الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله-:
هذه الآن انتهينا من الكُتب التي يُورد الفوائد والضوابط والقواعد منها مُفردة، على سبيل الاستقلال منسوبة إلى هذه الكتب، كأن الشيخ -رحمه الله- جرد هذه الكتب ثم استخرج من كل كتاب فوائد فكتبها تحت عنوان هذا الكتاب.
ثم بعد ذلك في قراءات أخرى له كان يُسجل هذه الفوائد أيضًا التي تمر به مما لم يذكره، فاجتمع عنده فوائد كثيرة فوضعها هنا منثورة، غير مُرتبة لا في موضوعاتها ولا في أيضًا نسبتها، نسبتها إلى كتاب مُعين، وإنما ذكرها هكذا.
ولو أن هذه الكتب فُرقت ووضعت في مواضعها التي سبقت من كُتبه لكان أسهل في الرجوع إليها والانتفاع بها، فهذا الكتاب يحتاج إلى نوعين من التصنيف:
الطريقة الأولى التي هي بذكر الفوائد تحت عنوانين الكتب: هذه يُحتاج إليه حتى نعرف أن هذه الفوائد تتصل بالكتاب الفلاني.
والطريقة الثانية في التنصيف أن تُصنف على الموضوعات: وهذا أسهل في الرجوع إليها، والاستفادة منها، ويُمكن أن يُستغنى عن الأول بالإحالات في الهوامش إلى المصادر، ولكن ضبط ذلك قد يصعُب، بمعنى الإنسان يحتاج أن يُركز في الفوائد أن هذه الفائدة من الكتاب الفلاني فهذا الأسهل فيه أن تكون مجموعة تحت عنوان الكتاب.
ووجد أخيرًا بعد مدة طويلة قريبًا بعد وفاة ابن الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله-، وهو أحمد -رحمه الله- وُجد عنده أيضًا ملزمة -وجد في بيته- ملزمة تابعة لهذا الكتاب فيها فوائد منثورة، هذه أيضًا كأنه أيضًا جمعها مرة أخرى حينما كان يقرأ، وهذا يدل على كثرة قراءته في كتب شيخ الإسلام وابن القيم.
بعض هذه الكتب يعني هي عمومًا من الكتب التي سبقت، ولكن حتى حينما أوردها هنا لم يُردها مرتبة من الصفحة كذا وفي الصفحة التي بعدها أو الجُزء الذي بعده، لا، أحيانًا تجد هذه قبل، وهذه بعد، وهذه قبل التي ذكر أو بعدها، لم تكن مرتبة أيضًا في تدرجها الطبيعي من الكتاب نفسه، ثم قد ينقل بعض الفوائد من الكتاب، ثم بعد ذلك يُورد أشياء أخرى منه بعد كتاب آخر.
هذه من كتاب: "الفرقان بين الحق والباطل"، وهي في "مجموع الفتاوى" في المُجلد الثالث عشر، الفرقان بين الحق والباطل، وسبق الكلام على هذا الكتاب ونقل بعض الفوائد منه، فهو يقول: الفرقان والسُلطان يكون بالحجة والعلم، ويكون بالنصر والتأييد؛ يكون بالأمرين الفرقان، يعني: الآن الله سمى يوم بدر يوم الفرقان، بماذا حصل الفرقان يوم بدر؟ بالعلم أو بالغلبة، بالسيف؟ بالغلبة بالسيف، يوم الفرقان، وسمى القرآن بالفرقان: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [الفرقان:1]، فهذا يفرُق بين الحق والباطل، رأيت الفرق بين الموضعين، فالفرقان تارة يكون في هذا، وتارة يكون في هذا، وتارة يُقصد به في الموضع الواحد يُقصد الأمران، وهكذا السُلطان تارة يكون بالحُجة والبيان، وتارة يكون بالنصر والغلبة والظهور، مثلاً: أحيانًا قد يُختلف في الآية، الله يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:33]، سلطانًا ماذا؟
بعضهم يقول: تسلطًا عليه يتمكن منه أو يُمكن منه فيقتص.
وبعضهم يقول: جعلنا له حُجة عليه، وسبيلاً إليه؛ من أجل أن يقتص منه، ففُسر بهذا وهذا، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28]، فهذا الظهور يكون بالأمرين: بالحُجة فهو في المناظرات مع اليهود مع النصارى مع سائر الطوائف لا يمكن أن يتغلب هؤلاء بحُجج داحضة، وشُبهات فاسدة على ما عند المسلمين من الحق الواضح المُبين، لكن الذي يُناظر ينبغي أن يكون بصيرًا بطُرق المناظرة؛ لأن المُناظرة مهارة؛ فقد يكون عنده حق لكن لا يُحسن المُناظرة فلا يصح له أن يدخل في هذا الباب، وإن كان صاحب حق، والله يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ آتاهما ماذا؟ قال: الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا [الأنبياء:48]، فهذا الفرقان بعضهم يقول: هو التوراة.
وبعضهم يقول: هو الحكم بنصره على فرعون، ففُسر بهذا وهذا، يعني: التوراة فيها الهُدى الفرقان بالحُجة، والنصر على فرعون هذا الفُرقان في الميدان، وهكذا: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، فرقانا يعني ما تفرقون به بين الحق والباطل فلا يلتبس، فمن التبس عليه الحق والباطل لا يُميز بين الحق والباطل فذلك لضعف بصيرته، ولو اتقى الله لزال عنه ذلك.
"ومن أمره الشارع بعبادة وطاعة يفعلها فهو أفضل من هذا الوجه ممن لم يؤمر بها دينًا وإيمانًا وإن لم يكن الآخر عاصيًا ولا مُعاقبًا، وذلك أن أصل أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتفاضل من وجهين:
من جهة أمر الله، ومن جهة فعل العبد الواقع منه".
كل هذه الفوائد القريبة هي من كتاب: "الفرقان بين الحق والباطل"، هنا يتكلم عن النقص الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان ولا يُحاسب، الله قال: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، فالمرأة لا يجوز لها أن تتمنى وجوه التفضيل التي أعطاها الله للرجل، ولما سُأل النبي ﷺ سأله النساء: "نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نُجاهد؟!"[1]، فالرجال فضُلوا بهذا، فضُلوا بالقوامة، فضلوا بأمور أخرى، هل هذا يعني انتقاص النساء، وتعييرهن بذلك، وأن يلحقهن الحرج بسب بهذا؟
الجواب: لا، لكن الرجل أكمل بهذا الاعتبار فهو يقول: من أمره الشارع بعبادة وطاعة يفعلها فهو أفضل من هذا الوجه ممن لم يؤمر بها دينًا وإيمانًا، وإن لم يكن الآخر عاصيًا ولا مُعاقبًا، هنا المرأة قال النبي ﷺ عن النساء: ناقصات عقل ودين[2]، وبين نُقصان العقل ونُقصان الدين، فنُقصان العقل: أن شهادة امرأتين بشهادة رجل، هل لها يد في هذا؟ لا، هل تُحاسب وتُعاقب عليه؟ هل قصرت؟
الجواب: لا، فالرجل أكمل، وإن لم يكن الثاني منسوبًا إلى التقصير والعيب والذم، أو مُحاسبًا ومُعاقبًا، ونُقصان الدين إذا حاضت، قال: لم تصُم ولم تُصل، فهذا نُقصان في الدين، هذا النُقصان هل هو بتقصير منها أيضًا؟
الجواب: لا، فهي غير مُحاسبة، ولا مؤاخذة شرعًا، ولكن هذا الأصل أن من أمره الشارع بعبادة وطاعة فهو أفضل من هذا الوجه ممن لم يؤمر بها، الإيمان عند أهل السنة يتفاضل من جهة أمر الله توجه الخطاب إلى المُكلف، ومن جهة فعل العبد الواقع، هذا الذي يحصل فيه اللوم والتقصير أو التثريب أو نحو ذلك، فمن جهة توجه الخطاب إلى المُكلفين لم يتوجه الخطاب مثلاً إلى المرأة في الجهاد، فالرجل أكمل منها، ومن ثَم فهي غير مؤاخذة، ولا يد لها في هذا، ولا يتوجه إليها الخطاب بالصلاة إذا كانت في حال الحيض ولا الصيام؛ لأنها غير مؤاخذة، والرجل أكمل الذي يُصلي ويصوم، ولا يُقال مثل ذلك في القسم الآخر، فإن التفاضل بفعل العبد نفسه فهذا الذي يحصل فيه العيب والمدح وما إلى ذلك، فهذا يقوم الليل ويصوم النهار وذاك مُقصر، فيحصل التفاضل بما يحصل من العبد من المُبادرة إلى طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، فيتفاضل أيضًا الناس بذلك.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا كله من كتاب: "الفرقان بين الحق والباطل"، وهذا الأصل الذي ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- أن يكون كلام المسلم دائرًا مع كلام الله وكلام رسوله ﷺ، وأن يكون تبعًا لما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وعليه المعول، وهو المُحكم، هذا أصل الهدى، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، فمن التقدم بين يدي الله ورسوله أن يقول الإنسان قولاً يعول به على غير ما قاله الرسول ﷺ، يعول على الرأي، يعول على الذوق، يعول على الهوى، يعول على آراء الرجال، وما إلى ذلك؛ فهذا كله من التقدم بين يديه، وهذا هو طريق الضلالة؛ فإنه ما ضل من ضل إلا بمُخالفة ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولو أن الناس تأدبوا بهذا والتزموا هذا الأصل لأراحوا واستراحوا، ولانتفى عنهم كثير من الشر الواقع اليوم.
وهؤلاء الذين يخالفون ما جاء به الرسول ﷺ لا يمكن أن يكون عندهم علم ولا هُدى فيما خالفوا فيه، ولذلك فإن من قصور النظر وضعف العقل وقلة العلم أن يظن ظان أنه بحاجة إلى أن ينظر فيما عند أهل الضلالة علَّ عندهم شيء من الحق والصواب فيقتبسه منهم، وهذا يقوله بعض الناس اليوم، وتُروج له ثقافة لربما يتلقفها بعضهم بطريق دورات أو غير ذلك، فيُقال: انظر ما عند الآخرين، وقارن بما عندك، وتعرف على عقائد الناس وعلى أفكارهم، وأنت على ثقة بنفسك، وهذا الإنسان يُريد أن يسبح في لُجة البحر وهو لا يُحسن السباحة، كما أنه يُريد أن يدخل في غمرة الهوى ومقالات الكُفر والضلال وهو لا يعرف مبادئ العلم، فللأسف هذا يُقال للناس اليوم.
وبعضهم قد يفتخر بأن في مكتبته تفسير ابن كثير، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وكتب أئمة الضلال من الملاحدة، وأئمة الزندقة في مشارق الأرض ومغاربها؛ يفتخر بهذا، وأنه على ثقة من نفسه، فهذه الثقة ستورده المهالك، فهذا كالذي يلج المعركة وليس معه سلاح، ومن جعل دينه عُرضة للخصومات أكثر التحول، كل يوم على مذهب ودين.
فالمقصود أن هؤلاء ما عندهم خير ولا حق إلا فيما وافقوا به الرسول ﷺ فقط، إذن ما الحاجة إلى النظر في كتبهم، ولهذا قال النبي ﷺ: أومتهوكون فيها يا ابن الخطاب[3]، لما نظر عمر في صحيفة من التوراة، وهي في أصلها مُنزلة؛ لكن وقع ما وقع فيها من التحريف، فكيف بكتب الملاحدة وكتب أئمة الضلالة، وللأسف إذا نظرت إلى كثير من هؤلاء في المعارض الدولية تجد الدور التي تبيع هذه الآفات والضلالات تزدحم، وأكثر لربما الروّاد من النساء، مما يُذكر بما جاء عن النبي ﷺ أن أكثر أتباع الدجال من النساء[4]، فهي بزعمها أنها صدقت الكلام الذي قيل، وتُريد أن تكون مُثقفة، وأن تتعرف على ما عند الآخر، والأطياف الأخرى، ليست زندقة وضلالة كُفر إنما أطياف، وهم الآخر، فهي تريد تعرف ما عند الآخر، ربما يكون عندهم حق فتأخذ به؛ لأن الحق بزعمهم ليس محصورًا بما تلقفته وأخذته؛ فقد يكون حقًا وقد لا يكون حقًا، فمثل هؤلاء لا يكون عندهم يقين وإيمان صحيح ثابت بما جاء به الرسول ﷺ، بل عندهم شك وريب وتهوك، ولذلك بعض هؤلاء -وبعضهم لا يسأل- لكن بعضهم يشتكي من شكوك، يشتكي من تردد، يشتكي من شُبهات؛ وهذا أسمعه كثيرًا، حينما أتحدث في هذه القضايا أتحدث عن أشياء واقعة أسمعها، ولا حاجة أن أذكر صيغ الأسئلة؛ لأن ذلك لربما يدل على صاحبه، أو لا يرضاه، لكن كل ذلك واقع، ولا يكاد يمر أسبوع على قلة لربما يرد الإنسان على الاتصالات إلا وأقل ما يواجه لربما يصل إلى سؤالين أو ثلاثة من هذا القبيل، شك ريب، كيف يتصرف، أريد أن أعرف ما عند الآخرين، يقرأ للرافضة، يقرأ للنصارى، يقرأ للملاحدة، يقرأ لكل صاحب ضلالة؛ لعل عندهم حق، نسأل الله العافية، أومتهوكون فيها يا ابن الخطاب.
جاء بها النبي ﷺ بيضاء نقية، وأُمر باتباع ما أوحي إليه، والإعراض عن الضلال، وأن لا يُطيع الكافرين والمنافقين، وأن يستمسك بالوحي الذي نزله الله إليه، ثم يأتي من يقول: نحن بحاجة أن ننظر إلى ما عنده هؤلاء من ضلالات، فهذا يُخشى على صاحبه، فكل ما عندهم من حق فهو بعض ما جاء به الرسول ﷺ، لسنا بحاجة إليهم، ولا إلى ضلالهم، إنما ينظر الإنسان في المعين الذي لا ينضب، وعلى قدر ما يكون عند الإنسان من التفقه فيه والغوص في بحره فإنه يجد ما يجد من الدُر والجواهر من المعاني والحِكم والهدايات ما لا يُقادر قدره، لكن الكثيرين لا يعرفون هذه الحقيقة، فيقمشون هنا وهناك؛ علهم يجدون شيئًا أو عبارة، قال سارتر، قال فلان، ثم يكتبها في حسابه في تويتر ويظن أنه قد لمس الثُريا حينما قرأ هذا الكتاب الخايب، نسأل الله العافية.
الوحي الذي جاء به الرسول ﷺ بجميع أنواعه هذا لا إشكال فيه واضح: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، والنصوص في هذا كثيرة، لكن الكلام فيما يرد على الناس من الواردات، فهذا ما حاله ما حكمه؟
فالشيطان يُلم بقلب العبد، وكذلك الملَك، فالذي يحصل من الملَك هو الأمر بالخير، والنهي عن الشر، والحث على طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، والذي يحصل من الشيطان بعكس ذلك، ولهذا قال الله : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121]، والمقصود بالشياطين شياطين الجن، يوحون إلى أوليائهم من شياطين الإنس، ولهذا قال الله : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112]، هذا الوحي الشيطاني، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113]، فهذا كله من وحي الشيطان، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
وفي قوله: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121]، المشهور عند المفسرين: أنها نزلت في الذبيحة لما جادل بها المشركون، وذلك أنهم قالوا: "ما ذبحتم بأيديكم تقولون حلال، وما ذبحه الله بيده بسكين من ذهب -يعني الميتة- تقولون: حرام، إذن أنتم أحسن من الله"[5]، وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، لاحظ في قضية حِل الميتة فقط، فكيف إذا أطاعهم بتبديل شرائع الإسلام وتنحيتها برُمتها؟!!
فهذا الوحي من وحي الشيطان يلقونه على أوليائهم، ولذلك بعض الشُبه التي يُلقيها بعض الناس هي في الواقع من وحي الشيطان، بعض الإجابات وبعض الردود التي يقولها بعض الناس وهي من الباطل، لا شك أنها من وحي الشيطان، فالشياطين يلقون على ألسنة أوليائهم هذه الضلالات والشُبهات، -نسأل الله العافية-، وقد جاء آثار في هذا أيضًا من أن الشياطين هؤلاء لربما يتلبسون بلبوس الإنس فيقوم ويتكلم، ويُحدث فيسمعه الرجل، ويقول: رأيت رجلاً أعرف وجهه، ولا أعرف اسمه، يُحدث بكذا وكذا.
وجاء في بعض الآثار: إن في البحر شياطين مسجونة، أوثقها سليمان، يوشك أن تخرج، فتقرأ على الناس قرآنا[6]، فهذا كله من وحي الشياطين، ولذلك النبي ﷺ أخبر أنه يخرج من ثقيف مُبير وهو الحجاج، وكذاب وهو المُختار[7]، فالمُختار كان قائدًا لابن الزُبير كان من قواد ابن الزبير وعنده جيش كبير، ثم بعد ذلك قُتل ابن الزبير، وحصل ما حصل، الحاصل أن المُختار هذا صار بعد ذلك يميل إلى الشيعة، وعرف أن هؤلاء ممن لا خلاق لهم ولا عقل ولا علم فصار يدعي بعد ذلك أنه يوحى إليه، هذا في آخر عهد الصحابة ، ثم يقول: سيحصل كذا، وسيحصل كذا، فإذا ما حصل قال قبحه الله: بدا لله كذا وكذا، يعني: كأن الله غير ما كان قد قدر، إذا لم يحصل قال: بدا لله، هذا الذي يسمونه عقيدة البداء، فكان هذا الرجل يدعي أنه يوحى إليه، فلما بلغ ذلك ابن عباس وابن عمر، كان ابن عمر قد تزوج أخته، قال: صدق، وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121]، قرأ الآية فهذا وحي الشياطين.
وكان بعض الزُهاد من المتقدمين ممن يلزم السُنة ممن قد يُنسب إلى شيء من التصوف لربما يترأى له على جدار المسجد: قد أسقطت عنك التكاليف، فكانت مواقفهم تجاه ذلك مُسددة؛ بأن الشارع لا يُسقط عن أحد وهو في حياته التكاليف، وأن هذا خلاف ما جاء به الرسول ﷺ، فهو ذاك يقول: أنا ربك قد أسقطت عنك التكليف، فيعلم أن هذا من الباطل؛ لأنه إذا عرض هذه الواردات على ما جاء به الرسول ﷺ تبين أنها من الباطل، بينما الآخر الذي ذكر شيخ الإسلام[8] -رحمه الله- خبره، وذكره الحافظ ابن كثير[9] -رحمه الله- في زمان التابعين الذي كان صاحب عبادة وما إلى ذلك وذكرت خبره في بعض المُناسبات فكتب إلى أبيه: "أني مسني الشيطان بنُصب وعذاب"، خشي على نفسه لما كثُرت عليه واردات الشيطان، فكتب له أبوه كما يقول ابن كثير بما أغراه بالضلالة، -نسأل الله العافية-، فقال له أبوه: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222]، ولست كذلك، فخذ بما تؤمر به، -نسأل الله العافية-، فصار الرجل يأتي بأمور، ويُكلم الناس سرًا، ويقول: بأنه يوحى إليه، وعنده آيات وخوارق تدل على صدق ما جاء به، ما هذه الخوارق؟ هذه الخوارق يقول: كان ينقر يعني مثل الصفا ينقرها بأُصبعه فيخرقها، وكان يُريهم رجالاً على خيلاً وثياب بيض وما إلى ذلك، ويقول: هؤلاء الملائكة، ويفعل أشياء من هذه الأمور الخارقة، فتكلم فيه بعض التابعين مثل: مكحول، وكلموا الخليفة بالشام فأرسل إليه، وكان قد تبعه أُناس كثير، وكان إذا كلم رجلاً يقول إن سمعت شيئًا قبلته وإلا فاكتم عني، فلما ظهر أمره وتحدث من تحدث فيه عند الخليفة أرسل إليه رجالاً من الأتراك من الجنود، وأمر نائبه أو عامله في ناحية من بلاد الشام التي كان فيها أن يأتي به، فذاك قال: يعني أطلق يدي، يعني: سأتصرف بتصرفات لا تُحاسبني عليها، فقال: لك ذلك، فخرج الرجل وجاءوا بهؤلاء من الجند الأتراك ودخلوا عليه، فدخل في سرداب، واختفى فيه لما رآهم، فقال بعض أصحابه: هيهات أن تُدركوا أو أن تقتلوا نبي الله، فأخذ بعضهم بطرف ثوبه، فقال: أتقتلون رجلاً يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، فقال له بعض الجُند من الأتراك: هذا قرآننا فأتي بقرآنك، يعني: لا تتكلم بقرآننا، هذا قُرآننا فأتي بقُرآنك.
الشاهد أخرجوه، فلما وضع للقتل وأُعطي الذي يريد أن يتولى قتله رُمحًا ليقتله فضربه بالرُمح فلم ينفذ فيه، فقال له الخليفة: ويحك أسميت الله، قال: لا، نسيت، فقال: باسم الله فأنفذه فيه فقتله، هؤلاء الشياطين تحميهم، انظر هذا الرجل الآن، فهذا من وحي الشياطين، كان يقول يوحى إليّ، ولا تستبعد أيضًا في كل وقت أن يأتي من يقول مثل هذا الكلام بأنه يوحى إليه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121].
ومن الناس من يكون عنده شيء من الخبل في عقله، ومنهم من يكون عنده المرض، عنده مرض أو لربما معه قرين يُفسد عليه عقيدته ودينه، ومن الناس من يقول: لا يكاد يحصل أمر إلا وأعلمه قبل أن يحصل مما يقع لي، نقول: لا يعلم الغيب إلا الله؛ لكن بعض الأمور التي هي غيب نسبي قد يُلقي ذلك على لسانه القرين، يعني: مثلاً سيأتي سيطرق بابك سيتصل عليك فلان؛ لأن الشياطين يتواصلون فذاك قد أخذ الهاتف يريد يتصل عليه أو قال: أنا سأتصل الآن على فلان، فينقلها هذا الشيطان للقرين فيُلقيها في قلبه، فيقول: ما حصل شيء من هذا إلا وقد وقع لي قبل أن يحصل، فيقال: هذا من عمل الشيطان؛ فلا تلتفت إليه، فالشياطين تُضللهم.
استمتاع الإنس بالجن: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128]، فيدخل في هذا الاستمتاع استمتاع الجن أنه يوجه إليهم الدعوات، وتُرفع إليهم الحاجات، ويُستعاذ بهم، فيقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فكما قال الله -تبارك وتعالى-: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، فيتعاظم الجن؛ ويقولون: ملكنا الإنس، ويكون ذلك من الاستمتاع.
وكذلك أيضًا من هذا الاستمتاع الذي يحصل هو ما يحصل لهم من القرابين والذبح، وما إلى ذلك، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أنهم لربما فعلوا به الفاحشة"[10]، هذا الذي تركبه الشياطين -نسأل الله العافية- الذي يكون كاهنًا أو يكون ساحرًا أو مُضللاً من هؤلاء المُضللين، واستمتاع الإنس بالجن لربما يسرقون له المتاع، يأتونه بالمال، يأتونه بشيء من الجوهر أو اللؤلؤ من البحر، يأتونه بالضالة يدلونه على مكانها، يحصل له أيضًا منهم لربما أشياء يُلبس بها على الناس؛ مثل هذا الذي يُضرب بالسلاح ولا يضره، باعتبار أن هؤلاء يحولون بينه وبين السلاح.
وهكذا أيضًا أنواع الاستمتاع، استمتاع الإنس من إخبارهم ببعض الأمور، ونحو ذلك، ولا يعلم الغيب إلا الله، لكن في مسألة استراق السمع، ومسائل تتعلق بالغيب النسبي الذي يكون من قبيل الإخبار عن موضع الضالة، ونحو ذلك، كل هذا من أنواع الاستمتاع، لربما حملوه من مكان إلى آخر يطيرون به بالهواء، يحضرون له بعض الأشياء من طعام وغيره.
شيخ الإسلام -رحمه الله-[11] ذكر هنا بأن استخدام الإنس للجن أن ذلك يقع في الأمور المحرمة؛ مثل: السحر، والسرقة، وما إلى ذلك من المحرمات، وفي الأمور المُباحة مثل الغوص في البحر من أجل استخرج اللؤلؤ، أو كنس الدار، أو نحو ذلك، لكن هذا هل يُطلب منهم؟ سليمان قال: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]، النبي ﷺ لما أخذ ذلك الشيطان الذي هم أن يُلقي بوجهه ﷺ شهابًا من نار، فخنقه حتى وجد برد لسانه على يده، فهم بربطه بسارية من سواري المسجد يطوف به صبيان المدينة، منعه من ذلك قال: تذكرت دعوة أخي سليمان[12].
إذن ليس لأحد على هؤلاء سلطان فيدعي أنه يُصرفهم كيف شاء وأنهم يطيعونه، هذا جانب، ولو ادعوا الإسلام، فهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أنهم أهل جهل وظلم، -بمعنى أن هذا هو الغالب فيهم-، وكذب، فالكذب فيهم كثير"[13]، فإذا ادّعوا أنهم من المسلمين هذا يحتاج إلى إثبات، ثم إن هؤلاء من المسلمين لربما يكون عندهم من الفجور والفسوق أعظم مما عند فجرة الإنس فيتلاعبون به، وهم في الغالب لا يعطونه شيئًا إلا بشيء، فلا يعرف حقًا من باطل، يعني: هذا الذي يتعامل معه هو يتعامل مع مجهول فيُعطيه أخبار لا يدري ما هي، يُضلله لربما يعطيه بعض الأخبار الصحيحة لكن يُضلله بكثير من الباطل، كما هو معروف في تعاملهم مع الكُهان يأتي بخبر صحيح، ويزيد مائة كذبة.
وكذلك أيضًا هؤلاء يتلاعبون بهم من جهة أنهم لا يعطونهم شيئًا إلا بشيء، فيُدرجونهم حتى يصلون معهم إلى حال قد يقطعون عليهم معه خط الرجعة، فلا بد أن يستجيب أو هددوه بالقتل؛ فيستجيب لهم من يستجيب، ثم بعد ذلك يتحول إلى عابد لهؤلاء الشياطين، وكانت البداية أنهم من الجن المسلمين، ولذلك تجد بعض من اُبتلي بهذا لربما ترك الصلوات، وهؤلاء الذين يأتون إليه ويرقيهم لربما قد سمعت من بعضهم هذا يجلسون عنده من بعد صلاة العصر إلى وقت متأخر بالليل ولم يروه يقوم يُصلي المغرب ولا العشاء، ولربما جاءوا إليه من الضحى، وما رأوه يُصلي لا الظهر ولا العصر، وهو يُظهر أنه يرقيهم بالقرآن، فإذا تمكن منهم واستوثق جاءهم بأشياء أخرى وطالبهم بطلبات، وهذا موجود، ولعل الجميع يعرف نماذج من هذا، فهذا من المزالق، لكن إذا جاءوا هم بأمور من المُباحات من غير طلب فهذا لا إشكال فيه، كأن يأتي إلى داره فيجد أن الدار قد كُنست، وأن الملابس قد غُسلت، فهم قد يكونون من العُمار في هذه الدار، يجد طعامه قد هُيأ، يجد البيت قد يعني نُظف، أو نحو ذلك، فهذا إن حصل من غير طلب فلا إشكال فيه، لكن ينبغي الحذر.
وهكذا كانوا يأتون أحيانًا أو لربما جاءوه بشيء من أخبار الجيوش والمعارك التي تقع، أو نحو هذا مما يُحتاج إليه.
لكن على كل حال يقول: ومنهم من يستعملهم في طاعة الله ورسوله، المقصود بذلك هو دعوتهم إلى الله، هذا المُراد، وهذا الذي كان يفعله النبي ﷺ، دعوتهم إلى الله، وما عدا ذلك فإنه لا يشتغل به، يعني يقول مثلاً: أنا أريد أن أستعمل هؤلاء الجن في الجهاد في سبيل الله، هو لم يُسلط عليهم أصلاً، لكن لو فعلوا من عند أنفسهم فجاءوا بأخبار العدو أو نحو ذلك، فهذا يكون مع الحذر؛ لأنهم قد يُضللونه فلا يثق بخبرهم، يعني: نحن خبر المجهول لا يُقبل، وأنت تراه أمامك؛ فكيف بخبر هذا الذي لا يُعرف ما هو، فهو مجهول عين ومجهول حال، فهو على باب خطر، وهذا مزلق ينبغي أن لا يلج الإنسان هذا الباب، فإذا ولج فقد عرض نفسه لأمور لا قِبل له بها، وللأسف كثير من الرُقاة هذه حالهم، منهم من يذكر هذا، ومنهم من لا يذكر، كثير منهم يتعاملون مع الجن، يقولون من الجن المسلمين، ما الذي يُثبت؟ وما الذي سلطك عليهم؟ وما رأيت أحدًا قط -على كثرة من رأيت- تعامل معهم فأفلح، رأيت من ذهبوا إلى كل مكان في الدنيا، من البلاد القريبة المجاورة والبعيدة، وما زادوهم إلا رهقًا، فهو يتنقل من تعاسة إلى تعاسة، ولم يُحصل بُغيته إطلاقًا، كل الذين رأيت ودخلوا في متاهات لولا أني أعرف الرجل منذ صغره، منذ طفولته ونعومة أظفاره إلى أن جاوز الأربعين، وأثق به ثقة تامة لقلت: إنه يُحدث عن خُرافات في الأمور التي تحصل له، الدخول في معارك وأمور هائلة لا توصف، ولو ذُكرت للناس لكذبوها غاية التكذيب؛ لأنه دخل في متاهات هو لا يعلم حقًا من باطل بدعوى أنه معه جن من المسلمين يحرسونه من الجن الكفار، والله يصلح الحال، -نسأل الله العافية-، التوكل على الله، والثقة به، والاعتصام بحبله هو الطريق.
هذا أصل مهم في السياسة الشرعية وفي الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، هو في غاية الأهمية، وكثير من اللغط الذي نسمعه هذه الأيام هو في الواقع للجهل بهذا الأصل، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، الخير والشر درجات؛ فيُقتنع بالخير اليسير إذا لم يحصل ما هو أكثر منه، ويُدفع الشر الكبير بالشر اليسير، إذا لم نستطع أن نُحقق الهُدى الكامل فإنه يُنقل الناس من شر إلى خير فيه نقص، وإن لم نستطع يعني المراتب هكذا في التغيير، الناس يقولون التغيير ونريد التغيير، التغيير أنواع، تغيير من خير عظيم إلى خير دونه هذا لا يُشرع، وهو من الإفساد، أن يتراجع الناس من خير كثير إلى خير دونه، أن يتراجع الناس من الخير إلى الشر هذا أسوء من الذي قبله، أن يرجع الناس من خير إلى خير أعظم فهذا مطلوب، أن يرجع الناس من شر إلى خير هذا مطلوب، إن لم يمكن فيُنقل الناس من شر إلى شر دونه، لكن لا ننقلهم من شر إلى شر هو أعظم منه، هذا ما يتصل بالتغيير.
وكثير من الناس يُطلق التغيير ويتكلم عن التغيير، ويُطالب بالتغيير وما إلى ذلك ولربما ينقلهم من شر إلى ما هو أشر، أو من خير إلى دونه، أو من خير إلى شر، ولهذا تجد النصوص التي جاءت بالصبر مثلاً على ظلم الأمراء الذين لهم ولاية شرعية لماذا؟ لأن ذلك يورث شرًّا أعظم، وإن كان قصد ذلك أن ينقلهم من خير إلى خير أكثر أو من شر إلى خير أو نحو هذا.
وكذلك أيضًا في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، هذا الإنسان لا يمكن نقله من الشر العظيم الذي هو فيه إلى السنة المحضة، وأن يشتغل بالعلم والعمل لا يمكن، إما لأنه لا يتأتى من يحمله على ذلك ويُعلمه السنة أو نحو هذا، أو لأنه لا يُطيق إما لضعف قُدراته العقلية يعني ضعف الإمكان العقلي كما يقول شيخ الإسلام، أو لضعف الإمكان العملي ما يُطيق، فهذا الإنسان يقول: إما أن أُصاحب هؤلاء الذين عندهم خير وفيهم دين وفيهم بعض المُخالفات، ولكني لا أُطيق أن انتقل إلى أولئك الذين يشتغلون بالعلم والعمل لا أُطيق، والبديل المُخدرات، فهؤلاء نقلوه من المُخدرات إلى أن يكون من رواد المساجد، فيقرأ القرآن، يذكر الله يدعوه، ترك الأشرار وصُحبة الأشرار، لكن هؤلاء عندهم خير وشر، عندهم سنة وبدعة، فماذا يُفعل بهذا؟
ينغمس بالرذيلة، ولا يعرف الله، ولا يُصلي أبدًا، ولا يدخل المساجد، ويكون مع شياطين الإنس والجن يتلاعبون به، نقول: كن مع هؤلاء؛ لأنه لا يمكن نقله إلى غير ذلك.
وقل مثل ذلك هذا مفتون بالمعازف والأغاني ولا يمكن نقله إلى سماع القرآن والاشتغال بالذكر والاهتمامات الجادة وما إلى ذلك، لكن يمكن أن ينُقل من هذه المعازف والشر إلى أنه يشتغل بسماع الأناشيد التي دون ذلك مثلاً، فمثل هذا يُنقل من شر إلى ما دونه، إذا لا يمكن نقله إلى الحق.
وقل مثل هذا الآن في الخلافات الدائرة في بلاد الله الواسعة، هذا الخلاف الذي يُشتت ويُفرق، أُناس يُريدون أن يحملوا الناس على السنة المحضة في كل شيء في أيام، بقرار واحد، هذا لا يمكن، هؤلاء الذين تربوا على الشر عقودًا متطاولة لا يمكن، عمر بن عبد العزيز ما استطاع، وكان يقول: "إني أواجه أمرًا أو بصدد أمر لا يُعين عليه إلا الله"[14]، ومات -رحمه الله- وما حقق كل ما يُريد من العدل، فلا بد من التدرج في نقل الناس شيئًا فشيئًا من الشر إلى الخير، فإذا أمكن نقلهم إلى الخير مُطلقًا فهذا هو المطلوب؛ لكن إذا ما أمكن، فإنه لا بد من التدرج معهم، فلا يكون ذلك من ترك ما أمر الله به، ولا يكون ذلك من إقرار المنكر والمعصية.
هذا الذي ذكره شيخ الإسلام مُلخص ما ذكره متفرقًا في كتُبه، ولهذا تجد شيخ الإسلام يتكلم عن من يلي ولايات قد يمر على يديه شيء من الظلم لكنه يدفع ظُلمًا كثيرًا وشرًا كثيرًا، ويُقر شيئًا من الحق، يقول: يجب عليه أن يتولى هذه الولاية وإن جرى على يده بعض الظلم والمُخالفات، فإن ما يُدفع من الشر ويُقر من الحق أعظم، والشريعة جاءت بتكثير المصالح وتقليل المفاسد.
فهنا شيخ الإسلام يتكلم على هؤلاء الذين أسلموا على يد هؤلاء المُبتدعة، وأنهم انتقلوا من كفر إلى بدعة، وأن ذلك يختلف بحسب الإمكان في المجتمعات وفي الأشخاص، فشيخ الإسلام يرى أن التدرج الذي حصل في الشريعة شيئًا فشيئًا أن ذلك يكون أيضًا مع المُهتدين الجُدد، المسلم الجديد، والتائب الجديد، أنه لا يُخاطب بكل شيء دُفعة واحدة، فإنه لا يطيق ذلك، وإنما يُخاطب ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة[15]، فكثير من الحق لا تطيقه لا تفهمه لا تفقهه لا تحتمله عقول كثير من هؤلاء الذين تربوا على ثقافة أخرى.
ويقول: من المسائل ما جوابه السكوت، ليس باللازم في مُقابلات وإحراجات أن يُجيب الإنسان عن كل شيء ثم بعد ذلك يُفاجئ بردود أفعال عنيفة، ثم يُنشر ذلك المقطع، ويكون سُبة على ألُسن هؤلاء السفهاء، من المسائل ما جوابه السكوت، ما كان ما يُعلم يُقال، ولا يتكلم بالباطل في الوقت نفسه.
هنا الكلام في سياق بيان أن الفقه ليس من باب الظنون كما يقوله بعضهم، يعني هؤلاء الذين يقولون: إن الفقه من باب الظنون وهم من المُتكلمين؛ لأنهم يوهنون النصوص من الناحيتين: من ناحية النقل والإسناد فإنهم يقولون: أكثر ذلك من قبيل أخبار الآحاد، وهي عندهم بإطلاق هكذا لا تُفيد إلا الظن، وهذا غير صحيح، ثم أيضًا من جهة الدلالة فيقولون: يرد عليها الاحتمالات العشرة التي ذكرها الرازي، ومن ثَم فهذا من باب الظنون، وهذا الكلام غير صحيح بهذا الإطلاق، فشيخ الإسلام يقول: على المُجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره وهو العمل بأرجح الدليلين المُتعارضين، وحينئذ فما عمل إلا بالعلم، هذه في المسائل الاجتهادية.
في المسائل الفقهية كثير منها جاء في نصوص الكتاب والسنة، جمهور مسائل الفقه الذي لم يأت دليل بخصوصه فمثل هذا يجتهد فيه العالم، ويقيس النظير على النظير، وكذلك أيضًا هذه الأدلة قد تتعارض؛ لأن المسائل الاجتهادية هي ما تقابل فيه الأدلة، أو خفي مأخذه أو لم يرد فيه دليل أصلاً، الأنواع الثلاثة هذه، هذه تُسمى مسائل اجتهادية، فإذن هذا الذي وقع فيه ما ذُكر يعني هو من مسائل الاجتهاد، فهذا العالم حينما يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره، يعني عمل بأرجح الدليلين المتقابلين مثلاً في مسائل الاجتهاد هذا عمل بعلم؛ فهو مأمور بهذا، فعمله هذا بأرجح الدليلين عمل بعلم، وليس من قبيل اتباع الظن الذي ذمه الله -تبارك وتعالى-: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [يونس:66]، فذاك بالتخرص واتباع الأهواء، أما هذا فليس كذلك، يعني: أن العالم حينما يتكلم يتكلم بعلم، تقول له: لماذا رجحت هذا القول؟
يقول: بناءً على القاعدة الفلانية، بناءً على أن هذا الدليل عام لم يرد فيه ما يُخصصه فهو أقوى، بينما ذاك العام الآخر ورد عليه واردات تخصصه، وما لم ينخرم بالتخصيص أقوى مما ورد عليه التخصيص مثلاً، فهذا عمل بالعلم، يقول: هذا قول وهذا فعل في الأدلة المُتقابلة مثلاً، فنُقدم القول على الفعل، فيكون من قبيل العمل بالعلم، وهكذا.
يعني تقسيم الدين إلى أصول وفروع ليس له أصل، قد يُتسمّح في هذا إذا كان للتعليم، ويُقال: لا مُشاحة في الاصطلاح؛ لكن بشرط أن لا يترتب عليه حكم، لا مُشاحة في الاصطلاح بشرط أن لا يُبنى عليه حُكم، هذا شرط الاصطلاح، الاصطلاحات قد يتوسع العلماء في إطلاقها يعني حتى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قد يُعبر في بعض المواضع في كلمة الأصول والفروع، لكن عند التنظير هنا يُقال: لا يُقسم الدين إلى أصول وفروع، وفي مقام أيضًا رد الأحكام المُرتبة على هذا التقسيم يُقال لهم في المقدمة الأولى في الرد: بأن هذا التقسيم أصلاً باطل، يعني: حينما يرتبون عليه أحكامًا، فنقول: هذا اصطلاح حادث، والاصطلاح الحادث لا يصح أن يُرتب عليه حكم، فنقول مثلاً: ما هو الحكم الذي رتبوا عليه؟ قالوا: إن المُخالف في الأصول مثلاً يأثم، أو لا يُعذر، أو يكفر يقصدون العقائد، والمُخالف في الفروع يُعذر، نقول: من أين لكم هذا؟
هذا التقسيم لم يكن على عهد النبي ﷺ ولا عهد السلف الصالح فهو تقسيم مُحدث، لا يمكن أن يُبنى عليه حكم، فيُقال: يأثم في هذا ولا يأثم في هذا، من أين لكم؟
فالنصوص دلت على أن كل من اجتهد في طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ واستفرغ وسعوه في طلب الحق فأخطأه فهو معذور، سواء كان ذلك في المسائل العلمية أو المسائل العملية، لا فرق، هو معذور، استفرغ وسعه أصاب الحق أو أخطأه فهو معذور، نحن نتكلم عن من يعتقد عقيدة الإسلام، يؤمن بالله ورسوله ﷺ أخطأ في مسألة أصولية أو فروعية كما يُقسمون، بذل وسعه، اتقى الله ما استطاع، هذا غاية ما توصل إليه، فهذا لا يأثم، ولا فرق بين الأصول والفروع، والصحابة ما كانوا يُفرقون، تقسيم الدين إلى أصول وفروع هنا نقول مرفوض، حيث رُتبت عليه هذه الأحكام، ولو جئنا نُناقش هذا التقسيم ما مبناه، يعني: ما هي الأصول وما هي الفروع؟ ماذا سيقولون؟
يقولون: ما دلت عليه دليل قطعي فهو من الأصول، وما دل عليه دليل ظني فهو من الفروع، يُقال لهم: هذا لا ينضبط، فقد يكون عندك دليل قطعي، وعند الآخر دليل ظني، خاصة أن هؤلاء من أهل الكلام أصلاً لقلة بصرهم بالنصوص وقلة معرفتهم بالسنة وطُرق ثبوتها، كثير من النصوص يظنونها ظنية، ثم هم أصلاً يقدحون في المتون فيما ثبت بدليل قطعي كالقرآن والأحاديث المتواترة، يقولون: هي ظنية من جهة الدلالة، إذن ما الذي بقي؟ ماذا أبقيتم؟، حينما نُناقشهم نقول ماذا بقي؟
بعضهم يقول: مسائل الاعتقاد المسائل العملية، العقيدة والشريعة، يُقال لهم: حتى مسائل الشريعة يجب أن يُعتقد ثبوتها، وأن الله أمر بها وشرعها وما إلى ذلك؛ فهي لا تنفك عن اعتقاد، ولا يوجد حد فاصل يفصل بين هذا وهذا.
وبعضهم يقول: المسائل العلمية والمسائل العملية، الآن الصلاة من المسائل العملية، والخلاف هل يُرى الله ؟ هل النبي ﷺ رأى ربه ليلة المعراج أو لم يره؟ هل يترتب عليها شيء هذه؟
لا يترتب عليها شيء، هل هي مثل مسألة الصلاة ووجوب الصلاة وأن من تركها أيضًا فقد كفر؟
ليست مثلها، والصلاة من المسائل العلمية، فكيف يُرتب هذه الأحكام ويُقال: إن المُخالف في المسائل الأصولية -أصول الدين يعني- ليست أصول الفقه غير معذور، والمُخالف في المسائل الفروعية معذور، لا يمكن، فهذا التقسيم لا يقوم على أصل صحيح، فعند المُناقشة عندما يُرتب عليه أحكام ممكن يُراد ويُناقش بهذه الطريقة.
لكن حينما يكون المقام مقام آخر فيُعبر ويقال مثلاً: إن دراسة مسائل الفروع، عندنا درس في مسائل الفروع نريد تعليم مسائل الفروع بطريقة تطبيقية مثلاً أو كذا لا إشكال في هذا، نريد أن نُقسم العلم إلى أصول وفروع مثلاً من باب التعليم، والتسهيل، والتقريب؛ لا أن يُرتب عليه أحكام، فهذا لا إشكال فيه، لكن التقسيم غير دقيق.
هذا سبق الكلام عليه كثيرًا، وحينما يُقال: إن السلف نهوا عن الكلام وذموه وعابوه لا يقصدون الكلام الذي هو كلام الناس، ولا يقصدون أي كلام، وإنما يقصدون هذا الكلام الباطل الذي يجترأ أصحابه على مُعارضة نصوص الوحي بآرائهم، فما ينقدح في آرائهم فإنهم يُبادرون بالمعارضة به لنصوص الكتاب والسنة، كذلك أيضًا جعلوا هذه المقاييس العقلية التي يعرضون عليها النصوص، فصارت النصوص تُحاكم إلى هذه المقاييس العقلية، فما قبلته عقولهم بهذه المعايير قبلوه، وما لا تقبله فإنهم يردونه ويجعلون النقل تابع للعقل، فهذا الكلام هو الكلام المذموم الذي حصل به هذا الخوض الباطل، وترتب عليه هذا الافتراق الكبير والاختلاف والتفرق الذي نهى عنه الكتاب والسنة، هذا هو مقصودهم حينما يقولون: ذم الكلام، وأبو ذر الهروي له كتاب جيد اسمه: "ذم الكلام"، فيه آثار ونصوص كثيرة جدًا، مطبوع ومُتداول، والسيوطي أيضًا له كتاب في ذم الكلام، يقصد علم الكلام.
الطرق الباطلة مثل هذه المسالك الكلامية، والقواعد الفاسدة، والأصول المنُحرفة التي قعدها وأصلها أولئك من المنحرفين الذين لم يعرفوا حقيقة ما جاء به الرسول ﷺ، وصاروا يحكمون ذلك في النصوص، فمثل هذه الأشياء من اعتقد صحتها ضل بها ولا بد، سيعرض النصوص عليها، ثم بعد ذلك سيقع في التأويل أو التعطيل، مثلاً: إذا كان ذلك في نصوص الصفات، هذا لون، وقل مثل ذلك في سائر الأبواب عنده أصول منحرفة، يعني مثلاً هذا الإنسان الذي يقول: بأن الإلهام حُجة، إلهام الأولياء يقصد، يسمونه إلهام الأولياء، فهذا أصل باطل فإذا اعتقد صحته فسيأتي بالخُرافات والضلالات وما الله به عليم من هذا الباب، ولهذا يذكرون أحيانًا في كتب أصول الفقه في أنواع الأدلة الفاسدة لما يذكرون الأدلة الصحيحة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ثم يذكرون أدلة مُختلف فيها مثل: قول الصحابي، والمصالح المُرسلة، وسد الذرائع، وما أشبه ذلك، ثم يذكرون الأدلة الباطلة كما قال في المراقي:
ويُنبذ الإلهام بالعراء | أعني به إلهام الأولياء[16] |
هذا إلهام هؤلاء من هؤلاء الضُلال من الخُرافيين، يقول: نحن عندنا الإلهام، أنتم تأخذون دينكم ميت عن ميت، حدثني فلان قال أخبرنا فلان قال حدثنا فلان إلى آخره، ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت، إلهام مُباشر، يعني لا يحتاجون إلى نصوص الكتاب والسنة، فهذا ضلال، الذي عنده أصل أصله مثل: الرافضة في عِصمة الأئمة، فهؤلاء حينما ادعوا العصمة لهؤلاء أخذوا ذلك على أنه من كلام المعصوم، وأنه شرع بمنزلة الوحي الذي جاء به الرسول ﷺ فضلوا، فمن اعتقد صحته ضل، حينما يضع أصلاً أن كل ما خالف العقل، أي عقل؟ خالف عقله هو، من النصوص فإنه يؤول أو يفوض؛ فهذا أصل باطل، فإذا اعتقد صحته بعد ذلك سيقع في أنواع من الضلالات، هذا الذي اعتقد صحتها، لكن الذي رأى تناقضها مثل: بعض حُذاق المتكلمين الذين ذكرت لكم أخبارهم في مجالس سابقة، الذي قول: "إني لأضع الملحفة على وجهي وأُقابل بين أقوال هؤلاء وهؤلاء وحُجج هؤلاء وهؤلاء وأُصابح الصُبح ولم أخرج بطائل"[17].
والذي يبكي عند الموت ويقول: "والله ما أدري ما أعتقد"[18].
وما يُنقل عن الرازي والواقع أنه لقائل قبله الذي يقول:
نهاية إقدام العقول عِقال | وغاية سعي العالمين ضلال |
وأرواحنا في وحشة من جسومنا | وغاية دنيانا أذى ووبال |
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا | سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا[19] |
إلى آخر ما ذكر، هذه حيرة، هذا لمن عرف تناقض هذه الأصول الباطلة، فأوقعه في الحيرة، لكنهم ما عرفوا الحق الذي جاء به الرسول ﷺ، ولهذا جعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هؤلاء الذين اشتغلوا بالعلوم الكلامية جعلهم على نحو خمس مراتب، وهو كلام في غاية الأهمية، فبعض هؤلاء من الغلاة من الذين عندهم تجهم وصلف في هذا، وهم أبعد الناس عن معرفة ما جاء به الرسول ﷺ لكن يعرفون العلوم الكلامية، فهم متخصصون في هذا موغلون فيه، فهؤلاء أكثر ضلالاً.
وطائفة ثانية: تأتي بعدهم لهم معرفة بهذه العلوم الكلامية، ولكن لهم معرفة قليلة بما جاء به الرسول ﷺ فهؤلاء ضلوا.
وطائفة ثالثة: لهم معرفة قليلة بالعلوم الكلامية ولكنه له معرفة بما جاء به الرسول ﷺ، ولكن لم يتميز له ما فيها من الباطل تلك العلوم الكلامية، فوقع في شيء من المُخالفات والبدع، إلى آخر ما ذكر، يعني: بعض العلماء السنة من المشتغلين بها، والمُشتغلين بالحديث؛ لما دخلوا بعض العلوم الكلامية ولم يكن لهم بصر بها وقعوا بشيء من المُخالفة ومثل على هذا بالبيهقي، وبعض العلماء الذين كان لهم بصر بما جاء به الرسول ﷺ لكن ما كان لهم خبرة بهذه العلوم، فدخلوا فيها دخولاً من غير إيغال ولا حذق أيضًا فوقع لهم بقدر ذلك من الخلل.
فالشاهد أن هؤلاء من أصحاب العلوم الكلامية يحصل لهم حيرة إذا كانوا يعرفون ما بها من الكلام الباطل في هذه الأصول، أما من عرف ما جاء به الرسول ﷺ معرفة تامة وعرف بطلان تلك الأصول فهذا الذي يحصل له البصيرة بالحق؛ لأنه عرف الباطل وعرف الحق، لكن هذا يكون لمن؟ هذا يكون لقليل من الناس بل لنادر، يعني: من الذي يتبحر بالعلوم الكلامية ويعرفها ويعرف ما فيها من حق وباطل وصواب وخطأ، ويكون متُبحرًا مُتمكنًا من علوم الوحي، فهذا مثل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، لكن لو جاء من لا بصر له لا بما جاء به الرسول ﷺ ولا بالعلوم الكلامية وصار يُقمش فإن هذا لا بد أن ينحرف، وهذا حال اليوم كثير ممن لربما يدعي الثقافة، ويقول: نريد أن ننظر، ونُريد أن نقرأ بالفلسفات الغربية المُعاصرة، وغير المُعاصرة، هم يصلون إلى مُستويات وراء ذلك، يعني: بعض هؤلاء صاروا يقرءون بالفلسفات القديمة، ولربما يفتخر الواحد إذا احتد في نقاش أو كذا قال: إذا كنت تتكلم في الفلسفة فأنا عُذيقها.
هو هذا؛ لأنه لا يمكن الوصول إلى الحق وإلى المطلوب إلى الصواب وإلى الهدى إلا بمعرفة ما جاء به الرسول ﷺ، ولا يمكن أن يوصل إليه بغير ذلك؛ حتى قال الشاطبي -رحمه الله-: فإن من وقع على الصواب من غير طريقه فإنه لا يكون محمودًا بذلك[20]، لماذا؟ لأنه وقع عليه من باب المُصادفة، يعني: كما يقال: رمية من غير رامي، ولهذا عدّ العلماء -رحمهم الله- أن من تولى مثلاً الحكم بين الناس القضاء ونحو ذلك ولم يعرف ما جاء به الرسول ﷺ ما يعرف الحكم الشرعي؛ ولكنه حكم بحكم يوافقه دون أن يشعر، يعني بجهل لكنه صار مُصادفة موافقًا للحق من غير أن يأتيه من طريقه؛ فإنه يكون مذمومًا بهذا الفعل، لا يُحمد على موافقته للصواب هذه.
نحن نعرف أن صفات الله منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو فعلي، ومنها ما هو فعلي ذاتي، أو ذاتي فعلي، هذا تقسيم مُجمل على هذه الأنواع الثلاثة، وإلا فتقسيمات العلماء التي يذكرونها فيها ما هو أكثر تفصيلاً، بعضهم يقسمها إلى سبعة أقسام، وبعضهم يقسمها إلى غير ذلك، فهذه إذا قلنا الصفات الذاتية مثل: الحياة، وصفة فعلية محضة مثل: الاستواء، وصفة ذاتية فعلية مثل: صفة الكلام، فالله لم ينفك عن هذه الصفة أزلاً هو منذ الأزل متصف بالكلام كما أنه -تبارك وتعالى- كما أن كلامه يتعلق بإرادتها ومشيئته فهذا هذه تُسمى صفة ماذا؟ هذا يُسمى فعل، يعني: يتكلم متى شاء، فهناك كلام يعني لو أتينا إلى الإنسان الكلام بالنسبة للإنسان صفة ذاتية فعلية، فهو يُقال عنه: بأنه مُتكلم، وإن كان صامتًا الآن، يعني: أنه ناطق، يعني: أن من صفته أنه لديه القُدرة على الكلام وإن كان صامتًا الآن، وكلام بالفعل حينما يتكلم مثلي أنا الآن أتكلم هذا كلام بالفعل، وأنت حينما تكون صامتًا كحالك الآن فهذا كلام أنت متكلم بالقوة، يعني: أن الكلام صفة لك وإن كنت صامتًا الآن، لكن هل السارية هذه الآن توصف بالكلام، يقال: متكلمة بالقوة؟
لا متكلمة لا بالقوة ولا بالفعل، فأنا الآن مُتكلم الآن بالفعل، وأنت يُقال عنك: مُتكلم بالقوة، فهذا معنى كون الصفة ذاتية وفعلية، فالله -تبارك وتعالى- موصوف بالكلام منذ الأزل، وهو يتكلم متى شاء كيف شاء، أهل الكلام من المُتكلمين المعتزلة لم يعقلوا كلامًا يتصل بالمشيئة والإرادة بزعمهم أن ذلك يؤدي إلى القول بحلول الحوادث بذات الله ، فقالوا: كلامه مخلوق، وفصلوا بين الصفات والذات، الأشاعرة مساكين دائمًا يتورطون ويتناقضون، فقالوا: النصوص دلت على أن الله يتكلم: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، والتوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، تكليمًا مصدر كلم الله موسى تكليما ما يمكن أن يُقال: إنه مجاز، قالوا: إذًا كلامه قديم لا يتعلق بإرادته ومشيئته ولا تعاقب فيه ولا انقضاء، وهو معنى واحد قائم في النفس، الأمر عين النهي عين الخبر عين الاستخبار، ورتبوا عليه في أصول الفقه مسألة هل الأمر هو عين النهي؟ هل إذا أمر بشيء فهو ناهٍ عن ضده بناء على أصل كلامي عندهم في الاعتقاد.
فالله -تبارك وتعالى- متصف بالكلام منذ الأزل يتكلم متى شاء كيف شاء كلامًا يليق بجلاله وعظمته، هذا الذي دلت عليه النصوص.
هنا يقول بأن الله يجزي الإنسان من جنس عمله فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرُسل عوقب بمثل ذنبه، وأرى ذلك عباده ذلك عيانًا، وإذا ظهرت البدع التي تُخالف الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل، إلى آخره، هذا راجعوه في كلام جيد لشيخ الإسلام في المجلد الثالث عشر (صفحة: 172)، وكنت أُنبه على هذا في مُناسبات في قراءة هذا الكتاب، وفي تفسير ابن كثير.
العقوبات التي عاقب الله بها، يعني: انظر ماذا حصل لقوم لوط لما قلبوا الفِطر، الفطرة صارت مقلوبة عندهم وصاروا يأتون الفاحشة، واستعاضوا عمّا أباح الله بما حرم، قلبوا فِطرهم ماذا فعل الله بهم؟
أفك ديارهم، يعني: قلبها، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [النجم:53]، الأفك هو القلب؛ فعاقبهم بمثل ذلك، إبراهيم أرادوا به كيدًا أن يجعلوه من الأسفلين إلى آخره: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97]، فقال الله : فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:98]، قالوا: بنوا له بُنيانًا من أجل أن يُلقى في النار التي أضرموها، بُنيان مُرتفع فجعلهم الله من الأسفلين.
وقل مثل ذلك في الذين أرجفوا بنبيهم؛ فأخذتهم الرجفة وهكذا، فهذه العقوبات فالإنسان يُجزى من جنس عمله، الجزاء من جنس العمل، ولهذا أخبر النبي ﷺ مثلاً: أن الذي يموت وهو مُدمن لشرب الخمر لا يشرب من خمر الجنة[21]، ويحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان[22]، ما حصل لهم من مطلوب التعالي والتعاظم والكِبر والترفع فعاقبهم الله بعكس ذلك، وقل مثل هذا في الغادر يُجعل له لواء في المحشر[23]، ويفتضح على رؤوس الأشهاد، هذا كثير في العقوبات السارقة تُقطع يده؛ لأن هذه اليد جنت على كسب كثيرين وصارت تُهدد مكاسب الناس، والعمل النزيه الحُر الشريف؛ فكان حقها أن تُقطع.
وبعض العلماء قالوا في الرجم رجم الزاني المُحصن: لأن اللذة في جميع البدن فاستحق أنه ما يُقتل بالسيف وإنما يُرجم جميع البدن هكذا قال بعض أهل العلم بصرف النظر، لكن على كل حال من تأمل وجد أشياء في يعني ما حصل لأعداء الرُسل، والعقوبات التي تكون أيضًا في الآخرة.
هذا أيضًا يُراجع فيه المُجلد الثالث عشر (صفحة: 178)، الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سبب لخير الدنيا والآخرة، بعكس البِدع والإلحاد والمُخالفة، يعني: الناس الذين يريدون الخير ويُريدون الإنعاش الاقتصادي، ويُريدون الاستقرار ويُريدون الطُمأنينة في الأوطان، ويُريدون الأمن الوارف والأرزاق الدارة؛ هؤلاء إنما يحصلون ذلك بتطبيق شرع الله -تبارك وتعالى-: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، فالناس مطالبون بأن يُحكموا شرع الله، وأن يعملوا بما أمرهم به، وأن يجتنبوا ما نهاهم عنه، ويكون ذلك سببًا لما قال الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].
ولكن اليقين إذا ضُعف والبصر بما جاء به الرسول ﷺ إذا عُدم أو تلاشى فإن البصائر تعمى، ومن ثَم فقد يتوهم بعض خفافيش البصائر أن العمل بما جاء به الرسول، أو إلغاء الربا، أو نحو ذلك أن هذه كارثة في الاقتصاد، وهم يرون الآن الاقتصاد العالمي يتدحرج، وقبل سنوات كنا نقول هذه الشركات الكُبرى التي تملك الترليونات حينما تحالفت، وجاءت العولمة الاقتصادية أن هؤلاء يُريدون أن يبتلعوا اقتصاد الشعوب والأمم المُستضعفة، فما ميزانيات تلك الدول أمام تلك الشركات الضخمة، ثم بعد ذلك بقدرة قادر يُرينا الله آياته، وإذا البنوك عندهم هناك تتهافت كتهافت ورق الشجر في فصل الخريف، وتلك الشركات الواحدة بعد الأخرى تُعلن إفلاسها، حتى أعرق الشركات عندهم التي هي بالنسبة إليهم رمز للاقتصاد ولأمور أخرى مثل: جينيرال موتور، وبعض الشركات التي تدخل الرئيس الأمريكي بدعمها من أجل أن لا تسقط، وكادت أن تتهاوى، وهم الآن يحاولون إنعاش اقتصادهم، وهي أشبه بالإبر التي تُعطى للبهيمة المريضة التي توشك على الهلاك فتنشط بعض الوقت، ثم بعد ذلك ترجع إلى الحقيقية المُرّة وتواجه التلف، ما سبب هذا؟
سبب هذا هو الربا، هو الإعراض عن الله، هو الكفر، هو الظلم الاجتماعي، كل هذه الأشياء، فالعمل بما جاء به الرسول تطبيق شرع الله هو سبب الانتعاش الاقتصادي، إغداق الخيرات، سبب الاستقرار في الأوطان، سبب للأمن وتحقيق الأمن، وللأسف كثير من الأخيار ومن الدعاة ومن الصالحين اليوم لربما لا يستيقن هذه الحقيقية، ويظن أن تطبيق الشريعة أمر يُستحيى من المُطالبة به، فيُطأطأ رأسه، ويُطالب بأمور أخرى مخالفة لها من الديمقراطية، ونحو ذلك، وهذا -نسأل الله العافية- لا يكون من مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، فكل ذلك من حكم الجاهلية.
هو هذا، التوحيد وتصديق الرسل جماع الإيمان فذلك يرجع إليه، وما يحصل من العمل فإنه مبني على هذا، فإن لم يحصل هذا التصديق فإن العمل لا يوجد في الخارج، وإن وجد من غير تصديق بعض العمل فإنه لا ينفع، فلا بد من هذا التصديق.
وهذا يقع كثيرًا في طوائف الأمة حال الاختلاف والتنازع، فإذا وجد التعصب بين طوائف الأمة سواء في المذاهب الفقهية أو المذاهب الفكرية فهنا يتعصب هذا لما معه، وهذا يتعصب لما معه، فهذا يورد أدلة، وهذا يورد أدلة، فإن لم يوجد التجرد الكامل والإنصاف فإنه يدفع بعض ما جاء به مخالفه من الحق لأسباب إما لشدة عداوته له فيدفع ما جاء به، أو لأنه لا يريد أن يقال: إنه أخطأ، أو أن يكون الحق ظهر على يد هذا الذي يكره كما يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي[24] -رحمه الله- في مسالك الهوى الخفية في النفس، فلا يُنسب إليه هذا الفضل، فيُقال: فلان هو الذي بصره هو الذي أخبره فيدفع ذلك، وأحيانًا الكِبر، والإنسان فيه كبر وفيه ظلم، وقد ذكر ابن حزم -رحمه الله- في أواخر كتابه: "الإحكام في أصول الفقه"[25]، ذكر أن أحد هؤلاء الشيوخ لما يعني قرأ آية فأخطأ فيها فقالوا له: وجهها كذا، قال: لا، فجيء له بالمصحف، فرآها فأبى، فدخل الدار وجاء بمصحفه يقول: والحبر لم يجف، غيرها في المصحف من أجل أن لا يُقال أخطأ، نسأل الله العافية.
فإذا كان الأمر يصل بمثل هذا إلى هذا الحد أنه يُحرف المصحف من أجل أن لا يُقال: أخطأ؛ فكيف بدفع النصوص، ولعلي ذكرت لكم في بعض المُناسبات في بعض المناظرات التي حصلت في بعض البلاد بين رجل من أهل السنة ورجل آخر صاحب بدعة قبوري من عُباد القبور، فذهب هذا صاحب السنة، وجاء له بآية من كتاب الله -تبارك وتعالى-: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف:9]، قال: يا ابني هذه آية وهّابية، آية وهّابية! هل يوجد آية وهّابية؟! لكن لأنه يسمع هؤلاء الذين يُبغضهم يسمعهم يحتجون بمثل هذه الأدلة دائمًا على بُطلان عبادة غير الله وعبادة القبور وعبادة الموتى، فقال: يا ابني هذه آية وهابية، هذه سمعتها من الشيخ الذي وقع له هذا، هو شيخ معروف، وقبل وسائل الاتصال هذه، هذه مواجهة يعني هذه الواقعة صار لها أكثر من أربعين سنة، آية وهابية.
فهكذا الهوى يفعل بالإنسان، هكذا التعصب للباطل، ولذلك تجد أن بعض المُتعصبة مثلاً في بعض المذاهب كان يقول: الإسلام في ضمن مذهبنا، ويقول قائلهم: "كل نص يُخالف قول الإمام أو المذهب فهو منسوخ أو مؤول"[26]، يعني: صار الأصل هو المذهب، فهذا مُباشرة يرد هذه النصوص، -نسأل الله العافية-، فتأتيه بالآيات تأتيه بالأحاديث، ومع ذلك لا يستجيب، فهذا يدفع هذه النصوص.
هو هذا للأسف، هو موضع الجُرح الغائر الذي بين اليوم الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- في اختلافهم وبين طوائف الأمة من أهل الجهاد، وأولو الدعوة والأعمال الخيرية، وما إلى ذلك، حينما يكون من قبيل اختلاف التنوع أن هذا يقوم ببعض ما جاء به الرسول ﷺ مما يكون زائدًا على القدر الواجب العيني، فهؤلاء يقومون ببعض فروض الكفاية، وهؤلاء يقومون ببعض فروض الكفاية، أو هذا يقوم ببعض المندوبات، وهذا يقوم ببعض المندوبات، ويُقر أن الباقي من الدين، ولكن يقول: هذا الذي بإمكاني، هذا الذي يصلح لمثلي، هذا الذي أُحسنه، هذا لا إشكال فيه وهو محمود، ولا يمكن لإنسان أن يُحيط بجميع أبواب البر، لكن المُشكلة أين تقع؟ تقع بالأخذ ببعض ما جاء به الرسول، وترك ما عداه على سبيل التحزب، فتحصل النُفرة والافتراق بين طوائف الأمة، فأنا آخذ بالجهاد الذي لا يشتغل بالجهاد اتهمه أُنابذه أُعاديه لا أراه شيئًا، ولو كان يقوم بأعمال مثل الجبال في أبواب أخرى ما سددتها أنا، هذا لا يجوز، هذا الإنسان مُهتم بجوانب العلم والتعليم فهو الذي لا يراهم يشتغلون بالعلم أو ليس عندهم علم أو ليسوا من طلاب العلم لا يراهم شيئًا ويحتقرهم، ويحتقر أعمالهم، هذا لا يجوز، هذا مُشتغل بالدعوة إلى الله، فالذي لا يشتغل معه في الدعوة ولا يتهم بهذا الجانب ونحو ذلك لا يراه شيئًا، ويرى أنه مُضيع، وأنه ليس على جادة.
فتجد هؤلاء طائفة تشتغل وتتحزب لبعض ما جاء به الرسول ﷺ، وهؤلاء طائفة تتحزب لبعض ما جاء به الرسول ﷺ، وهذا كله من أعظم أسباب تفرق الأمة، هذا حق وهذا حق وهذا حق، والدين نأخذه بشموله، فيأخذ كل إنسان من أبواب الخير ما يصلح لمثله، وما يُطيق في القدر الزائد على ما يجب على الأعيان، هذا هو اللائق، وباقي الأعمال يُحبها ويُحب أهلها ويُسددهم، ويدعو لهم، ويشعر أنهم منه وأنه منهم، أما هذا التنابذ وهذا التناحر وهذا التفرق فسببه هذا، وذلك تارة يكون إما بالجهل يظن أن هذا هو الإسلام هذا هو الدين، وإما أن يكون ذلك بسبب الهوى والبغي، فيحصل بغي من هؤلاء على هؤلاء ومن هؤلاء على هؤلاء، والله المستعان.
دين الأنبياء كلهم الإسلام؛ أما اليهودية فهذا شيء ابتدعوه، ولهذا قال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، وهكذا يُقال لم يكن موسى يهوديًّا، ولم يكن أحد من الأنبياء يهوديًّا، ولم يكن أحدًا من الأنبياء نصرانيًّا، فعيسى لم يكن نصرانيًّا، وإنما كانوا جميعًا على الإسلام، ويعقوب الذي هو أبو الإسرائيليين ماذا قال لبنيه وهم الأسباط الذين تفرعت منهم قبائل بني إسرائيل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، فهذه وصيته لهم.
وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا [آل عمران:85]، الإسلام الذي جاء به الأنبياء جميعًا، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، فذلك في زمانهم في زمان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هو الدين الصحيح المقبول عند الله، لما بُعث النبي ﷺ فإن هذه الأديان إما منسوخ، وإما محرف، وإما دين مُخترع من أصله، هي لا تخرج من هذه الثلاثة، فيبقى دين الإسلام هو الحق الذي لا يجوز لأحد أن يعتقد أو أن يدين لله -تبارك وتعالى- بدين سواه، بطاعته فيما أمر به، طاعة كل نبي هي من دين الإسلام.
وكل مُبتدع خالف سنة الرسول لا يتبع إلا دينًا مُبدلاً أو منسوخًا، شيخ الإسلام يقول: "وهكذا كل مُبتدع"[27]، يعني لما قال: إن هؤلاء الذين بقوا على أديان هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين بقوا على بقية من دين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يقول لا يتبعون إلا دينًا منسوخًا يعني مما وجد مما كان عليه فعلاً أولئك الأنبياء، أو أشياء مُحرفة، يعني: يا منسوخ يا محُرف، هم يدورون بين الأمرين.
يقول: وهكذا المُبتدع، هذا المُبتدع الذي يُقيم على مُخالفة إما أن يكون يفعل شيئًا قد نُسخ، أو أنه يفعل شيئًا مُحرفًا، ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- من أصله، هذا، والله أعلم.
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، برقم (1520)، وبرقم (2784)، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: ((لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور)).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم (304)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق، برقم (79).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (15156)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف مجالد: وهو ابن سعيد"، وحسنه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (6/ 34)، برقم (1589).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (5353)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف، فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد عنعن".
- تفسير الطبري (9/ 522).
- أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 12)، ومعمر بن راشد في جامعه (11/ 383)، برقم (20807).
- أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في ثقيف كذاب ومبير، برقم (2220)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4259).
- نقل عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله البداية والنهاية ط هجر (12/ 286).
- انظر: البداية والنهاية ط هجر (12/ 286-287).
- انظر: مجموع الفتاوى (1/ 362).
- انظر: مجموع الفتاوى (1/ 362)، و(11/ 304).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الرَّاجع المنيب، برقم (3423).
- انظر: منهاج السنة النبوية (1/ 68).
- لم أقف عليه.
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا، برقم (127)، ومسلم في المقدمة واللفظ له، صحيح مسلم (1/ 11).
- نشر البنود على مراقي السعود (2/ 267).
- انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 165).
- مجموع الفتاوى (9/ 228).
- مجموع الفتاوى (4/ 73).
- انظر: الموافقات (4/ 328)، وما بعدها.
- أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، برقم (5575)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، برقم (2003).
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (2492)، وقال: "هذا حديث حسن"، وأحمد في المسند، وحسنه محققوه، برقم (6677)، وأحسنه أيضاً الألباني في صحيح الجامع، برقم (8040).
- أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر، برقم (3186)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، برقم (1735)، وبرقم (1736).
- انظر: القائد إلى تصحيح العقائد (ص: 22).
- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (4/ 164).
- انظر: الرسالة في أصول الحنفية (169-170)، والمدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد (1/ 55).
- مجموع الفتاوى (19/ 181).