الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر وغيره أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أبي سليمان مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله ﷺ ونحن شبَبَة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله ﷺ رحيماً رفيقاً، فظن أنا قد اشتقنا أهلنا، فسألَنَا عمن تركنا من أهلنا، فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم ومروهم، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم[1]، متفق عليه.
زاد البخاري في رواية له: وصلوا كما رأيتموني أصلي.
مالك بن الحويرث قدم على النبي ﷺ مع أصحاب له، وكانوا كما جاء في هذا الحديث: "شببة متقاربون"، يعني: في السن، جاءوا إلى النبي ﷺ ليتشرفوا برؤيته ﷺ والأخذ عنه، والتفقه على يده.
يقول: فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله ﷺ رحيماً رفيقاً، وهذا يؤخذ منه الرحلة في طلب العلم، وبقوا هذه المدة عند رسول الله ﷺ.
يقول: فظن أنا قد اشتقنا فسألَنَا عمن تركنا، وظاهره أنهم اشتاقوا إلى أهلهم، أي: إلى زوجاتهم، ويدل على ذلك من السياق أنه سألهم عمن تركوا، يعني: لو كانوا اشتاقوا إلى إخوانهم -مثلًا- أو إلى آبائهم أو أمهاتهم أو نحو ذلك فإن السؤال قد يكون لا معنى له، لكن لما سألهم تحقق أنهم قد تركوا أزاوجهم خلفهم، ويدل على ذلك قوله : وكان رسول الله ﷺ رحيماً رفيقاً، بمعنى: أن النبي ﷺ راعى أحوالهم، وذلك أن الرجل قلما يصبر عن امرأته مدة تطول، ويشق عليه أن يصبر مثل هذه المدة -عشرين ليلة، هذا الرجل السوي، الذي ليس به بأس، ولا علة.
ومن هذا نأخذ فائدة، وهي: أن هؤلاء الخدم من النساء والرجال، من السائقين وغيرهم، هم ليسوا جمادات، يجلس الواحد عن امرأته وقد يكون جاء من بلد يباح فيها كل شيء من حدود الله ، يستبيحونه ويستحلونه، ثم يجلس عنده لمدة سنتين، أو تجلس هذه الخادمة لمدة سنتين، لا تسافر، ليس معها زوج، أو هذا ليس معه زوجة، فما ظنكم؟ ما الذي يفكر به؟ ما الذي يشغل ذهنه؟ ما الذي يقوم معه ويقعد يستحوذ على تفكيره؟
هو هذه الغريزة المتوقدة، التي لربما يوجد ما يثيرها ويحركها من مشاهدات وقنوات، ولربما في الشبكة، أو في هذه الأجهزة عن طريق الهاتف، فيرى أشياء تستفز الرجل الهرم، فتعيده صبيًّا -نسأل الله العافية، فكيف بهذا الإنسان الذي يمتلئ قوة وشباباً؟، ثم بعد ذلك هو الذي يذهب بالبنات، ويأتي في كل يوم، والله المستعان.
هذه أمور تحتاج إلى مراعاة، يؤتى معه بزوجته، فيكون ذلك أدعى إلى العفاف وغض البصر.
يقول: فقال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم.
النبي ﷺ أمرهم أن يرجعوا، هم بقوا عنده عشرين ليلة، يرجعون إلى أهليهم، فيعلمون هؤلاء، ويدعونهم إلى الله، ويأمرونهم، وينهونهم، وما أشبه ذلك.
هل يؤخذ منه أن الإنسان إذا تلقى العلم في مدة كهذه في عشرين ليلة، أو نحو ذلك، أنه يكون مؤهلاً ليحمل الدعوة إلى الناس، ويتصدر في هذا؟ الجواب: لا، النبي ﷺ قال: بلغوا عني ولو آية[2].
فهذا في البلاغ، يبلغ عنه ولو آية، لكن الدعوة ليست مجرد بلاغ لآية، أو بلاغ لحديث، الدعوة تحتاج إلى فقه، تحتاج إلى معرفة بأحوال المخاطبين، وتحتاج إلى معرفة بما يُخاطَبون به، وتحتاج إلى معرفة بواقع هؤلاء الناس والبيئة التي يعيشون فيها، ويراعى ذلك كله، لاسيما في زماننا هذا، فالإنسان حينما يذهب إلى بلاد كثيرة، فإنه يُسأل عن الدقيق والجليل، يُسأل عن كل شيء وأمور من النوازل الكبار، ويُظن بهذا الذي قد جاء أنه من العلماء، ولذلك أقول: فرقٌ بين أن يقال للإنسان الذي تعلم بعض العلم ويذهب إلى ناحية، هو أمثلهم، يقال له: اذهب إلى أهلك وعلمهم ما تعلمت، وتأمرهم وتنهاهم، وفرق بين أن يقال له: تصدر، شرِّق وغرِّب، تذهب وتدعو إلى الله.
النبي ﷺ حينما كان يبعث من يعلمون الناس، كان يبعث علماء، كما بعث معاذًا ، يبعثهم إلى الأقاليم، إلى البلاد التي تحتاج إلى تعليمهم وعلمهم وقضائهم، وما أشبه ذلك، لكن هؤلاء من الوفود الذين وفدوا على النبي ﷺ، فحينما يعلمهم أشياء من دين الله -تبارك وتعالى- هم يذهبون إلى قومهم، فيفقهونهم بهذه الأمور، ففرق بين التصدر للدعوة أو للعلم، وبين كون الإنسان يبلغ أشياء تعلمها لأهله وقومه وجماعته.
قال: وصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا يعني: علمهم المواقيت، والمواقيت جاءت مفصلة، جبريل صلى بالنبي ﷺ في يومين، اليوم الأول في أول الوقت، وفي اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال له: الوقت ما بين هذين.
وكذلك الأعرابي الذي سأل النبي ﷺ عن مواقيت الصلاة، فأمره النبي ﷺ أن يصلي معه يومين، فصلى النبي ﷺ في اليوم الأول في أول الوقت، وصلى في اليوم الثاني في آخر الوقت.
يقول: فإذا حضرت الصلاة، يعني: دخل الوقت، فليؤذن لكم أحدكم، ويحتمل أن يكون المقصود حضرت الصلاة: يعني: أردتم الصلاة، بمعنى متى يؤذن الإنسان؟ هل يؤذن للوقت؟ أو يؤذن إذا أراد أن يصلي؟ يؤذن للوقت؛ لأن الأذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة، على قول بعض العلماء، والواقع أن الأذان هو إعلام بدخول وقتها وزيادة، بمعنى: أن من الفقهاء من رخص في الأذان قبل دخول الوقت، بعضهم رخص في هذا بغض النظر عن كون هذا صوابًا أو لا، لكن يوجد من الفقهاء من رخص في مثل الفجر أن يؤذن قبل الوقت، فما صار إعلامًا لدخول الوقت على هذا القول، كذلك أيضًا حينما يجمع بين الصلاتين لا يؤذن للأولى في جمع التأخير عند دخول الوقت، وإنما يؤذن في وقت الثانية.
كذلك لو أنه صلى في منتصف الوقت ليس في أوله ولم يؤذن، هل يشرع له الأذان أم لا يشرع؟ نقول: نعم، لا بأس أن يؤذن، فما صار هذا إعلامًا لدخول الوقت، فهو عبادة.
يقول: وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم.
في الأذان قال: أحدكم، وجاء في حديث الأذان أن النبي ﷺ قال: ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا[3].
فدل على أن الأذان يطلب فيه حسن الصوت، بخلاف الإمامة، فإذا وُجد اثنان أحدهما أندى في صوته، فإنه أولى بالأذان.
وأما بالنسبة للإمامة فقال: وليؤمكم أكبركم هذا الحديث مخرج في الصحيحين، لكن تُجمع الأحاديث الواردة في هذا الباب، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله...[4].
ورتب بعده أعلمهم بالسنة، إن كانوا في القراءة سواء، فدل ذلك على أن الأكبر إنما ذلك لأنهم -والله تعالى أعلم- كانوا سواء في القراءة والفقه والعلم بالسنة، جاءوا جلسوا جميعاً عند النبي ﷺ عشرين ليلة، فهذا القدر الذي تعلموه جميعاً على حد سواء، فهنا ما المرجح؟ علم هؤلاء بالقرآن وبالسنة متحد، متساوٍ، فالمرجح هو السن في هذا الحديث، وإلا فالأقرأ.
واختلف العلماء -رحمهم الله- في المراد بالأقرأ، هل المقصود أن يكون الإنسان أقرأ بمعنى أحفظ، أو أن المقصود الحفظ وزيادة؛ لأن الصحابة والسلف الصالح ما كانوا يتلقون القرآن كما نتلقى، فكانوا يتلقونه مع التفقه بمعانيه، ابن عمر جلس في البقرة ثمانيَ سنوات، عمر جلس اثنتي عشرة سنة، كما يقول أبو عبد الرحمن السُّلَمي: أخبرنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن أصحاب رسول الله ﷺ كعثمان أنهم ما كانوا يتجاوزن خمس آيات، أو عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا العلم والعمل جميع[5].
وحديث ابن عمر -رضى الله عنهما- كنا نتلقى الإيمان قبل القرآن[6].
وغير ذلك مما يدل على أنه كان مصطلح القُرّاء عندهم يعني العلماء، لما قيل: قُتل سبعون من القراء، يعني: هؤلاء أهل علم، لما استهزأ المنافقون قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -في غزوة تبوك- أشد حرصاً على البطون، إلى آخره، هم يقصدون طلبة العلم، يقصدون المشايخ، يقصدون العلماء، يستهزئون بهم كما يستهزئ بعض الكتاب اليوم في الصحف، يشتمون علماءنا من الأحياء والأموات، ويسخرون منهم، ومن فتاواهم وكل يوم شانين حملة على واحد، ما تركوا أحداً، والبقية في الطريق.
فالمقصود أن القُرّاء عند كثير من أهل العلم بمعني: الفقهاء، العلماء، لكن ليس هذا محل اتفاق، الذين قالوا: المقصود مجرد القراءة استدلوا على هذا بأشياء أيضاً.
الأقرأ، ثم الأعلم بالسّنة، والسن يكون مرجحاً بعد ذلك.
يقول: وفي رواية للبخاري وصلوا كما رأيتموني أصلي لأن النبي ﷺ صلى أمامهم على المنبر، وعلمهم، وأمرهم أن يتأسوا به، وهذا الحديث مشهور جدًّا في صفة صلاة النبي ﷺ.
وفيه أنه جلس للاستراحة.
الشاهد في هذا الحديث هو أن النبي ﷺ أوصاهم، قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم... هذا الشاهد في الباب، وصية المسافر عند توديعه.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، والإقامة، وكذلك بعرفة وجمْعٍ، وقول المؤذن: الصلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة (1/ 128)، رقم: (631)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة (1/ 465).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (4/ 170)، رقم: (3461).
- أخرجه البيهقي في السنن، كتاب الصلاة، باب الرجل يؤذن ويقيم غيره (1/ 587)، رقم: (1873).
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة (1/ 465)، رقم: (673).
- أخرجه أحمد (38/ 466)، رقم: (23482).
- أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/ 91)، رقم: (101)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 170)، رقم: (5290).