الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر وغيره، والدعاء له وطلب الدعاء منه أورد المصنف -رحمه الله-:
وليس ذلك مختصًّا بالجيش، فقد مضى في الليلة الماضية حديث عبد الله بن عمر أنه كان يقول للرجل إذا أراد سفراً: ادن مني حتى أودعك كما كان رسول الله ﷺ يودعنا، فيقول: أستودع اللهَ دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك[2].
وقد مضى الكلام على هذه الأمور، والحكمة من قول المودِّع للمودَّع: أستودع اللهَ دينك وأمانتك وخواتيم عملك، وقلنا: إن ذلك يرجع إلى أن السفر مظنة للترخص والتخفف من كثير من المروءات، ولربما التخفف من أحكام الشرع، سواء كان ذلك بسبب المشقة العارضة في السفر، أو كان ذلك بسبب ما يحصل عادة من الغريب في البلد التي لا يُعرف فيها، فلا يرعوي، ولا يبالي، فيصدر منه تصرفات غير لائقة، ويقارف ما لا يقارفه في بلده أحيانًا.
فهنا يحسن أن يُدعى له بهذا، أستودع الله دينك، يعني: أن يكون وديعة عند الله -تبارك وتعالى- ليُحفظ في دينه، وذكرنا الأمانة أيضاً، وما يدخل فيها، وأن النظر أمانة، والسمع أمانة، والمشي أمانة، وكل ما استودعنا الله وكلفنا به من الأحكام الشرعية والتكاليف هو من قبيل الأمانات، فلا تضيع، والوعود والعهود والمواثيق.
وخواتيم أعمالكم وقلنا: لأن الأعمال بالخواتيم، فالإنسان لربما في لحظة غفلة يقع في منكر ومعصية، ثم يموت عليها، فيفتضح في الدنيا والآخرة.
وذكرنا الحديث: إنما الأعمال بالخواتيم[3] ، ولو لم يكن إلا هذا لكفى في زجر المرء عن ذنوب الخلوات، يقبض، يموت وهو على هذه الحال -نسأل الله العافية.
لعلكم رأيتم في بعض الصور بعض من يتعاطون المخدرات، في رمضان في دورة مياه -أعزكم الله- في مسجد، نسأل الله العافية.
ورأسه في مكان القذر والنجاسة، في رمضان، في النهار لا شك أنها خاتمة غير جيدة، غير محمودة.
ثم ذكر حديث أنس وهو آخر حديث في هذا الباب:
يؤخذ من هذا الحديث مشروعية طلب الإنسان الوصية ممن يثق به وبدينه وعلمه، إذا أراد أن يسافر، يقول: زودني، أوصني، فربما يسمع كلمة تبقى عالقة في ذهنه، فتنفعه، ويكون ذلك سبباً بإذن الله لخلاص من أمور قد يتورط الإنسان فيها.
فالنبي ﷺ دعا له بهذه الدعوة الجامعة، يعني: هي دعوة، وفيها إشارة للوصية؛ لأن الوصية في الأصل هي الأمر أو النهي المقترن بما يؤكده، ويحث على فعله ولزومه، تقول: أوصيك بكذا، أوصيك بزيد، يعني: هي ليست مجرد أمر ونهي، إنما هي أمر ونهي وزيادة، يعني: بتأكيد، فهذه يقال لها الوصية، فلان أوصاني بكذا.
فهنا الرجل قال: زودني، ما قال: ادعُ لي، قال: زودني، فقال: زودك الله التقوى دعا له، وفي ضمن ذلك إشارة إلى ملازمة التقوى، وهذه أجمع الوصايا؛ لأن التقوى تشتمل كل ما يحبه الله ويرضاه، والكف عن كل ما يسخطه.
هذه التقوى، فعل المأمورات، واجتناب المحظورات، فدعا له النبي ﷺ: زودك الله التقوى، وإذا زُود العبد التقوى حصل له كل بر ومعروف، وحصل له الخلاص من كل أمر مشين.
قال: زدني، قال: وغفر ذنبك، والغفر كما سبق في بعض المناسبات يتضمن أمرين اثنين:
الأول: الستر، فلا يفتضح، والأمر الثاني: التجاوز عن المعصية، ويُوقَى العبد شؤمها، وما ينتج عنها من الإثم والعذاب، ولذلك قيل للمِغْفر الحديد الذي يضعه المقاتل على رأسه: مغفر؛ لأنه يستر رأسه، ولأنه يقيه أيضاً من ضرب الحديد.
فإذا قلت: اللهم اغفر لي، فمعنى ذلك أنك تدعو ربك بأن يسترك، فلا تفتضح، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وأن يتجاوز عن خطئك وذنبك، هذا معناه.
قال: وغفر ذنبك فإذا حصلت للعبد التقوى فإنه في المستقبل لا يصدر منه إلا ما يجمل ويليق، وفي ذنوب الماضي قال: وغفر ذنبك تُستر؛ لأن الفضيحة قد تلاحق الإنسان، ولو بعد حين، نحن نسمع أحياناً أشياء، أناس، يعني: يقول: لولا الخوف من الله، وأنه ليس نهاية المطاف لتخلصت بالانتحار، أمور كانت من قبل، ذنوب كانت من قبل نُبشت، فتحطم هذا الإنسان، وخربت علاقته بأهله، بزوجته، وبأهلها وصارت الأمور إلى فضائح، وعداوات، ومشكلات على قضايا قديمة، تاب منها، لكن نبشت، هي تاريخ.
وبعض النساء نفس الشيء، نبشت لها قضايا بعد الزواج، وكم من امرأة نبشت لها قضايا بعد الزواج في علاقات سابقة، فتُرسَل رسائل للزوج فيها صور لهذه المرأة مع رجال، في أماكن ريبة، ومكالمات لها بأمور غير لائقة بعد الزواج، فتجلس تحثو التراب على رأسها، وتبكي، وتولول، هذه نتيجة، نسأل الله العافية.
قال: زدني، قال: ويسر لك الخير حيثما كنت تيسير الخير له يشمل الخير في الدنيا، وفي الآخرة، فتُيسر له الأعمال الصالحة التي يطيقها، وييسر له فعلها، وكذلك أيضاً ييسر له من يعينه على ذلك، كما يحصل له التيسير في الخير في الأمور الدنيوية، من ربح في التجارات، ومكاسب مباحة، وزوجة صالحة، وولد بار، فكل هذا من الخير، فهذه دعوة جامعة.
قال: حيثما كنت، فقد ييسر للإنسان تُفتح له أبواب بركة وخير في مكان، في عمل، في جهة، في مزاولة من تجارة معينة، لكن حيثما توجَّه ييسر له الخير، فبعض الناس يكون هكذا.
ومن الناس من لا يوفق، ونسأل الله العافية، لربما يقنع نفسه أنه لا يصلح لشيء، وأن جميع الأعمال والمشروعات الطيبة لا تناسبه، فيموت ولم يورِّث شيئاً يذكر، ولم ينجز عملًا له شأن، فهذا محروم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ (5/ 500)، رقم: (3444).