- مقدمة باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير
- قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}
- قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ...}
- قوله تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
- قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}
- قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}
- قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ...}
- قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ...}
- قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "كتاب الأدب" من هذا الكتاب المبارك، هذا باب "استحباب التبشير والتهنئة بالخير"، الاستحباب يُطلقه الفقهاء -رحمهم الله- على معنى أوسع وأعم من السنة، قد يكون ذلك؛ لأن الشارع رغب فيه، حث عليه لكن من غير إيجاب، وقد يكون هذا الاستحباب عند الفقهاء لوجه من النظر، وهذه قضية يحتاج طالب العلم أن يفهمها؛ لئلا يتعجل فيتفوه بكلام غير لائق تجاه أحد من علماء المسلمين، يقول: كيف يستحبون شيئًا لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة؟، فهم قد يستحبون الشيء لوجه من النظر، مثال: تجد بعض الفقهاء -رحمهم الله- بغض النظر عن المثال هل نوافق عليه أو لا، وهذا كلام لبعض السلف، لبعض التابعين فمن بعدهم: "يستحب أن يكون الختم -ختم القرآن- في الصيف في أول النهار، وفي الشتاء في آخر النهار"، لا دليل لا من الكتاب ولا من السنة على هذا، فلماذا؟
قالوا: يكون في الصيف في أول النهار؛ لأن النهار طويل لأجل أن يبدأ بختمة جديدة فيقطع شوطاً، هكذا كانت حياتهم، وفي الشتاء في آخر النهار من أجل أن الليل يطول فيشرع بختمه فيستطيع أن يقطع فيها شوطاً، من هذا الوجه، هذا لوجه من النظر، يعني ليس لدليل من الكتاب ولا من السنة، قد تجد بعضهم يقول: يستحب أن يكون دعاء ختم القرآن في صلاة كأن يجعل ذلك مثلًا في الوتر، لماذا؟ لأن ذلك أدعى إلى الإجابة أن يكون في صلاة مع أن هذا لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، يجعله مع قنوت الوتر، هو محل للدعاء، وهكذا، فهنا يقول: "باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير"، هل هذا لوجه من النظر؟
الجواب: لا، وإنما لدلائل من الكتاب والسنة، الله يقول: فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر:17]، وأخبر أنه بعث محمداً ﷺ: مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء:105]، ومن أسمائه ﷺ وأوصافه أنه بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة:19] هذا من أوصافه ﷺ، التبشير ما حقيقته؟
التبشير في أصله عند الإطلاق كما هو الغالب في الاستعمال يقال للإخبار عما يسر خاصة، وقيل له ذلك يقولون: لظهور أثر ذلك -يعني البشارة- على بشرة الإنسان، يظهر أثر السرور والفرح والبهجة، وقد تقال البشارة في الإخبار بما يسوء، كما قال الله : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق:24]، وأصحاب المجاز الذين يقولون بالمجاز يقولون: هذا من قبيل المجاز، وأن المقصود بذلك التهكم، كما قال الشاعر:
وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيلٍ | تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعُ [1] |
سمى الضرب -القتال- تحية، فالمقصود أن البشارة تطلق على الإخبار بما يسر، وقد تقال في الإخبار بما يسوء.
استحباب التبشير والتهنئة بالخير، وهذا لا شك أنه مستحب، سواء كان ذلك من مطالب الآخرة، أو من مطالب الدنيا، وإدخال السرور على المؤمن، أمر محبوب شرعاً قد جاء الترغيب فيه، كما في قوله -تبارك وتعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ، وكذلك لما نزلت آية التوبة على الثلاثة الذين خلفوا قال النبي ﷺ لكعب بن مالك: أبشر بخير يوم طلع عليك منذ ولدتك أمك[2].
وقال لعائشة لما نزلت براءتها: يا عائشة أبشري[3]، وكذلك أيضاً لما نزلت توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا صعد رجل جبل سلع، وجبل سلع معروف في المدينة قريب من المسجد النبوي من الناحية الشمالية تقريباً، وجبل سلع صغير لا يظهر كثيراً مع البنيان، ربما يراه الإنسان من بعيد، يرى أعلاه، جبل صغير، هذا الذي كانت تحته غزوة الخندق، صعد رجل جبل سلع، وقال: أبشر يا كعب بن مالك، وأسرع رجل ركب فرساً إلى كعب بن مالك ، وكان ذلك بعد صلاة الصبح، وطار إليه بالبشرى مسرعاً، هذا يدل على ماذا؟ يدل على أنهم كانوا يدركون ويفهمون هذا المعنى البشارة، فكعب بن مالك لما بلغه ذلك نظر فإذا الصوت أسرع من الفرس، فلم يجد شيئاً يعطيه حتى خلع له قميصه وأعطاه، فهذا أيضاً يؤخذ منه أن الإنسان المبشِّر بما يسر يمكن أن يُقابَل بشيء من الإحسان.
فالمقصود أن إخبار الناس بما يسرهم وتحري مسارِّ الناس هذا مطلب شرعي نغفل عنه كثيراً، وسواء كان ذلك في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، التبشير ليس فقط الترهيب، ليس فقط الإخبار عن الأحكام الحلال والحرام، وهذا وإن كان من المطالب الشرعية لكن ليس بجانب بالتبشير، لكن ذلك إنما يكون في مقامه بالنسبة للدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، فالإنسان المُسرف على نفسه المفرط يُخوف، والإنسان المحسن يقال له: أبشر، أنت على خير، هذا الاشتغال الذي تشتغل به من تعليم القرآن أو من الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، أو من الاشتغال بالعلم، أنت على خير، أنت على الجادة، أصلح نيتك وأنت على الطريق، أبشر، الله لا يضيعك، ومن الخطأ أن يكون التعامل مع الناس سواء كانوا من الأهل أو من غيرهم بإغفال هذا الجانب، بل أحياناً يكون بالإخبار بما يسوء، يعني من الناس من إذا رأيته أو اتصل عرفت أن عنده خبرًا غير جيد، مجرد ما يقول: أريد أن أقابلك تعرف أن عنده خبرًا غير جيد، لماذا هكذا دائماً يكون الإنسان حمالاً للأخبار التي تسوء؟، من الناس من تحمل همه بمجرد ما يتصل: أريد أن أقابلك، إذن هناك مشكلة، عنده مشكلة، شيء غير جيد، حصل شيء غير جيد، سيتحدث عن أمر مزعج مؤلم، هناك جانب من البشائر هل جربت أن تتصل يومًا على أحد تقول له: أبشرك، أبشر بكذا، هذا جانب نحتاج إليه.
والله يقول: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17-18]، هؤلاء هم المبشَّرون، فيؤخذ منه أن المحسن من الناس يُبشَّر، وذلك مما يثبّته ويبعث الانشراح في الصدر والسرور، والنفس يعتورها شيء من الوحشة، ويجد الإنسان أحيانًا عصرة في قلبه أو ضيقًا قد لا يدري ما سببه، فإذا وجد مثل هذا التبشير، هذا اللون من التعامل انفسح صدره واتسع وانشرح، وسُر وصار ذلك تثبيتًا له على الطريق، الحياة فيها مشقات، فيها آلام، فيها مشكلات، فيها صعاب، تجتمع هذه الأمور ولو كانت دقيقة صغيرة واحدة فتثقل الإنسان، ترهقه، فيحتاج إلى أمور تنشط قلبه، وتبعث فيه الهمة، ومن ذلك التبشير، فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فكل كلام الله حسن، وكلام رسوله ﷺ حسن، فمن أهل العلم من يقول: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ بمعنى أنه يختار أفضل الأمرين حال التخيير، "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"، فإذا خُير مثلًا في الكفارة بين الإطعام والعتق والكسوة فإنه يختار الأنفع، والأجدى للفقير، لا ينظر إلى مصلحة نفسه، وهكذا إذا خُير بين أمرين فإنه يختار الأعظم أجراً، والأنفع للناس، أما إذا كان ذلك مما يختص به فخُير بين أمرين فإنه يختار الأسهل، كما هو هدي النبي ﷺ، لكن في الأعمال الصالحة يختار الأعظم أجراً من غير قصد للمشقة، ومن أهل العلم من يقول -وهذا أظنه أقرب والله تعالى أعلم في تفسيره: إن المراد فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أنهم يبادرون إلى فضائل الأعمال، يعني شرائع الإسلام كبيرة جدًّا لا يستطيع الإنسان أن يعمل بكل ما جاء من المستحبات، ولكنه دائماً يبحث عن الأعمال التي تقربه، وترفعه عند الله ، ومن أهل العلم من يقول: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ إن أفعل التفضيل هنا غير مراد، وإنما يتبعون الحسن، وكل كلام الله حسن، إلى غير ذلك مما قيل فيه.
وقال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة:21] هذه بشرى من الله.
وقال: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] هذا تبشير لهم عند الموت.
وقال تعالى عن إبراهيم : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101]، وهو إسماعيل ، كما أنه بشر بغلام عليم، وهو إسحاق.
وقال: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى [هود:69] بشروه بالغلام وبشروه أيضاً بهلاك قوم لوط.
وقال تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، ضحكت، بعضهم يقول: ضحكت لما رأت خوفه من الملائكة، وهذا غير لائق، ولا صحيح، وبعضهم يحاول أن يوجه هذا، يقول: ضحكت لما رأت خوفه وهو بين قومه وفي بيته وبين عشرته وخدمه، وهذا غير صحيح، وبعضهم يقول: ضحكت فرحاً بهلاك المجرمين، وهذا له وجه، لما بشروا بهلاكهم ضحكت فرحت، المؤمن يفرح بهلاك أعداء الله -تبارك وتعالى، وبعضهم يقول: ضحكت بمعنى حاضت، والحيض له أسماء عشرة منها: الضحك، ولكن هذا فيه بُعد؛ لأن القرآن لا يجوز حمله على معنى مغمور، أو غير مشهور، وترك المعنى المتبادر الظاهر المشهور إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وهنا لا دليل على أن المقصود الحيض، والذين قالوا: الحيض قالوا: القرينة أنها قالت: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:72] يعني أنها كبيرة، قد وصلت إلى سن اليأس لا تحيض، فحاضت، فصارت مهيأة للحمل فبشرت بذلك، يقول: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ بُشرت بإسحاق؛ لأن سارة -رحمها الله- ولدت إسحاق، هاجر أمنا -رحمها الله- ولدت إسماعيل، وكان قبل ذلك، والمؤرخون بعضهم يقول: بينهما ثلاث عشرة سنة.
وقال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39] هذا زكريا لما دعا ربه أن يرزقه ذرية طيبة، بُشر وهو قائم يصلي في المحراب، والمحراب مكان العبادة، وبعضهم يقول: سمي بهذا؛ لأنه يحارب به الشيطان، ولا حاجة لذلك، فهو مكان العبادة، وليس المقصود به هذا الذي ترونه في المسجد المحراب هذا المقوس، لا، وإنما مكان العبادة يقال له: محراب، ويقال للأماكن الشريفة في المجالس: محاريب، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13] ومحاريب جمع محراب فقيل: هي الأماكن المرتفعة الشريفة في المجالس.
فهنا بُشر وهو قائم يصليأَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ويحيى اسم أعجمي، وإن كان ظاهره أنه من الحياة لكنه اسم أعجمي.
وقال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ [آل عمران:45] الملائكة نادتها بهذا، وما كل من كلمه الملَك نبي، فهذا مثال أن الملك قد يأتي لإنسان غير نبي، بِكَلِمَةٍ مِنْهُ الكلمة عيسى قيل له: كلمة؛ لأنه كان بالكلمة بـ"كن"، من غير أب، من غير جماع، من غير نطفة، وإنما كان بـ"كن"، بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي: مبتدأة من الله، وليست جزءًا من الله كما يقول النصارى -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً، ويدل على أنها للابتداء -ابتداء الغاية- وليست تبعيضية: أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر إنعامه على عباده، وإفضاله، وتسخيره ما في السموات، وما في الأرض قال: جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] يعني مبتدأ منه -تبارك وتعالى، وليست هذه النعمة المسخرة هي بعض من الله ، فهذه مثل هذه.
فاسمه المسيح، وقيل له: المسيح؛ لأنه يمسح ذا العاهة فيبرأ بإذن الله -تبارك وتعالى، وقيل غير ذلك، قيل: ممسوح القدم ليس فيها التجويف الموجود في أقدامنا، قيل ذلك، وأما الدجال فإنه قيل له: المسيح لسبب آخر، قيل: لأنه يمسح الأرض في أربعين، وقيل: لأنه ممسوح العين أعور، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.