- مقدمة باب الوقار والسكينة
- قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا...}
- ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعًا قط
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قال المصنف -رحمه الله: باب الوقار والسكينة.
الوقار: قد لا نستطيع أن نأتي بلفظة تؤدي جميع ما تؤديه هذه اللفظة من المعنى، كما هو شأن اللغة، فإن كل لفظ فيها يؤدي معنًى أصيلا، ولكن له من المعاني الفرعية، والخادمة، والتكميلية ما يفترق به عن الألفاظ المقاربة.
فلو أردنا أن نعبر عن الوقار بعبارة أخرى تؤدي كامل المعنى الأصلي والزائد، قد لا نستطيع، لكن نقول: إن الوقار هو صفة تحصل من مجموع أوصاف، فإذا أردت أن تقربه بلفظة، تقول: هو قريب من الرزانة، لكن هل هو بمعنى الرزانة تمامًا؟
الجواب: لا، فالوقار بمعنى الرزانة، وفيه معنى السكينة، وفيه معنى التؤدة، وفيه معنى الحلم، وفيه معنى المهابة، فإذا جمعت هذه الأوصاف انتظم منها ما يعرف بالوقار.
فالوقور فيه سكينة، وتؤدة، وأناة، وحلم، ومهابة، لربما تجد الإنسان أحيانًا في هيئته إذا نظرت إليه من بعيد ظننت أنه وقور، وإذا سمعت كلامه، أو رأيت حركاته، وتصرفاته وتعاملاته، ونظرت في مشيته، لربما عرفت أنه يخالف ذلك الوصف تمامًا، خفة في المشي، خفة في الحركة، لربما تنبئ عن خفة في العقل، كما قيل: المِشية غالبًا تدل على عقل صاحبها، خفة في الالتفات والنظر، هذا خلاف الوقار، إنسان أحيانًا تظن أنه وقور، وتفاجأ أن هذا الإنسان ليس له شغل إلا أن يتلفت يمينًا ويسارًا، وخلفًا، وكلما سمع أدنى همسة وصوت التفت مباشرة إلى وراء، وإلى يمين وشمال، فهذا خلاف الوقار.
كذلك أيضًا في مشية الإنسان، والعجلة الزائدة، والتفاته في المشية كثيرًا، كل ذلك خلاف الوقار، والله -تبارك وتعالى- ذكر في صفة عباد الرحمن: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63].
فهذا من أوصاف أهل الوقار، فيما يتصل بمشيتهم، المشية لها أهمية، ليس فيها عجلة، وليس فيها تماوت، مشية قوية ثابتة.
وكان النبي ﷺ كأنما ينحط من صَبَب[1]، ينزل على قدمه كاملة، وبقوة وبثبات، ليس فيها تماوت، فهذه مشية أهل الإيمان، لكن ليس فيها خفة، تنبئ عن عجلة، أو ارتباك، وكما هو معلوم أن الإنسان المجنون يعرف من مشيته، والمُخبَّل يعرف من مشيته، والأحمق لربما يعرف من مشيته، كل هذا تدل عليه المشية.
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا صاحب الوقار ما يخوض فيما يخوض فيه الناس، صاحب الوقار ما يبقى في مهارشات، ومشاكسات، ومجاوبات، ومجادلات، مع من هب ودب ودرج.
هذا لم يتعامل معه بما يليق، في ممر، في مكان، فوقف معه في لغط ومجادلة، وذاك لم يتأدب معه في سيره، في سيارته، أو نحو ذلك، ويبقى يريد أن يؤدبه، وأن يوقفه عند حده، وأن يربيه كما يقال، هذا سيَذهب وقاره، وسيَذهب بهاؤه، وستذهب رزانته، وستذهب منزلته وقيمته، وهو عند كل إشارة، عند كل تقاطع في مشاكسات مع خلق الله، لا، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، يعني: قالوا قولًا سالمًا من العيب، على قول بعض المفسرين، بارك الله فيك، شكرًا، ما قصرت.
وبعضهم يقول: قَالُوا سَلَامًا يعني:سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] ما ندخل، ولا نخوض معك في هذا الخوض.
الشاهد أن صاحب الوقار يتنزه من هذه الأشياء، فمجموع هذه الأوصاف: هيئة الإنسان، والتصرفات، والأقوال، طريقة الكلام، طريقة المشي، طريقة النظر، كل هذا من مجموعه يحصل الوقار.
يقال: فلان وقور، يعني: له هيبة، وفيه سكينة، وفيه بهاء، وفيه رزانة، والناس في هذا يتفاوتون غاية التفاوت، وأحيانًا تكون مثل هذه الأوصاف، أو بعض هذه الأوصاف، تكون جبليّة في الإنسان، هو هكذا، الله جبله على هذا، تقول له: هل تكلفت ذلك؟ هل تصنعت؟ يقول: لا، أنا على السجية، ومن الناس من يحتاج فيه إلى ترويض للنفس، والنبي ﷺ يقول: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[2].
فيمكن للإنسان أن يروض نفسه على الكمالات، الأخلاق الكاملة بالمجاهدات، والصبر وحبس النفس عند داوعي الطيش والغضب والشهوة.
فصاحب الوقار لا يثرثر في المجالس، كما يثرثر كثير من الناس من تقودهم ألسنتهم، إنما يزن الحرف، يفكر قبل أن يتكلم، ويكون له هدف في الكلام، صاحب الوقار لا يقهقه ويضحك بملء فيه في المجالس، فإن ذلك يذهب الوقار قطعًا، إنما إذا ضحك يضحك باعتدال.
وليس معنى الوقار أن الإنسان يقطِّب، كما يظنه البعض، أو يتماوت في المشية، أو يبدو كأنه في مصيبة، ليس هذا هو المطلوب، وإنما هو ما ذكرتُ.
وأما السكينة فهي قريبة من معنى الوقار، بعضهم يقول: إنها أعم منه، والذي أظنه -والله تعالى أعلم- أن بينهما نوع ارتباط، والسكينة هي أحد الأوصاف التي يتحقق منها الوقار، لكن السكينة تزيد من جهة الدلالة على معنى السكون، ليس هناك عجلة، ولا خفة، سواء كانت هذه العجلة والخفة سجية عامة، في الذهاب، والمجيء والالتفات والنظر وما إلى ذلك، رأسه هنا وهناك، أو كانت عند المشكلات، يعني: بعض الناس أحيانًا قد يبدو هادئًا، لكن إذا حصلت مشكلة بان عقله، أو حصل فرح شديد بان عقله، فتتعجب من هذا الإنسان الذي كان في هذه المنزلة، كيف تحول إلى هذه الحال!.
ولذلك تجد الناس أحيانًا في وقت المصائب قد يخرج الإنسان من طوره، فتصدر منه تصرفات لا تليق، تعاب عليه، كيف تصدر من مثله؟.
وبعضهم في حال الفرح يصيبه شيء من العجلة والخفة، ولربما قام يَعْرض، أو نحو ذلك، هذا الرزين الوقور تحول إلى شيء آخر.
وهذا يذكرني بأن هذه الكمالات في الشخصية، وفي العقل تذهب باختيار الإنسان في شرب المسكر -عافانا الله وإياكم من كل مكروه- وأكل هذه المخدرات وتعاطيها، الحبوب بأنواعها هذه المدمرة، والله المستعان، يرجع الإنسان إلى حال، أبعد ما يكون من الوقار والمهابة والرزانة وكمال العقل، وما أشبه ذلك.
وكم سمعنا من أشياء!، لعلي ذكرت في بعض المناسبات بعض الأمثلة، ذكر لي بعضهم عن رجل في ناحيتهم عرف بالوقار والرزانة، واحتال عليه بعض السفهاء في مناسبة زواج، انظروا كيف تفعل هذه الأشياء بالناس، احتال عليه بعض السفهاء في تلك المناسبة، فوضعوا له في الشراب -في الشاي- بعض الحبوب التي تورث صاحبها خفة وطرباً، فوضعوا له، وأكثروا له من هذا، رجل معروف بالرزانة والغيرة على الدين، فأصاب الرجلَ شيءٌ من الطرب والخفة، وأقاموا عرضة في ذلك الزواج، و صاروا يضربون بالطبول، وقام الرجل يشجع الناس، وينهض ويأخذ بأيديهم، وبأشد ما يجد يقفز وينزل، والناس يتعجبون الذين ما يعرفون الموضوع، فلان!
بل لم يكتفِ بهذا، كانوا بجوار سطح دار، ليس عليه سور، فصعد، وجلس يقفز، والناس يضحكون، وبعضهم في حال من الانبهار والتعجب، كيف حصل هذا؟!.
انظروا كيف فعلت هذه السموم في هذا الإنسان الذي عرف بالرزانة، كيف يعمد الإنسان باختياره فيلغي عقله؟!.
ولعلي ذكرت في بعض المناسبات ما ذكره بعض أهل العلم عن رجل لما شرب المسكر كان -أعزكم الله- يتوضأ يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ببوله -أعزكم الله ومن يسمع، ثم يقول: الحمد الله الذي جعل الماء طهورًا، والصلاة نورًا، أين هذا من الوقار؟
يجري في الشوارع، يتكلم، يهذي، عنده ما لا يقل عن عشرة أولاد، وبنات في بيت، ويتحول إلى مثل هذه الحالة.
وآخر كان سبب توبته أنه -أعزكم الله- لما كان يشرب المسكر يستفرغ، فكان يلعق ذلك -أعزكم الله، فصورته زوجته، ثم لما أفاق عرضت هذا عليه، فكان هذا سببًا لتوبته.
والآخر الذي نام وتعب، وجد نفسه في مكان، فسأل أهله، ما الذي حصل لي؟ لماذا أنا هنا؟ لماذا نمت هنا؟ قالوا: كنت تحاول أن تقفز طول الليل تريد أن تقبض على القمر، مجنون، سكران، يريد أن يمسك القمر، ويقفز ويسقط حتى تعب فنام في مكانه، فلما أفاق قال: أنا ما الذي جاء بي هنا؟.
قالوا: أنت ما تدري طول الليل ما الذي تفعله، ومَن شاهدَ شاهدَ أشياء عجيبة في أماكن، ويضحك منها الناس.
وأحدهم عند هذا الجسر يركب فوق، أعلى السيارة، قدام زوجته وأطفاله، ويسب من أكبر مسئول إلى أصغر مسئول في البلد، ثم يخرج عورته، ويتبول أمام الناس، والناس ينظرون، عند الجمارك، أو عند الجوازات، وأطفاله يتوسلون به وزوجته، يتوسلون: انزل، انزل، وهو يفعل هذا.
فحينما نتحدث عن الوقار الصورة التي تقابله تمامًا بالاختيار -نسأل الله العافية- هذا البلاء: السموم والمسكرات، والمخدرات، يتحول صاحبها إلى حال أخرى، حيوان، بهيم تمامًا.
فعجبًا للإنسان كيف يختار أن يلغي ما ميزه الله به عن الحيوانات -وهو هذا العقل- باختياره، وبماله؟!، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ذكر في هذا الباب حديثًا واحدًا، وذكر الآية: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا... [الفرقان:63].
مستجمعًا ضاحكًا: بمعنى: أنه لا يبالغ في الضحك حتى لا يُبقي منه شيئًا، لا، ما رأته كذلك مستجمعًا ضاحكًا، حتى تُرى منه لَهَواته: واللَّهَوات: آخر ما يلي الحلق من اللحم الذي يكون في الفم، هذا لا يكون إلا إذا فتح الإنسان فاه، إنما كان يتبسم.
لكن جاء في الحديث الآخر: أنه كان يضحك حتى تبدو نواجذه، لكن ليس معنى ذلك القهقهة، والضحك بصوت مرتفع، ثم هذا متى كان؟.
فرق بين إنسان دائمًا يضحك، وبين من يُستملح ذلك منه، ويُذكر، ويُعدُّ.
والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب التبسم والضحك (8/ 24)، رقم: (6092)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والفرح بالمطر (2/ 616)، رقم: (899).