الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
فهذا آخر مجلس في هذا الكتاب المبارك كتاب رياض الصالحين، أعلق فيه على بقية من حديث مضى الكلام على أكثره، وبقيت منه بقية نستوفي ذلك في هذه الليلة إن شاء الله.
أيها الأحبة، هذا الحديث حديث طويل، وهو حديث كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك، فلما جاءته البشرى انطلق إلى رسول الله ﷺ، يقول: وانطلقت أتأمم رسول الله ﷺ يعني: أقصده، يتلقاني الناس فوجاً فوجاً، أي: جماعات جماعات، يهنئونني بالتوبة، ويقولون لي: لِتَهْنِكَ توبة الله عليك، أي هنيئاً لك بتوبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله ﷺ جالس وحوله الناس، هذا يوم فرح، يوم عيد، حيث تاب الله على هؤلاء الثلاثة الذين خُلفوا، يقول: فقام طلحة، أي: أن الناس جلوس مع النبي ﷺ وبين يديه، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول، أي: يسرع في مشيته، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره[1]، وكعب بن مالك من الأنصار، فكان كعب لا ينساها لطلحة، وهذا يؤخذ منه أيها الأحبة: أن كل ما يتصل بمشاعر الناس، ومشاركتهم قولاً وحالاً وفعلاً في جوانبهم الاجتماعية فإنه ينطبع في نفوسهم، ويؤثر فيها غاية التأثير، وهناك تصرفات قد لا نحسب لها حساباً، ولا نلقي لها بالاً، ولكنها ذات شأن كبير، تبقى آثارها ما بقي الإنسان، سواء كانت هذه الآثار سلبية، أو إيجابية، فطلحة مشى خطوات في هذا الموقف وسلم على كعب، فكان لا ينساها له، ونحن لا نخسر شيئاً حينما نقوم ببعض الجهد اليسير الذي نبدي فيه مشاعر طيبة تجاه إخواننا في مواقف من الشدائد التي تحصل لهم، أو من الأفراح التي تعرض في حياتهم، فتكون هناك مشاركة شعورية، أو هناك مشاركة بالقول، فليُسعف القول إن لم يُسعف الحال، قد لا يكون عندنا مال نقدمه للآخرين، ولكننا نستطيع أن نتكلم بكلمة حسنة نحتوي بها نفوسهم، سواء في آلامهم أو آمالهم، والإنسان في حالات تكون النفس فيها مرهفة إما لشدة تصيبها، أو لفرح يجتاحها، فتكون النفس في غاية الضعف، وتحتاج إلى من يدعمها، فيتذكر الإنسان هذا الإحسان، يتذكر هذا الموقف، وإنما يبتغي المرء بذلك ما عند الله ، أي: يجب أن لا نفعل ذلك ليتكلم علينا الناس، وإنما للتقرب إلى الله، وقد تيسرت الأسباب اليوم، فيستطيع الإنسان أن يتواصل مع أخيه ولو كان في أقاصي الدنيا، قد يحصل لإنسان حادث، أو تقع عليه مصيبة، أو يتزوج، أو يؤذَى، أو يظلم، أو يساء إليه، أو يقدح قادحون في عرضه ظلماً وعدواناً على رءوس الأشهاد، فيجد من أصدقائه من يطمئنه، ويسأل عنه، ويسعى في خدمته، فهذه لها أثر كبير.
يقول كعب : فلما سلمت على رسول الله ﷺ قال وهو يبرق وجهه من السرور ..، انظروا كيف كان الناس يعيشون فرحة عارمة ومن أجل ماذا؟ من أجل أن الله تاب على ثلاثة، هكذا كان المجتمع مترابطاً، والنبي ﷺ كما قال الله : لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]. إذا حصل لكم عنت أو ما يجلب لكم العنت فهذا يشق عليه ﷺ وهو يفرح لفرحكم، ويحزن لحزنكم، فعن أنس أن النبي ﷺ، رأى صبياناً ونساء مقبلين من عرس، فقام نبي الله ﷺ فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إليّ، اللهم أنتم من أحب الناس إليّ يعني الأنصار[2].
قال ﷺ لكعب: أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك "خير يوم": ظاهره أنه أفضل يوم على الإطلاق، أي: أفضل من اليوم الذي أسلم فيه، وبعض أهل العلم يقول: أفضل يوم مر عليه منذ ولدته أمه سوى يوم الإسلام؛ لأنه معلوم أنه بالإسلام يكون قد أعتق من الخلود في النار، إذا أسلم الإنسان فذلك يعني أنه لا يخلد في النار، ولا شك أن أفضل ما يحصل للإنسان هو الإسلام.
يقول كعب: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ انظر إلى هذا الفرح العظيم والصحابة مجتمعون، بقي كعب مدة طويلة لا يكلم أحداً ولا يكلمه الناس، وفي شدة وكرب، غربة مستحكمة، أقرب الناس إليه لا يكلمونه، بل إن النبي ﷺ أمر بالتفريق بينهم وبين أزواجهم من غير طلاق، بقي الاثنان يبكون في بيوتهم، وكعب بن مالك كان أشب الثلاثة، فكان يخرج، ويأتي السوق، ويأتي إلى المسجد، ويلقي السلام على النبي ﷺ وينظر إلى شفتيه هل رد السلام أو لم يرد السلام، لا يكلمه أحد، هذه المواقف لا يدركها من يسمعها سماعاً مجرداً، ولكن من وقع له وحشة في أمور تشبه هذا أو دونه، وتغيرت عليه الأرض عرف ذلك الكرب وتلك الشدة التي مر بها أولائك الثلاثة.
هذا كله من أجل ماذا أيها الأحبة؟ من أجل أنهم تخلفوا عن غزوة تبوك، حتى تاب الله عليهم بنص القرآن، فكانت هذه الفرحة العارمة، فكيف بالذي حياته كلها ذنوب، وفجور، وكبائر، بأي شيء يفرح؟ تأملوا في هذه الحياة النظيفة تخلفوا عن غزوة تبوك، ونتج عن ذلك هذه المقاطعة الكاملة، ثم جاءت هذه التوبة فكان ذلك بمثابة العيد لهم، فمن للإنسان بتوبة وهو يعافس الجرائر، والجرائم، والكبائر، والصغائر، صباح مساء؟
يقول كعب: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ يعني التوبة، قال: وكان رسول الله ﷺ إذا سُر استنار وجهُه حتى كأن وجهَه قطعة قمر، يُمثَّل بقطعة القمر للجمال، يقال: فلان وجهه كقطعة القمر، كفلقة القمر، يقول: وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ﷺ.
قوله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي، يعني: أخرج من مالي، كل مالي صدقة لله، انظروا: تخلف عن غزوة واحدة، هذا يدل على الارتباط بين التوبة والصدقة، والله يقول في السورة نفسها سورة التوبة: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102]، والآية التي بعدها قال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103]، فالتوبة وقبول التوبة له ارتباط مع الصدقة، فالإنسان يتصدق رجاء أن يقبل منه العمل، يتصدق رجاء أن تقبل توبته، يتصدق إذا تاب الله عليه، فقال رسول الله ﷺ: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، انظروا كيف تصدق في هذا المقام، والإنسان في مقامات الفرح الشديد قد يتصرف تصرفات ربما يتراجع عن بعضها إذا رجع إليه حاله قبل هذا الفرح الشديد، ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله: الأولى أن لا يؤخذ من الإنسان هبة، أو عطية، أو هدية في حال الفرح الشديد، لماذا؟ لأنه لا يكون بكامل قواه العقلية، لكن هنا قال: صدقة لله، ليست هبة، والنبي ﷺ سدده وبيّن له، وأرشده أن يبقي شيئاً من ماله.
انظروا حال العبد بعد الذنب، ومعرفة الطرق التي تحصل بها النجاة، والتي يحصل بها الكمال، وما حصلت به السلامة، يقول: وقلت: يا رسول الله، إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، هذا من توبته، أخذ درساً قوياً واضحاً جلياً، لا لبس فيه ولا غموض، أن الصدق هو طريق النجاة كما قال النبي ﷺ: الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة[3] ومن ثَمّ فإن كعب بن مالك تجلى له من غير لبس أن الصدق هو الذي أودى به إلى هذه الحال الكاملة من توبة الله عليه.
المشكلة أيها الأحبة هي في الذي يقع في الكذب والخيانة والغدر والغش، وكل بلية ورزية، ثم بعد ذلك قد يتوب أو لا يتوب، ولا يدري من أين يؤتى، ولا يستطيع أن يقفل تلك الأبواب التي دخل عليه منها الشر، ولا يعرف أبواب الفضائل والخير التي يتوصل بها إلى النجاة.
يقول كعب: فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ أحسن مما أبلاني الله تعالى، أبلاه يعني: أنعم عليه، يقول: منذ قلت للنبي ﷺ: إن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، يقول: ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث -أبلاه يعني أنعم عليه، وتأتي بمعنى آخر لكن هنا السياق يدل على الإنعام- منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ أحسن مما أبلاني، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي، قال: فأنزل الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 95-96].
ليست العبرة بنقص البدايات، ولكن العبرة بكمال النهايات، لقي شدة من جراء هذا الصدق، وعزلة ووحشة، ولكنها آلت به إلى الفرج والسعة والرحمة والقبول والرفعة، وكانت حاله بعد الذنب أعظم من حاله قبله، لكن أولائك الذين كذبوا تمتعوا بهذا الكذب قليلاً واستغفر لهم النبي ﷺ، وقبل عذرهم، ولكن أنزل الله فيهم هذه الآيات التي فضحتهم، فما أغنى عنهم ذلك الكذب شيئاً.
يقول كعب: كنا خُلِّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولائك الذين قبِلَ منهم رسول الله ﷺ حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله ﷺ أمرنا، هذا معنى الثلاثة الذين خلفوا، يعني: قيل لهم: انتظروا حتى يحكم الله فيكم، ليس المقصود خلفوا عن غزوة تبوك، وإنما حصل لهم إرجاء وتأخير حتى يقضي الله، يقول: وأرجأ رسول الله ﷺ أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى: وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ [التوبة: 118]. وليس الذي ذَكر مما خُلفنا تخلُّفنا عن الغزو، مع أن ظاهر الآية يحتمل ذلك، لكن تفسير الصحابي صاحب الواقعة، سبب النزول والسياق كل ذلك يدل على هذا المعنى، يقول: وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه، متفق عليه.
وفي رواية: ((أن النبي ﷺ خرج في غزوة تبوك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس))[4]. وفي رواية: ((كان لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين ثم جلس فيه))[5].
فمن هذا يؤخذ أيها الأحبة فضل الصدق، وأنه عظيم العواقب، وأنه من أجل الأوصاف والأخلاق التي تُستجمع بها الكمالات، وتؤدي إليها، بخلاف الكذب يتخلص فيه الإنسان من مقام يضعف فيه فينهزم فيكذب، ولكن ذلك يؤدي به إلى العواقب الوخيمة ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ونية صادقة.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه (4/ 2120) برقم (2769).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل الأنصار، (4/ 1948) برقم (2508).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وما ينهى عن الكذب (8/ 25) برقم (6094) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (4/ 2012) برقم (2607).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من أراد غزوة فورّى بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس (4/ 48) برقم (2950).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه (1/ 496) برقم (716).