الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقال كعب بن مالك في خبر تخلفه عن غزوة تبوك: "فلما بلغني أن رسول الله ﷺ قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثِّي".
يعني: لما شرع النبي ﷺ في العودة، يقول: حضرني بثي، يعني: الهم، والغم، والحزن، بسبب تأخره، فقد فاته هذا الغزو قطعًا بعد أن كان يسوف ويرجِّي أنه يدرك رسول الله ﷺ، ثم إنه كيف سيواجه النبي ﷺ وبماذا سيعتذر إليه؟!.
يقول:"فطفقتُ -يعني: فجعلت- أتذكَّر الكذبَ، وأقول: بم أَخرجُ من سخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك بكلَّ ذي رأيٍ من أهلي".
يقول: أستشير من كان عنده رأي وعقل ورجاحة، ماذا أفعل؟ وماذا أقول؟ "فلما قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قد أظلَّ قادمًا"، يعني: قربُ مجيئه وقدومه ودخوله المدينة، "زاح عني الباطلُ".
يعني: كانت عنده من الخواطر والوسواس أنه لربما يكذب حتى يتخلص من هذا الحرج إذا سأله النبي ﷺ، فانزاحت عنه هذه السحب.
يقول: "حتى عرفتُ أني لن أنجو منه بشيءٍ أبدًا" يعني: إذا كذبت فإن الله سيطلعه على ذلك وأن الصدق هو الذي تحصل به النجاة، ثم إن هذا من الشجاعة؛ لأن الإنسان الذي يكذب فإنما ذلك لكونه ضعيفًا هشًّا من الباطن، فهو جبان لا يستطيع المواجهة، ومن ثم يلجأ إلى الكذب من أجل أن يتخلص من المواقف التي يحرج فيها.
يقول: "فأجمعتُ صدقه"، يقول: قررت أن أصدق مع النبي ﷺ، "وأصبح رسولُ اللهِ ﷺ قادمًا"، قدم في الصباح، كما هو هديه ﷺ ما كان يقدم ليلاً، وكان ينهى عن ذلك من أجل مصالح، وهي أن يسمع الناس بمجيئه ومن معه، فتتهيأ المرأة التي غاب زوجها وتستحد، وتمتشط الشعثاء، ثم إن المسافر حينما يقدم ليلاً كأنه يتخون أهله، يعني: يبغتهم في الليل، فقد يكون بهذا الفعل كأنه يتخونهم، يعني: يبتغي الريبة فيهم، وهذا أمر غير محمود، لكن اليوم مع وسائل الاتصال أصبح هذا الأمر لا إشكال فيه؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فالعلة هي ما ذكره النبي ﷺ في بعض الأحاديث، واليوم يمكن أن الناس يتواصلون، ويتصلون، ويعرفون وقت المجيء بشيء من الدقة، فلم يعد الناس كالسابق.
يقول: "وكان إذا قدِم من سفرٍ بدأ بالمسجدِ فركع فيه ركعتَين، ثم جلس للناس" هذه سنة من السنن المهجورة اليوم، السنة أن الإنسان إذا جاء من السفر أن يبدأ بالمسجد ويصلي ركعتين، ثم بعد ذلك ينصرف إلى بيته.
يقول: "ثم جلس للناس بعد الصلاة، فلما فعل ذلك جاءه المُخلَّفون فطفِقوا يعتذرون إليه، ويحلِفون له".
الذي يشعر بأنه غير مصدَّق يضطر إلى توكيد الكلام بمؤكدات بحسب ما يتوقع من التهمة الموجهة إليه، بحسب ما يظن ويقدر من تصديق الناس له أو من عدم تصديقهم، فهنا جعلوا يحلفون، وكانوا بضعًا وثمانين رجلاً، وهذا عدد كبير جدًّا، ويحلفون فقبل منهم علانيتهم، وهذا يدل على أنهم كانوا من المنافقين يكذبون ويحلفون، كما قال الله : وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14]، يعني: أنه كذب، وليس ذلك فحسب، بل ما سبق من قول كعب أنه حينما يخرج لا يرى إلا رجلاً مغموصًا عليه في النفاق، أو ممن عذر الله.
فهؤلاء الذين عذرهم الله لا يحتاجون إلى أن يأتوا إلى النبي ﷺ ويحلفون له، فأعذارهم ظاهرة، فالشاهد أن النبي ﷺ قبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.
وهذا هو المنهج الشرعي في التعامل مع الناس أن يُحمل الناس على الظاهر، وأما بواطنهم فتترك إلى ربهم -تبارك وتعالى- فهو الذي يعلم السرائر.
يقول: "حتى جئت فلما سلمتُ تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟"، يعني: اشتريت الراحلة.
قال: "قلت يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعطيتُ جدلاً، ولكنني والله لقد علمتُ لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله يسخطك عليّ، وإن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه -يعني تغضب- إني لأرجو فيه عقبى الله " يعني: أن يكون لي بذلك المخرج والفرج والعاقبة الحميدة بتوبة الله عليّ.
ثم قال: "والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك"، هذا اعتراف واضح وصريح وكبير كالشمس بأنه لا عذر له.
قال: "فقال رسول الله ﷺ: أمّا هذا فقد صدق"، وهذا يدل على أن أولئك الذين جاءوا وحلفوا أن النبي ﷺ لم يصدقهم قال: "فقم حتى يقضي الله فيك"، يعني: ما استغفر له، وما قبل منه، هذا يعني أنه لم يعتذر له بعذر حتى يقبل.
يقول: "وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني"، يعني: هؤلاء الآن من قومه جعلوا يلومونه لماذا؟، ولماذا؟ لماذا تفعل بنفسك هذا؟، "فقالوا: والله ما علمناك أذنبت ذنبًا قبل هذا، لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله ﷺ بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ﷺ لك"، يعني: أنك إذا كذبت استغفر لك، يكفيك هذا.
وهذا نوع من التخذيل عن الصدق مع رسول الله ﷺ والإنسان قد يتخذ قرارات صحيحة، ثم بعد ذلك يأتي بعض من يحتفّ به من أهله وقراباته، ولربما بعض الأصحاب في لبوس المحبين، فيفتلونه عن ذلك، ويثبطونه عنه، حتى ينثني، وهذه مشكلة يحتاج الإنسان أن يتفطن لها.
قال: "فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله ﷺ فأكذّب نفسي" يعني يقول: الذي ذكرته غير دقيق، كانت لي أعذار.
يقول: "ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟" يعني: جعلوه يعيش في حالة من الوحشة والغربة، يقولون: أنت الذي فعلته بنفسك، الناس جاءوا يعتذرون، وقبل منهم، واستغفر لهم، وأنت فعلت بنفسك هذا، يقال له: "قم حتى يقضي الله فيك"، ما الذي ألجأك إلى هذا؟
يقول: "قالوا: نعم لقيه معك رجلان" يعني: هل أحد اتخذ نفس الموقف؟، قالوا: نعم، رجلان قالا مثلما قلت: مالنا عذر، وقيل لهما مثلما قيل لك.
قال: "قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة".
لأن أولئك من أهل النفاق هم الذين حلفوا، ورهط كعب يقولون: لك أسوة في هؤلاء، حلفوا واستغفر لهم النبي ﷺ هلا فعلت فعلهم؟.
أولئك كُثر الذين اعتذروا بالأعذار الكاذبة، يعني: بضعًا وثمانين رجلاً، وهؤلاء اثنان، لكنهم من أهل بدر، وأولئك قشة لا يساوون شيئًا؛ لأنهم من أهل النفاق.
فيقول: "فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي".
يعني: ثبتَ، وهذا يدل على أثر القدوة في حياة الإنسان، الإنسان بحاجة إلى قدوات يعايشهم، ويقتدي بهم، ويأتسي.
يقول: "ونهى رسول الله ﷺ عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه"، يعني: بضعًا وثمانين لم ينهَ عن كلامهم، وهؤلاء الثلاثة الذين صدقوا نهى عن كلامهم، فهذا من الهجر الذي يراد به التأديب، فمثل هؤلاء يتحملون؛ لأن النبي ﷺ وَكلهم إلى إيمانهم، لكن مثل هذا المنافق لربما لو هُجر لطار إلى الروم، يطير إلى الروم، فهؤلاء ثبتوا على إيمانهم، وكان الهجر تأديبًا لهم وزجرًا.
والهجر إنما هو علاج ودواء يوضع حيث نفع، فإذا كان المهجور ينتفع بذلك فإنه يهجر، وإذا كان لا ينتفع بذلك؛ لأنه مستخف بالهاجر أو بمن يهجرونه، أو لأنه أصلاً لا يبالي، أو لكونه مثلاً يوجد على شاكلته أكثر الناس بحيث لو أن الهاجر هجره أو هجر من كان على شاكلته لتحول الهاجر إلى مهجور، يعني: يصير الهاجر هو الذي يعيش في غربة، وفي هذه الحالة لا يهجر، إنما يهجر حيث ينفع، فإذا كان الهجر يؤدي إلى ردود أفعال عنيفة سلبية، وتزيد المشكلة فإن هذا أيضًا لا يهجر؛ لأن المقصود التأديب والعلاج.
هذا إنسان صاحب معاصٍ، صاحب ذنوب، صاحب كبائر، فقرر القرابات مثلاً أن يهجروه، ما الذي يترتب على هذا الهجر؟ إذا كان مستخفًّا فهذا لا ينفع معه الهجر، إذا كان هذا الإنسان سيؤدي به هذا الهجر إلى الارتماء بأحضان الشياطين لا يُهجر، وفي حالة ثانية يكون الهجر لمصلحة الهاجر، وذلك أنه لربما كان لا يسلم من شره إلا إذا هجره فيهجر حفظًا لنفسه ودفعًا لشر المهجور.
يقول: "فاجتنبَنَا الناسُ -أو قال: تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة".
تنكر له كل شيء والإنسان في أوقات المحن والشدائد، لاسيما إذا تنكر له الناس وتغيروا بأحوال الابتلاء، فإن كل شيء يتغير، لون الأرض يتغير، المباني تتغير، طعم الطعام يتغير، الهواء الذي يتنفسه يتغير، الصدر يضيق، وينكمش، ويشعر الإنسان أنه يعيش في عالم كأنه من غير عالمه، غير العالم الذي عرفه، وهذا يعرفه من ابتلي، ومن جرب هذه المعاني، حينما يتنكر الناس للإنسان بسبب البلاء، ولو كان محقًّا، وهؤلاء الناس قد يتنكرون له لسوء حالهم، وقد يتنكرون لسبب آخر، كهذا السبب الآن النبي ﷺ هجرهم تأديبًا وردعًا، وقد يتنكر له الناس خوفًا، يُبتلى الإنسان، فيخاف من حوله ثم بعد ذلك ينقبضون منه، فلا يزوره أحد، ولا يلقاه أحد، ولربما يخاف بعض الناس حتى من السلام عليه، وهذا يحصل ويقع فيكون ذلك أشدّ على الإنسان.
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.