وهكذا حينما أبطأ عليهم في السجود ﷺ رفع بعضهم رأسه، فرأى الحسن أو الحسين قد ارتحله، والنبي ﷺ نظر إلى النار والجنة عرضت عليه في جدار المسجد، فهذا يدل على أن النظر في غير موضع السجود للحاجة لا بأس به، بل لو احتاج إلى الالتفات فإن صلاته لا تبطل، كأن يكون بجانبه شيء يحاذره فسمع صوتاً فالتفت، أو صبي خاف عليه سمع صوتاً فالتفت إليه، التفتت المرأة إلى طفلها، سمعت شيئاً فخافت أن يكون قد أصابه مكروه، ويدل على ذلك ما جاء عن رسول الله ﷺ في بعض مغازيه حينما بعث رجلاً يأتيه بخبر المشركين، فكان النبي ﷺ يلتفت في الصلاة ينظر إلى ناحية الوادي، يعني المكان الذي يأتي منه الرجل، أو يتوقع مجيئه منه أثناء الصلاة.
يقول: "فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم"، وهذا نظر إنكار، وكان بالإمكان أن يقولوا: سبحان الله، دون نظر، وهذا هو المشروع للرجل، ولكن يمكن أن يكون النبي ﷺ أعلمهم بهذا بعد هذه الواقعة، فقلت: واثُكلَ أُمِّيَّاهْ، يعني وافقد أمي لي، واثُكلَ: تقول: ثكلتْه أمه بمعنى فقدته، واثُكلَ أُمِّيَّاهْ: أمي والياء والألف كأنها تدل على الصوت أو النداء، والهاء للسكت أمِّيَّاهْ، يعني واثُكْلَ أمي، واثَكَلَ أمي بفتحتين أيضاً.
"ما شأنكم تنظرون إليّ؟"، يعني هو حينما رأى ذلك علم أنه وقع منه شيء لا يصح أن يصدر من المصلي، وهو لا يزال يتكلم، يعني على الأقل الكلمة الأولى: يرحمك الله يمكن أن يقال: إنها من الذكر، يقال في تشميت العاطس مثلاً، وأن من كان من جنس الذكر فإنه لا يبطل الصلاة مثلاً، قد تخرج، لكن الثانية: "واثُكلَ أُمِّيَّاهْ، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ هذه ليست من جنس الذكر إطلاقاً.
يقول: "فجعلوا يضربون بأيديهم"، يعني ما نفع النظر فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، وهذا يقوي ما ذكرته من أن ذلك قد يكون قبل أن يعلمهم النبي ﷺ أن الرجل إذا نابه شيء في الصلاة سبّح، والمرأة تصفق، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، كم مرة ضربوا؟، الله أعلم، والذين يقولون: تبطل الصلاة بثلاث حركات، يقولون: إنهم ضربوا على أفخاذهم أقل من ثلاث حركات، ولكن ما يدريكم؟ وما الدليل على الثلاث؟ قالوا: الدليل على الثلاث أنها حركة كثيرة، ولكن مثل هذا لا ينضبط؛ ولذلك تجد بعضهم إذا أراد أن يتقدم في صف وجد فيه فرجة أمامه وَزَن الخطوات طولاً؛ لأجل هذا، فتجد الخَطْو يطول إذا كان يحتاج لربما إلى أكثر من ثلاث، فهو يزنها بأقل من ثلاث خطوات طويلة إذا كان الصف بعيدًا.
يقول: "فلما رأيتهم يُصّمتونني، لكنني سكت"، ما معنى هذا الكلام؟ يقول لما رأيتهم يصمتونني ينظرون إليّ معناه كأنه يقول: غضبت، تضايقت، انزعجت لكني سكت، فيه مقدر محذوف أزعجني ذلك، أغضبني ذلك لكني أسكت، يعني لم أتمادَ وأرد، وأقول: ما بالكم؟
يقول: "فلما صلى رسول الله ﷺ فبأبي هو وأمي"، يعني أفديه، "ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه"، قبله هو حديث عهد بجاهلية فمن سيرى؟!، لكن بعده ﷺ رأى الخلفاء رأى أصحاب النبي ﷺ علماء منهم، ورأى أهل الحلم والصبر، ورأى أهل الفضل والرحمة والإحسان والجود، رأى كثيراً ممن رباهم النبي ﷺ، ولكنه لم يرَ أحداً أحسن تعليمًا من رسول الله ﷺ، فدل ذلك على أن رسول الله ﷺ وهذه قضية قطعية لا نشك فيها- قد بلغ الغاية في الكمال في حسن التعليم، وحسن التعليم يكون باجتماع حسن العبارة، والوضوح، وحسن الأداء، ألا يؤدي ذلك بطريقة فيها زجر، إغلاظ، نهر، تعنيف، فتجتمع هذه الأشياء جميعاً اختيار عبارات مناسبة يعلمه ما يصلح لمثله، ويؤدي ذلك بأسلوب لطيف تقبله النفوس، "ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه"، فمن أراد أن يتصف بالكمال أو يقارب الكمال، أو يخطو نحو الكمال في التعليم فليجتهد في الاقتداء بالنبي ﷺ في طريقة تعليمه للناس، والمعلمون بحاجة إلى هذا كثيراً، سواء كانوا من الخطباء، أو كانوا ممن يعلمون في المدارس، أو الجامعات، أو في المساجد أو غير ذلك.
يقول: "فوالله ما كَهَرني"، يعني ما زجرني، ما نهرني، "ولا ضربني ولا شتمني"، إذا كان ما زجره فمن باب أولى، لكن كما يقال: إن مقام المدح يصلح فيه الإطناب، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، يعني ما قال: أنت جاهل، والكلام الذي يجرح، ما قال له شيئًا من هذا، قال له: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس فدل ذلك على أن الكلام الخارج عن مقصود الصلاة -قراءة القرآن والذكر- يتنافى معها، وبهذا قال أهل العلم: إنه إذا تكلم عامداً عالماً بالحكم فإن صلاته تبطل، واختلفوا في بعض الصور، تكلم فقال مثلاً: يا زيد، أو قال: خذ، حتى لو كان حرفًا واحدًا يعبر عن فعل مثلاً، تقول: "قِ" فعل أمر حذفت منه الياء، فجاء على حرف واحد، فهذا كلام يعتبر بغض النظر عن مصطلح النحاة في الكلام أنه اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها، أو قول بعضهم: هو اللفظ المفيد بالوضع، هذا اصطلاح للنحاة، لكن المقصود هنا الكلام سواء كان مفيداً أو غير مفيد، لو قال: "دَيْز" هذا كلام مقلوب "زيد"، فهذا يبطل الصلاة إن كان عامداً عالماً ذاكراً، لكن لو كان جاهلاً فإن صلاته لا تبطل بمثل هذا، أو ناسياً خرج منه الكلام سهواً فإن صلاته لا تبطل.
واختلفوا في بعض الصور فيما لو أنه مثلاً قال: يا موسى خذ الكتاب، أو إنسان بجانبه وهناك كتاب ونسي فقال له: خذ الكتاب، هذه جاءت في آية، فهل تبطل صلاته بهذا أو لا؟
فمن أهل العلم من فصّل فيه فقال: إن قصد قراءة الآية لم تبطل، وإن قصد تكليمه دون قراءة الآية فإن صلاته تبطل.
وقوله: إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ذكر التسبيح والتكبير وقراءة القرآن وفيها أشياء أخرى أيضاً من التهليل مثلاً، والثناء على الله وما أشبه ذلك، لكن عبر بهذا ليدل على غيره، فهذا بعض ما فيها أو من أشهر ما يكون فيها، قال: أو كما قال رسول الله ﷺ، وهذا من باب التحرز في الرواية عنه ﷺ؛ لئلا يزيد عليه أو ينقص من كلامه، فكانوا يتحرزون، وهذا باب واسع له كلام كثير فيه، وجمع فيه أهل العلم شواهد في هذا الباب في تحري الصحابة في رواياتهم عن رسول الله ﷺ.
الآن تعلَّم وعرف فأراد أن يعرف بعض الأسئلة، فالنبي ﷺ لم يقل له: أعد الصلاة، صلاتك باطلة، وإنما عذره بالجهل؛ لأنه حديث عهد بالإسلام، ومسألة العذر بالجهل ثابتة، ولكن تبقى بعض التفاصيل العلماء يختلفون فيها، فمن نشأ في مكان بعيد ولو كان قديم الإسلام فإنه يعذر فيما يخفى على مثله، ومن كان حديث العهد بالإسلام ولو كان في حاضرة الحواضر فإنه يعذر فيما خفي عليه، وتبقى بعض الصور، يعني الشاهد النبي ﷺ ما أمره بالإعادة، وهذا يدل على أن من جاء بالعبادة على الوجه المطلوب حسب استطاعته فإنه لا يؤمر بالإعادة، والأمثلة على هذا كثيرة، نفس حديث المسيء صلاته النبي ﷺ قال له: ارجع فصل[2]، تعليماً له، لكنه لم يقل له: كل صلاتك هذه السنوات التي مضت بهذه الطريقة لا تصح، أعد الصلاة الماضية والتي قبلها والتي قبلها، لا، كذلك أيضاً حَمْنة لما قالت للنبي ﷺ: "إنها تستحاض"[3]، وهي أخت زينب بنت جحش يعني قريبة جدًّا، قالت: "إني أُستحاض سبع سنين فأدع الصلاة والصوم، فأعلمها أن هذا ليس بالحيضة، وأنها تتوضأ لكل صلاة إلى آخره، فما قال لها: أين هذه الصلوات والصيام؟ أعيدي، فدل ذلك على أنها معذورة، وهذا من يسر الشريعة.
وكذلك عمار بن ياسر لما تمعَّك تمعُّك الدابة، حصلت له جنابة، لم يقل له: أعد الصلاة[4].
وعمرو بن العاص صلى بأصحابه وهو جنب[5]، واحتج بقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:29] كان الجو باردًا، فما قال له النبي ﷺ أعدها، وإنما تبسم النبي ﷺ، فدل ذلك على أن من جاء بالعبادة بحسب استطاعته فإنه يعذر بما حصل من نقص لجهله، والله تعالى أعلم، هكذا يبدو، وإن كان كثير من الفقهاء يأمرون بالإعادة والقضاء؛ ولهذا تجد المرأة قد تصلي أحياناً وتظن أنه حيض، فيقال لها: هذا ما هو بحيض، هذه استحاضة، وتكون أسابيع أحياناً، وأحياناً تكون سنوات، طيب ما الذي تقضيه وما الذي لا تقضيه؟، وهكذا الصيام تكون صامت وتظن أنه استحاضة وتبين أنه حيض مثلاً، ما الذي تقضي وما الذي لا تقضي؟.
سنوات، فالفقهاء كثير منهم يأمرها بالقضاء، فمن أراد أن يحتاط لنفسه فذلك، لكن إلزام الناس بمثل هذا فيه إشكال، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، برقم (537).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب أمر النبي ﷺ الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، برقم (793)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (397).
- أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم (287)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله ﷺ، باب في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم (128)، وابن ماجه، أبواب التيمم، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، برقم (622)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 202)، برقم (188).
- أخرجه البخاري، كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، برقم (347)، ومسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368).
- أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أَيَتيمم؟، برقم (334)، وعلقه البخاري في صحيحه (1/ 77)، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، أو خاف العطش تيمم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، (2/ 154)، برقم (361).