الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
50- أصول منقولة من كتبه وفتاويه المتفرقة ومطاوي كتبه شيئا فشيئا (القواعد 766- 786)
تاريخ النشر: ٠١ / رجب / ١٤٣٤
التحميل: 2097
مرات الإستماع: 1805

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"لا ريب أنّ الأحكام النجومية مذمومة بالشرع مع العقل، وأن الخطأ فيها أضعاف الصواب، وأنّ من اعتمد عليها في تصرفاته، وأعرض عما أمر الله به ورسوله، خسر الدنيا والآخرة".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمعلوم أنّ النجوم جعلها الله رجومًا للشياطين، وزينة للسماء، وأيضًا يهتدي بها الناس في أسفارهم، وما إلى ذلك، فهذه ثلاثة أمور، وما عدا هذا من علم النجوم، كاستدلال بعضهم بها، وما يجري فيها، أو عليها، يستدلون بذلك على أمور أرضية، يتنبؤون بقضايا تتصل بالغيب، كما يفعله المنجمون، وهذا لا أساس له من الصحة؛ فليس للنجوم أي ارتباط، أو علاقة بهذه الأمور الواقعة في الأرض، والعقل لا يدل على ذلك ألبتة، كما أن الشرع لا يدل عليه، فعلم النجوم (التنجيم) من العلوم المذمومة الباطلة، فهذا المقصود بكلام الشيخ -رحمه الله-.

"وقد بيّنا أنّ الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، بل قد نقل إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من علماء المسلمين، الذين هم من أخبر الناس بالمنقولات، كأبي الحسين ابن المنادي، وأبي محمد ابن حزم، وأبي الفرج ابن الجوزي".

يعني: الآن هذه الأشياء التي قد يظن بعض المعاصرين أنها جديدة، وأنه اكتشفها علماء العصر، هي معروفة، وشيخ الإسلام ينقل الإجماع على أن الأفلاك كروية (مستديرة)[1]، والأرض كروية، ويرى أيضًا أن العرش محيط بذلك كله.

فكروية الأرض قد يظن بعض الناس أنها من علوم المحدثين، وقد ينازعون في ذلك بما وصف الله -تبارك وتعالى- الأرض من كونها بساطًا، وهذا لا ينافي كروية الأرض، كما هو معلوم؛ لأن الجرم الكبير لا يبدو فيه الانحناء والتكوير لضخامته، فكون الناس يرونها بهذه الهيئة كالبساط لا ينافي الكروية؛ لأن الله خاطبهم بما يشاهدون.

"وكذلك المطر معروف عند السلف والخلف أن الله تعالى يخلقه من الهواء، ومن البخار المتصاعد، لكن خلقه للمطر من هذا كخلق الإنسان من نطفة، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى، وإثبات المادة التي خُلق منها المطر والشجر والإنسان والحيوان مما يدل على حكمته، ونحن لا نعرف شيئًا قط خُلق إلا من مادة، ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق إلا من مادة".

ما يقوله الطبائعيون من أن هذا المطر بخار متصاعد من البحار، ثم بعد ذلك يصعد إلى الأعلى ويتكثف، ثم بعد ذلك ينزل، وأن ذلك من جراء الطبيعة، هذا الكلام لا أساس له من الصحة، حيث ينسبون ذلك إلى الطبيعة، فالله هو الذي يُقدر الأمور، ويسبّب الأسباب، وهو -تبارك وتعالى- الذي يُجري ذلك جميعًا، وله سنن في هذا الكون.

وبعض السلف يقولون: إن المطر ينزل من السماء -التي هي السماء وليس مطلق العلو-، وينكرون أن يكون ذلك مما يتصاعد من الأبخرة من البحار، وهذا -والله تعالى أعلم- غير دقيق، وإنما يقال كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2]، وذكره جمع من المحققين، ومن المعاصرين الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[3]: أن الله أجرى سنته من كون المطر يتصاعد من هذه الأبخرة، لكنه يلقح السحاب، وينزله الله -تبارك وتعالى- حيث شاء.

وبعض العلماء يقولون: لا يمنع مع ذلك أن يكون له مادة أخرى من غير ما ذُكر، وإلا فكون ماء البحر يتبخر، ويصعد إلى أعلى، فيتحول إلى سحاب، هذه قضية معروفة حتى عند الجاهليين، كما في البيت الذي قاله أبو ذؤيب الهذلي عن السحاب:

شربنَ بماءِ البحرِ ثمَّ تَرَفَّعتْ مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نئيجُ[4]

شربنا بماء البحر: يعني السحاب، حتى ترفعت، فكان الجاهليون يعرفون هذه القضية، لكن نسبة ذلك إلى الطبيعة هو الخطأ.

"والله قد وكّل الملائكة بتدبير هذا العالم بمشيئته وقدرته، كما دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة، وكما يُستدل على ذلك أيضًا بأدلة عقلية، والملائكة أحياء ناطقون ليسوا أعراضًا قائمة بغيرها، كما يزعمه كثير من المتفلسفة".

قال: "الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها، فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد، كما أنها إذا حصلت المقاصد لم يكن بنا حاجة إلى الوسائل، وتقدّم في الأصول السابقة أن الوسائل لها أحكام المقاصد؛ إن كانت المقاصد مأمورًا بها، فالوسائل تابعة لها، وإن كانت منهيًا عنها، فكذلك وسائلها، والله أعلم".

الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها، وهذا الكلام ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في (منهاج السنة)[5]، وهو يرد به على الرافضة؛ وذلك أن الرافضي يتحدث عن الأئمة المعصومين الذين يجب التلقي والأخذ عنهم، وأنه لا بد من قائم في الزمان من هؤلاء الأئمة المعصومين، حتى يجيء الغائب، فشيخ الإسلام يرد عليه، ومن جملة الردود يقول: بأن النبي ﷺ هو المعصوم، وأن طاعته واجبة في كل زمان، على كل أحد، والأمة تعلم أمره ونهيه وخبره بغير الإمام الغائب، أو من غير هؤلاء الأئمة من المعصومين، فالأمة تعرف ذلك، والعلم مبثوث فيها، فالنبي ﷺ سنته معلومة وظاهرة، ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر، الذي لو كان معصومًا لم يعرف أحد لا أمره ولا نهيه، يعني: ما الفائدة من تقرير العصمة، والأئمة، والجدل الطويل، وملء المجلدات الكبار بهذه القضية التي يزعمونها، يقول: حتى علي وهو الوحيد من الأئمة عند الرافضة المعصومين، ما كانت رعيته -يعني جميعًا- تعرف أمره ونهيه، ولم يكن ذلك بمنزلة معرفة الأمة ما جاء به الرسول ﷺ.

يقول: بل عند الأمة من أمر النبي ﷺ ونهيه، والعلم بما جاء به، ما أغناهم عن كل إمام سواه، ويقول: بأن عليًّا كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرها من البلاد من لا يدري بماذا أمر؟ ولا عن ماذا نهى؟ بل إن نوابه من الأمراء، ونحو ذلك، كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو، إذن ما الفائدة من الإمام المعصوم؟ وما الحاجة إليه؟ يعني: من الناحية العلمية الأمة كانت عالمة بما جاء به الرسول ﷺ، ومن الناحية العملية هذا علي لم يكن محيطًا بكل ما كان يجري وقت خلافته.

يقول: بخلاف النبي ﷺ فإن أمته قد عرفوا أمره ونهيه، أعظم من معرفة علم نواب علي بأمره ونهيه، ويرد عليهم بأمور أخرى.

ويتكلم عن الرافضة، فيقول: الآن من الناحية العملية هذا الغائب لا يُؤخذ منه علم، ولا ينفعهم في عمل، وهم يقولون: لا بد من إمام معصوم، فيقول: هذا لا ينفعهم بوجه من الوجوه، بل لو ولي عليهم أحد من المسلمين لكان أنفع وأجدى من هذه الدعاوى التي يدعونها.

يقول: وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره، يقول: فما الفائدة منه؟ هم لا يوجدون -يعني الرافضة- إلا مستعينين بغيره؛ لماذا لا يستعينون به في حروبهم وفيما يجري عليهم؟

يقول: لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره، بل هم ينتسبون إلى المعصوم، وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم، كما هو مشاهد، فإذا كان المصدقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد منهم، لا في دينه ولا في دنياه، لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة، إذن لماذا الجدل والنقاش؟

يقول: وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء، لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة؛ لأن الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها، فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد -هذا الكلام الذي ذكره هنا- وكان هذا بمنزلة من يقول: الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم، وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا، والشراب صفته كذا، وهذا عند الطائفة الفلانية، وتلك الطائفة قد عُلم أنها من أفقر الناس، وأنهم معروفون بالإفلاس، فأي فائدة في طلب ما يُعلم عدمه، واتباع ما لا ينتفع به أصلاً، والإمام يحتاج إليه في شيئين: إما في علم لتبليغه وتعليمه، وإما في العمل به ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه، يقول: وهذا المنتظر لا ينفع لا بهذا ولا بهذا.

يقول: بل ما عندهم، -يعني: هؤلاء الذين يدعون لهم العصمة- من العلم، فهو من كلام من قبله، ومن العمل إن كان مما يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم، وإلا استعانوا بالكفار والملاحدة، ونحوهم، فهم أعجز الناس في العمل، وأجهل الناس في العلم، مع دعواهم ائتمامهم بالإمام المعصوم الذي مقصوده العلم والقدرة، ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة، فعُلم انتفاء ما يدعون.

ثم ذكر الأئمة الاثني عشر، يعني: أتى على بنيانهم من القواعد، بدأ بالأئمة الاثني عشر، وهؤلاء ما حالهم؟ وماذا حصل من مقاصد الإمامة بالنسبة إليهم؟ يقول: علي فقط هو الذي تولى الإمامة، والبقية لم يتولوا الإمامة، يقول: لم يحصل لأحد من هؤلاء الاثني عشر جميع مقاصد الإمامة.

يقول: أما من دون علي، فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثلما يحصل من نظرائه، يعني: من العلماء، إذا كان عالمًا، وكان علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، يُعلِّمون الناس ما علمهم الله، كما علّمه علماء زمانهم، وكان في زمنهم من هو أعلم منهم، وأنفع للأمة، وهذا معروف عند أهل العلم، ولو قُدّر أنهم كانوا أعلم وأدين، فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل من ذوي الولاية والقوة والسلطان، وإلزام الناس بالحق، ومنعهم باليد عن الباطل، يعني: العالم غاية ما هنالك أنه يفتي، لكن لا يستطيع حمل الناس على هذا.

يقول: وأما من بعد الثلاثة، كالعسكريَين، فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة، ولا كان لهم يد تستعين بها الأمة، بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة، وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين، ما في أمثالهم، وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين، وأما ما يختص به أهل العلم فهذا لم يعرف عنهم، يعني: هؤلاء من المتأخرين من الأئمة الذين يدعون لهم العصمة، يقول: ولهذا لم يُؤخذ عنهم العلم، كما أُخذ عن أولئك الثلاثة، إلى آخر ما ذكر.

وفي كلامه هنا يقول: إن الوسائل لها أحكام المقاصد، إن كانت المقاصد مأمورًا بها، فالوسائل تابعة لها، وإن كانت منهيًا عنهًا، فكذلك وسائلها، والله أعلم، يعني: كل ما يُؤدي إلى الأمور المحرمة يكون محرمًا، وقد سبقت الأمثلة على هذا.

"النبي ﷺ قد نص على كليات الأحكام، ما يحرم من النساء وما يحل، فجميع أقارب الرجل من النساء حرام عليه إلا بنات عمه، وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته، وحرّم في الأشربة كل ما يسكر، وقد حصر المحرمات في قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فكل ما حرم تحريمًا مطلقًا عامًا لا يباح في حال، فهو داخل في هذه المذكورات، وجميع الواجبات في قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف:29] فالواجب كله محصور في حق الله، وحق عباده، وحق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحقوق عباده العدل، كما في حديث معاذ، ثم إنه تعالى فصّل أنواع الفواحش والبغي، وأنواع حقوق العباد في مواضع أخر، ففصل المواريث، ومن يستحق الإرث ممن لا يستحقه، وما يستحق الوارث بالفرض والتعصيب، وبيّن ما يحل من المناكح وما يحرم، وغير ذلك من نصوصه الكلية التي لا يشذ عنها شيء".

هذا مضى الكلام أيضًا عليه، حينما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن ما تحتاج إليه الأمة قد بينه الرسول ﷺ بيانًا مفصلاً، بحيث لا يلتبس[6]، أما الأمور الأخرى التي دون ذلك فهذه تكون محل نظر واجتهاد، ويختلف فيها أهل العلم، وذكر أن ما تتوقف عليه النجاة قد جاء بالكتاب والسنة، بحيث لا يبقى فيه أدنى التباس.

"من استكبر على الحق، أو ادعى ما ليس له من المراتب، أو أشرك بالله، وتعلّق بغيره ابتلي بالذل والهوان والخوف من المخلوقين، فتراه مفتقرًا إلى لقمة، خائفًا من كلمة، قال تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ [آل عمران:151]".

هذه من العقوبة بعكس مقصوده ومطلوبه وحاله، ولذلك يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر[7]، ولما قال قوم إبراهيم : ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97] ماذا قال الله ؟ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ[الصافات:98] ولما قال فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] كانت عاقبته أنه أغرق بالماء؛ لأنه كان يقول: وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] وهذا له نظائر، ومضى كثير منها في درس التفسير، فالكبر لا يصلح للإنسان، وإنما هو مما يختص به الخالق -تبارك وتعالى-، فمن تواضع لله رفعه، ومن تعاظم وتكبر كان عاقبته إلى الذل والهوان؛ ولهذا يقال لهذا المتكبر المعاند الذي رد الحق تعززًا وتعاظمًا: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49].

"والردة قد تكون عن أصل الإسلام، كالغالية من الإسماعيلية والنصيرية، ونحوهم، وقد تكون الردة عن بعض الدين، كحال كثير من أهل البدع، والله تعالى يقيم قومًا يحبونه، يجاهدون من ارتد عن الدين، أو عن بعضه في كل زمان".

الردة قد تكون عن أصل الإسلام، كالغالية من الإسماعيلية والنصيرية، فهؤلاء لا شك أن اعتقادهم مخرج من الملة، وأنهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة على قول المحققين من أهل العلم، فإن قول النبي ﷺ: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة[8]، فإن المراد بذلك -والله تعالى أعلم- أهل القبلة، فإنه لا يدل هذا الحديث -كما سبق في بعض المناسبات- أن هؤلاء خارجون عن الإسلام، وأنهم مخلدون في النار، ولكن من أهل العلم من قال: بأن من الطوائف والفرق ما يكون لها من الاعتقاد ما هو كفر مخرج من الملة، يعني: أن عقيدتها تخرجها من عداد الطوائف المنتسبة للإسلام، يعني: ليسوا من أهل القبلة أصلاً، ومن شاء يراجع في هذا كلام أهل العلم على حديث الافتراق، والشاطبي -رحمه الله- تكلم عليه في كتاب الاعتصام[9]، وذكر أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وتكلم عليه غيره كثيرون، كما هو معلوم.

يقول: وقد تكون الردة عن بعض الدين، كحال كثير من أهل الفرق، يعني: أن يكون عندهم كفر في بعض الاعتقادات، ولكنهم في عداد أهل القبلة، فأفرادهم منهم من يكون ناجيًا، ومنهم من يكون هالكًا، بخلاف هؤلاء النصيرية والدروز، وأشباه هؤلاء، فهم ليسوا من المسلمين أصلاً، فأهل الكتاب أقرب إلى المسلمين منهم، باعتبار أن هؤلاء لهم دين -أعني أهل الكتاب- أصله دين صحيح، فوقع فيه التحريف، ووقعوا في الكفر من جهة أخرى بكفرهم به -عليه الصلاة والسلام-وبما جاء به ﷺ.

يقول: والله تعالى يقيم قومًا يحبونه ويجاهدون من ارتد عن الدين، أو عن بعضه في كل زمان، فلا يزال الله يغرس غرسًا لهذا الدين، ولا يزال رجال في أصلاب آبائهم يأتون جيلاً بعد جيل، ينافحون عن الدين، وعن حياضه، ويجاهدون في سبيل الله -تبارك وتعالى-، ولا يخافون لومة لائم، ويبلغون رسالات الله، ويخشونه، كما قال النبي ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله [10].

وأما قوله هنا: تشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق، لا يقتضي المساواة في كل شيء، فهذا يقوله شيخ الإسلام -رحمه الله- يرد به على الرافضة، حيث يحتجون على تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ويستدلون على ذلك بأشياء، منها: قول النبي ﷺ لعلي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي[11]، قالوا: جعله بمنزلة هارون، وهارون نبي، والنبي معصوم، فهم يحتجون على عصمة علي وعلى تفضيله بمثل هذا، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يرد عليهم هذه الدعوى، فيذكر أن هذا الحديث ثابت، صحيح، في الصحيحين، وأن النبي ﷺ قال له ذلك في غزوة تبوك، ويُبيِّن وجه ذلك، فيقول: النبي ﷺ من عادته وهديه وسنته أنه إذا سافر في غزوة أو عمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، كما استخلف عليها في غزوة ذي أمر: عثمان، وفي غزوة بني قينقاع: بشير بن عبد المنذر، ولما غزا قريشًا، ووصل إلى الفرع -وادي-، استعمل ابن أم مكتوم.

يقول: وبالجملة فمن المعلوم أنه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف، وقد ذكر المسلمون من كان يستخلفه، فقد سافر من المدينة في عمرتين: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وفي حجة الوداع، وفي مغازيه أكثر من عشرين غزاة، وفيها جميعًا استخلف، وإذا خرج إلى غزوة، أو نحو ذلك، يبقى رجال كثير، فيستخلف عليهم من يستخلفه.

قال: فلما كان في غزوة تبوك لم يؤذن لأحد في التخلف عنها، فهي ليست كالغزوات الأخرى، فالناس الذين خرجوا في بدر خرجوا ليس للقتال، وإنما للعير، فبقي كثيرون من خيار الصحابة، لكن في تبوك عزم على الناس أن يخرجوا، فخرج الجميع، ولم يتخلف إلا من عذَره الله ، وتخلف الثلاثة ، والبقية من المنافقين، فعزم على كل قادر أن يخرج، وهي آخر مغازيه ﷺ، ولم يجتمع معه أحد، كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان، أو من كان معذورًا لعجزه عن الخروج، أو من هو منافق، مع الثلاثة ، فلم يكونوا من المنافقين.

يقول: ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة؛ لأن الموجودين من الصبيان والنساء، أو العجزة المعذورين، ونحو ذلك؛ لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحدًا، كما كان يبقى في جميع مغازيه.

يقول بعد ذلك: في كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك، يعني: الذين تخلفوا يوم بدر أفضل من الذين تخلفوا يوم تبوك مثلاً، فكان كل استخلاف قبل هذه يكون علي أفضل ممن استخلف عليه عليًّا، فلهذا خرج إليه علي يبكي، ويقول: "خلفتني مع النساء والصبيان؟"[12]، يعني: كل مرة يستخلف أناس أفضل من الذين استخلف عليهم علي ، أي: الرعية الباقية في المدينة، فعلي كأنه يقول: هل هذا قدْري؟

ويقول: وقد قيل: إن بعض المنافقين طعن فيه، وقال: إنما خلفه لأنه يبغضه، فبيّن له النبي ﷺ أني إنما استخلفتك لأمانتك عندي، وأن الاستخلاف ليس بنقص، فإن موسى استخلف هارون على قومه، فكيف يكون نقصًا، وموسى فعل ذلك مع هارون ، فطيّب بذلك قلبه، وبيّن أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلَف وأمانته، ولا يقتضي إهانته ولا تخوينه؛ وذلك لأن المستخلف يغيب عن النبي ﷺ، وقد خرج معه جميع الصحابة.

ويقول: بأن الملوك إذا خرجوا عادة في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به، ويحتاجون إلى مشاورته ورأيه وسيفه ويده.

ويقول: والمتخلف إذا لم يكن له في المدينة -هكذا العبارة: المتخلف، والمعنى: الذي استخلف- سياسة كثيرة، لا يحتاج إلى هذا كله، فظن من ظن أن هذا غضاضة من علي ، يعني: لا يحتاج أنه يُوضع عليهم من هو في منتهى الشجاعة والرأي والعلم، وما إلى ذلك، فبيّن النبي ﷺ أن الأمر ليس كذلك، ولم يقل هذا لكل من استخلفه؛ لأنه كان يستخلفهم على قوم من خيار الصحابة، ثم إن أولئك ما شكا منهم أحد، وقال: لماذا خلفتني وتركتني في المدينة؟ كما فعل علي ، فما احتاج النبي ﷺ أن يقول لأحد منهم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى[13]، فالنبي ﷺ قاله لعلي ذلك لأن المقام اقتضى ذلك.

والتشبيه هنا في الاستخلاف فقط، يقول: تشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق، لا يقتضي المساواة في كل شيء، فلا يقتضي مساواته بهارون، هارون نبي ، فهل علي نبي؟ وهارون معصوم ، فهل هذا يقتضي أن عليًّا معصومًا؟ إلى آخر ما قال، وهو كلام جيد ومتين كما ترون.

"وكذلك إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يُحتج به باتفاق الناس".

هذه قاعدة ثانية، فالقاعدة الأولى: "أن تشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق، لا يقتضي المساواة من كل شيء" والثانية: "إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه فلا يحتج به باتفاق الناس" هذا تابع للكلام الذي قبله، فيقول شيخ الإسلام هنا: وأما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه فلا يُحتج به باتفاق الناس، فإنه إنما خصّ عليًّا بالذكر؛ لأنه خرج إليه يبكي ويشتكي تخليفه مع النساء والصبيان، ومن استخلفه سوى علي لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصًا لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام، والتخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتض الاختصاص بالحكم، فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى، كما أنه قال للمضروب الذي نهى عن لعنه: فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله[14]، يقول: لم يكن هذا دليلاً على أن غيره لا يحب الله ورسوله، بل ذكر ذلك لأجل الحاجة إليه؛ لينهى بذلك عن لعنه، فهنا إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يحتج به باتفاق الناس، فهنا خصّ عليًّا لأنه شكا، وأما غيره فلم يحصل منه ذلك.

"البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [النساء:63] هي علم المعاني والبيان، فيذكر من المعاني ما هو أكمل مناسبة للمطلوب، ويذكر من الألفاظ ما هو أكمل في بيان تلك المعاني، فالبلاغة بلوغ غاية المطلوب، أو غاية الممكن من المعاني بأتم ما يكون من البيان، فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة، وبين تبيينها بأحسن وجه".

قوله: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [النساء:63] يعني: أنه يكون في غاية الوضوح والبيان، بحيث لا يترك في الحق لبسًا، وليس فيه شيء من المداراة، أو الكف عن بعض ما ينبغي قوله، كما قال الله : عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ [التحريم:3] وذلك مع زوجاته في قصة التحريم، فقوله: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [النساء:63] يعني: يصل إلى الأعماق، بحيث توضح لهم فيه الحق، وما ينبغي إيضاحًا، فلا يبقى فيه أدنى التباس، فتضع النقاط فيه على الحروف.

"وأصل الشجاعة قوة القلب وثباته عند المخاوف، وكمال اليقين والثقة بوعد الله، وشجاعة الفعل والقول تابعة لهذا؛ والاستنصار بالله والاستغاثة به والدعاء له من تمام ذلك، وهي من أعظم الأسباب في تحصيل المأمور، ودفع المحذور، ومما ينبغي أن تعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في إقامة الدين وحصول المصالح العامة والخاصة للمسلمين".

هذا الكلام في الرد على الرافضي أيضًا، في منهاج السنة؛ وذلك أن هذا الرافضي يتحدث عن شجاعة علي -رضي الله تعالى عنه-، وأن هذه مزية تميّز بها على غيره، ومنقبة لا توجد في غير علي -رضي الله عنه وأرضاه-، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يرد عليه، مع إثباته لشجاعة علي ، فيقول: إن علي ثبت عنه أنه قال: لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله ﷺ، وكان من أشد الناس، ما كان -أو: لم يكن- أحد أقرب إلى المشركين منه[15]، فالشجاعة تُفسر بشيئين:

الأول: قوة القلب، وثباته عند المخاوف.

والثاني: شدة القتال بالبدن، يعني: هؤلاء الرافضة يذكرون أشياء عن علي وقوته، وكم قَتَلَ من الرجال، وكم حمل، وكم فعل، وحمل باب خيبر بيد واحدة... إلخ، وإن كان هذا -طبعًا- لا يصح، فشيخ الإسلام يقول: الشجاعة تكون بقوة القلب، وتكون أيضًا بشدة القتال بالبدن، بأن يقتل كثيرًا، ويقتل قتلاً عظيمًا.

يقول: فالأول وهو الشجاعة، وأما الثاني فيدل على قوة البدن.

ويقول: وليس كل من كان قوي البدن كان قوي القلب، ولا بالعكس؛ ولهذا تجد الرجل يقاتل إذا كان معه من يؤمنه، وإذا خاف أصابه الجبن، وانخلع قلبه، وتجد الرجل الثابت -ثابت القلب- الذي لم يقتل بيديه كثيرًا، ثابتًا في المخاوف، مقدامًا على المكاره.

يقول: وهذه الخصلة يحتاج إليها في أمراء الحروب وقواده ومقدميه أكثر من الأولى، يعني: شجاعة القلب أهم من قوة البدن.

يقول: فإن المقدم -يعني الأمير والقائد- إذا كان شجاع القلب ثابتًا أقدم وثبت، ولم ينهزم، فقاتل معه أعوانه، وإذا كان جبانًا ضعيف القلب ذل ولم يقدم، ولم يثبت، ولو كان قوي البدن.

يقول: والنبي ﷺ أكمل الناس في هذه الشجاعة -التي هي شجاعة القلب- والتي هي المقصودة في أئمة الحروب، ولم يقتل بيده إلا أبي بن خلف -قتله يوم أحد-، فهو بهذا يرد على قول الرافضي: بأن علي قتل... إلخ.

يقول: النبي أشجع الناس، وما قتل إلا رجلاً واحدًا، وباعتراف علي أنهم كانوا يحتمون بالنبي ﷺ، وما قتل أحدًا بيده قبلها ولا بعدها، وكان أشجع من جميع الصحابة، حتى إن جمهور أصحابه انهزموا يوم حنين، وهو راكب على بغلة، والبغلة لا تحسن الكر ولا الفر، وهو يقدم عليها إلى ناحية العدو، ويقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب[16]، ليسمي نفسه...، إلى آخر ما ذكر.

يقول: وكان علي وغيره يتقون برسول الله ﷺ؛ لأنه أشجع منهم، وإن كان أحدهم قد قتل بيده أكثر مما قتل النبي ﷺ.

يقول: وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة شجاعة القلب، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر، وأن عمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير.

يقول: وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم، فإن أبا بكر باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي ﷺ من أول الإسلام إلى آخره؛ منذ وضعوا سلا الجزور على ظهره[17]، وأخذوا بثوبه ﷺ... إلخ.

يقول: لم يجبن ولم يفشل، وكان يقدم على المخاوف، يقي النبي ﷺ بنفسه، ويجاهد المشركين، تارة بيده، وتارة بلسانه، وتارة بماله، وهو في ذلك كله مُقدم، وكان يوم بدر مع النبي ﷺ في العريش، يقول: مع علمه أن العدو قد يقصدون -هذا الهدف- موطن القائد (النبي ﷺ) فهو مكان مستهدف من قبل العدو، فكان معه، وهو ثابت القلب، رابط الجأش، يعاون النبي ﷺ، كما هو معلوم، وهذا يدل على كمال يقين الصدِّيق، وثقته بوعد الله، وثباته وشجاعته، الشجاعة الإيمانية الزائدة على الشجاعة الطبيعية.

يقول: وكان حال النبي ﷺ أكمل من حاله، ومقامه أعلى من مقامه، ولم يكن الأمر كما ظنه بعض الجهال أن حال أبي بكر أكمل -نعوذ بالله من ذلك- إلخ، يعني: عندما قال للنبي ﷺ: "يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك"[18].

ويقول: ولهذا قال الله تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] وهذه الحال كان الخوف فيها على النبي ﷺ دون غيره، وسيأتي الكلام على هذه القصة، والمقصود هنا: أن أبا بكر كان أشجع الناس، ولم يكن بعد النبي ﷺ أشجع منه؛ ولهذا لما مات النبي ﷺ، ونزلت في المسلمين أعظم نازلة نزلت بهم، حتى أوهنت العقول، وطيشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأريشة في الطوي البعيدة القعر -يعني: البئر البعيدة- فهذا ينكر موته، وهذا قد أُقعد، وهذا قد دهش، فلا يعرف من يمر عليه، ومن يسلم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نسخة القيامة، وكأنها قيامة صغرى، مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلت كماته، فقام الصديق بقلب ثابت، وفؤاد شجاع، فلم يجزع ولم ينكل، وقد جُمع له بين الصبر واليقين، فأخبرهم بموت النبي ﷺ، وأن الله اختار له ما عنده، وقال لهم: من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات[19] إلخ، وقرأ عليهم الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144] فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق...، إلى آخر ما قال.

ويقول: قال أنس: خطبنا أبو بكر وكنا كالثعالب، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود[20].

ويقول: وأخذ في تجهيز جيش أسامة، مع إشارتهم عليهم ألا يخرج، أو أن يغير القائد، وأخذ في قتال المرتدين، مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة، فهو مع الصحابة يعلمهم إذا جهلوا، ويقويهم إذا ضعفوا، ويحثهم إذا حصل لهم الفتور، فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم، حتى كان عمر مع قوته، وشجاعته يقول له: يا خليفة رسول الله تألف الناس، فيقول: بماذا عَسَيتَ أن أتأَلَّفَهم؟! بِشِعرٍ مُفتَعل! أو بِسِحرٍ مفتَرَى[21]...، إلى آخر ما ذكر.

يقول: فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحد بعد النبي ﷺ أكمل منها في أبي بكر، ثم عمر، وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل من الكفار أكثر مما قتل علي، فإن كان من قتل أكثر يكون أشجع، فكثير من الصحابة أشجع من علي.

يقول: بأن البراء بن مالك أخو أنس -رضي الله عن الجميع- قتل مائة رجل مبارزة، هذا غير المشاركة في قتل آخرين، أما خالد بن الوليد، فلا يحصي عدد من قتله إلا الله، وقد انكسر في يده في غزوة مؤتة تسعة أسياف، ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله علي... إلى آخر ما ذكر.

هذا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في رده على هذا الرافضي، الذي يقول: إن علي أفضل الصحابة، وأنه أشجع الصحابة، يبيّن أن أبا بكر أشجع منه، وأن عمر أشجع، رضي الله عن الجميع.

"وليس لأحد أن يدفع ما كان علم يقينًا بالظن، سواء كان ناظرًا أو مناظرًا، بل إن تبيّن له وجه فساد الشبهة، وبيَّنه لغيره، كان ذلك زيادة علم ومعرفة، وتأييد في الحق في النظر والمناظرة، وإن لم يتبيّن ذلك لم يكن له أن يدفع اليقين بالشك، والله أعلم".

هذا أيضًا يرد به على هذا الرافضي؛ بقوله: إن من تقدم عليًّا لم يكن إمامًا.

يقول: إن كان مقصوده أنهم لم يحصل لهم ولاية على المسلمين، فهذا مخالف للحس، هذا أمر باطل، ومعلوم أنهم تولوا على المسلمين، وأن المسلمين بايعوهم، وكان لهم سلطان، يقيمون به بالحدود، ويوفون به الحقوق، ويجاهدون به العدو، ويصلون بالمسلمين الجمع والأعياد، وغير ذلك، مما هو داخل في معنى الإمامة.

يقول: إن كان ينفي هذا كله، فهذا بهت ومكابرة، وهذا أمر معلوم بالتواتر، والرافضة وغيرهم يعلمون ذلك.

يقول: لكن هم يطلقون ثبوت الإمامة وانتفاءها، ولا يفصلون، فهل المراد ثبوت نفس الإمامة ومباشرتها، أو نفس استحقاق ولاية الإمامة؟ يعني: إمام بحق.

يقول: ويطلقون لفظ الإمام على الثاني، يعني: من كان أهلاً لها، ومستحقًا للإمامة، ويوهمون أنه يتناول النوعين.

يقول: وإن أريد بذلك أنهم لم يكونوا يصلحون للإمامة، وأن عليًّا كان يصلح لها دونهم، أو أنه كان أصلح لها منهم، فهذا كذب، وهو مورد النزاع، وبدأ يجيب على كلام هذا الرافضي.

يقول: نجيب بجواب كلي ثم نفصل، ويكفينا بعض الجواب الكلي.

يقول: الجواب الكلي نقول: نحن عالمون بكونهم أئمة صالحين للإمامة علمًا يقينيًّا قطعيًّا، وهذا لا ينازع فيه اثنان من طوائف المسلمين غير الرافضة.

يقول: جميع طوائف المسلمين المعتزلة، وأهل السنة، والأشاعرة، وغير هؤلاء يعلمون أن هؤلاء أئمة، وأنهم صالحون للإمامة.

يقول: بل أئمة الأمة وجمهورها، يقولون: إنا نعلم أنهم كانوا أحق بالإمامة -يعني: من علي ، بل يقولون: إنا نعلم أنهم كانوا أفضل الأمة، وهذا الذي نعلمه، ونقطع به، ونجزم به، لا يمكن أن يعارض بدليل قطعي، ولا ظني، أما القطعي بأي اعتبار؟ لأن القطعيات لا تتعارض ولا تتناقض، وأما الظنيات فلأن الظني لا يعارض القطعي، يقول: وجملة ذلك: أن كل ما يورده القادح فلا يخلو عن أمرين: إما نقل لا نعلم صحته، أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم، وأي المقدمتين لم يكن معلومًا لم يصلح لمعارضته ما عُلم قطعًا -ما يصلح أن يعارض القطعي-، يقول: وإذا قام الدليل القطعي على ثبوت إمامتهم لم يكن علينا أن نجيب عن الشبه المفضِّلة، كما أنا ما علمناه قطعًا لم يكن علينا أن نجيب عما يعارضه من الشبه السفسطائية، وليس لأحد أن يدفع ما عُلم يقينًا بالظن، سواء كان ناظرًا أو مناظرًا، بل إن تبيّن له وجه فساد الشبهة وبيّنه لغيره كان ذلك زيادة علم ومعرفة.

يقول: عندنا قضية قطعية، هات شيء يبطلها، ما عندك شيء... إلى آخر ما ذكر، والله المستعان.

"ومن نوَّر الله قلبه، فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير، وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله ﷺ، وليس له معارضته برأيه وهواه".

يقول: فمن نوَّر الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير، وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله ﷺ، وليس له معارضته، يعني: إن تبيّن له وجهه وما فيه من المصلحة، فيحمد الله ، وإن استغلق عليه ذلك، فقال: هذا أمر لم أتبيّنه، ولم يظهر لي وجهه، فعندها عليه أن يسلم وينقاد، ويكل علم ذلك إلى عالمه، يعني بعض الناس قد يقول: أنا ما تبيّن لماذا تمنع المرأة مثلاً من الولاية؟ ولماذا يكون للمرأة نصف الميراث؟ طبعًا الأجوبة ذكرها العلماء، من تبيّن له هذا فالحمد لله، ومن لم يتبيّن له ذلك فعليه أن يسلم ولا يرد شيئًا من ذلك بعقله ورأيه وهواه، كما يفعله بعض الناس، اليوم الذين يقولون: حكّم عقلك، واعرض كل شيء على عقلك، وهذه القضية تكلمنا عليها مرارًا، فهؤلاء إنما يتبعون أهواءهم، وما قيمة هذا العقل؟ وما مقدار هذا العقل الذي يكون حاكمًا على الوحي؟ مع تفاوت الناس في العقول تفاوتًا كبيرًا.

فهذا يقول: أعقل هذه القضية، وأُدرك أنها عين العقل، وهذا يقول: أنا لا أدركها، وعرفنا أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاؤوا بمحارات العقول، ولم يأتوا بمحالات العقول، فلا يوجد شيء مما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يكون مناقضًا للعقل، لكن هنا أمور تتوقف العقول الصحيحة دونها، ولكنها لا تعارضها، ولكن الكثيرين يعرضون ذلك على قواعد فاسدة، يزعمون أنها عقلية، أو على عقول كاسدة، يزعمون أنها صحيحة، ويحصل بذلك الخطأ والخطل واللبس.

"لما كان محمد ﷺ خاتم النبيين، ولم يكن بعده رسول، ولا من يجدد الدين لم يزل الله يقيم لتجديد الدين من الأسباب ما يكون مقتضيًا لظهوره كما وعد به في الكتاب، فيظهر به محاسن الإيمان ومحامده، ويُعرف به مساوئ الكفر ومفاسده".

هذا كما ذكر النبي ﷺ: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها[22]، لأنه لا يوجد رسول بعد النبي ﷺ، فكان الأنبياء يسوسون الأمم، وكانوا يجددون لهم دينهم، وأما هذه الأمة فباقية إلى قيام الساعة، فقيض الله لها ذلك.

"ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء الأنبياء والمرسلين، ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [الأنعام:112] فإن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات أقام الله له مما يحقق الحق، ويبطل به الباطل من الآيات البينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة، وهذا كالمحنة التي تميز الخبيث من الطيب، والفتنة هي الامتحان والاختبار، فالحق كالذهب الخالص، كلما امتُحن زاد جودة، والباطل كالمغشوش المغشى إذا امتُحن ظهر فساده".

يعني اعتبر بما يجري في هذا العصر لما وقع هؤلاء من النصارى بعرض رسول الله ﷺ، وتكلموا في عائشة -رضي الله عنها-، قيض الله من يذب عنها، ويظهر فضائلها، ويظهر فضائل أصحاب النبي ﷺ وأمهات المؤمنين.

وكذلك أولئك الذي سخروا من رسول الله ﷺ، واستهزأوا به، كم حصل بسبب ذلك من اظهار سيرته وسنته وهديه، وكم دخل بسبب ذلك من أقوام في الإسلام، أو عرفوا بعض حقائقه التي ما كانوا يعرفون عنها قليلاً ولا كثيرًا، وقل مثل ذلك في بقية حقائق الدين، كالجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-، فقد أجلب عليه الأعداء وشوهوه، وشوهوا صورته ومعناه، ورموا من يقوم به بالعظائم، وأساؤوا إلى أنفسهم إساءة بالغة، وإلا فإن دين الله محفوظ، فيقيض الله سببًا من الأسباب ما يزيل به هذا الركام الكثير الذي أنفقت فيه المليارات، كما شاهدنا لما حصل في غزة، فانتفضت الأمة من المغرب إلى إندونيسيا، وانقشع عنها تلك السحب والأوهام والخيالات الفاسدة التي وجهها أعداء الإسلام إلى المسلمين من أجل أن يكونوا في حال لا يدفعون عن أنفسهم، ولا يغارون على دينهم، فزال ذلك كله، ثم كذلك أيضًا ما يحصل، أو ما حصل الآن في بلاد الشام، فإن هذا قد أحيا في الأمة هذه المعاني، وفي كل مرة يقيض الله من الأسباب ما تبقى فيه شعائر الدين ومعالمه وحقائقه حية، وإن كاد له أعداؤه، وإن حاولوا إطفاء نوره، وإضفاء أمور فاسدة عليه، فلا يزال هذا الدين يتجدد، والله قال عن الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ۝ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:36-37] الآية.

"فبمعرفة حقيقة دين النصارى وبطلانه يُعرف به بطلان ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع، فإذا جاء نور الإيمان والقرآن أزهق الله به ما خالفه".

هذا من كتاب (الجواب الصحيح)، وقد انتهينا من كتاب منهاج السنة، وقد مضى الكلام على كتاب الجواب الصحيح، ولكن هذه نقولات جاءت متأخرة متفرقة.

يقول: فبمعرفة حقيقة دين النصارى، هذا في الجواب الصحيح[23]، النصارى يقولون: بأن اللاهوت حل في الناسوت، والناسوت يعني: الناس، واللاهوت يعني: الإله، حل الإله في عيسى ، تعالى الله عمّا يقولون علوًا كبيرًا.

يقول: فبمعرفة حقيقة دين النصارى وبطلانه يُعرف بطلان ما يشبهه، أو ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع، مثل الحلولية والاتحادية، يعني: النصارى خصوه بالمسيح، فقالوا: إن الله حل بالمسيح، أما الحلولية، فإنهم قالوا: إنه قد حل في كل شيء، من الإنسان والحيوان والجماد، تعالى الله عمّا يقولون علوًا كبيرًا.

وهكذا من يقولون: بقدم الأرواح، وأنها أزلية، فهذا أيضًا باطل، فهي أرواح مخلوقة حادثة بعد أن لم تكن، وهكذا الذين قالوا: بقدم الأعمال، فإن ذلك أيضًا غير صحيح، فما يُرد به على النصارى وما يعلم من بطلان دينهم في هذه القضية يعرف به بطلان هذه الضلالات والبدع عند بعض أهل الأهواء.

"الصدق أصل الخير، ويهدي إلى الخير، والكذب أصل الشر، ويهدي إلى الفجور، كما في حديث ابن مسعود مرفوعًا: عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر[24]... الحديث، وأعظم ذلك الصدق على الله، أو الكذب على الله، فالصدق في أعلى الدرجات، والصادق أفضل الخلق، والكذب في أسفل الدرجات، والكاذب أظلم الخلق، وبين الصدق والكذب، والصادق والكاذب فروق كثيرة معروفة".

يعني: المنزلة الرفيعة المعروفة الصدِّيق هو الذي كمل في صدقه وتصديقه، وكون الصدق يهدي إلى البر، انظروا على سبيل المثال ما وقع لكعب بن مالك ، وكيف هداه الصدق إلى حسن العاقبة، وما حصل بسبب ذلك من توبة الله عليه، بخلاف المنافقين، الذين كذبوا وحلفوا بين يدي النبي ﷺ.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16] فإن الفاء هذه تدل على التعليل، وهو ما يعرف عند الأصوليين بدلالة الإيماء والتنبيه، ترتيب ما بعدها على ما قبلها، يعني: أنهم اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً يعني: ترسًا ووقاية، فإذا وجهت إليهم التهمة، قلتم كذا، فعلتم كذا، حلفوا أنهم ما قالوا، وما فعلوا، فيكونون بذلك مستمرئين للكفر والنفاق، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا فـ(صدَّ) هنا بمعنييها اللازمة والمتعدية؛ لأنها تأتي لازمة ومتعدية، فصدوا يعني: في أنفسهم، حيث بقوا على الكفر، وصدوا غيرهم عن الإيمان، وصدوا المؤمنين عن الإنفاق في سبيل الله، وعن الجهاد مع رسول الله ﷺ، فهذا كله بمعنى المتعدية، والأول من كونها لازمة، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فحصل لهم الصدود بنوعيه، الصد في أنفسهم، وصد غير المسلمين من الدخول في الإسلام، وصد المؤمنين عن طاعة الرسول، وعن اتباعه، وعن الجهاد معه، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [الأحزاب:18]، يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13]، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ الآية [الأحزاب:18]، و لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً [التوبة:47] فالشاهد: أن الكذب يهدي إلى الفجور، فما الذي جعل المنافقين يستمرؤون الكذب والحلف على الكذب؟ أنهم رأوا أنه يخلصهم فاستمروا على النفاق، وصاروا يقارفون أمورًا من الكفر فما دونه، وإذا سُئلوا كذبوا وحلفوا على الكذب، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14] فهذا الكذب يهدي إلى الفجور، هو يفعل ما يحلو له، وإذا سُئل حلف أنه ما فعل وأنكر، وهذا تجده في أعمال الناس، وفيما يقارفون من الجنايات والمدنسات، وما إلى ذلك، فتجد الرجل ربما يفجر، ثم يواجه بهذا الفجور من قبل زوجته وأولاده وقرابته ومعارفه، ثم يبادر بالإنكار، ولربما حلف على هذا، ثم يستمر على ما هو عليه، والكذب يهدي إلى الفجور[25]، لكن لو كان يلزم نفسه أن لا يكذب، فمعنى ذلك أنه سيواجه أمورًا يحتاج أن يقف دونها؛ لئلا يعتذر عنها، وهذا في كل الأشياء؛ ولهذا الحكماء يذكرون في جملة ما يذكرون: أن الإنسان العاقل ينبغي أن لا يتصرف تصرفًا يحتاج إلى الاعتذار منه؛ لأنه لا يكاد يعتذر إلا ودخل في اعتذاره شيء من الكذب، إما في أصل العذر، وإما في قدره، فإن استطعت أن لا تعتذر فافعل، لا أن الإنسان يقارف ما يشاء، ثم يقول: أنا لا أعتذر، فيكابر، لا بد أن يعتذر إذا أخطأ، لكن إن استطعت أن تأتي بأحسن الأحوال، وأن تتجمل، وتكون على ما يليق فافعل، فلا تقصر حتى تحتاج إلى الاعتذار.

"كثيرًا يذكر تعالى في كتابه حكمة للأحكام الشرعية أو القدرية، ولا يلزم من ذلك ألا تكون له حكم أخرى غيرها، لكن لا بد لتخصيص تلك الحكمة بالذكر في ذلك الموضع من مناسبة".

هذا أيضًا من كتاب الجواب الصحيح[26]، يعني: أن الله قد يذكر في موضع حكمة واحدة، فحينما يذكر هذه الحكمة لا يعني ذلك أنه لا يوجد حِكَم أخرى، فمثلاً في إرسال الرسول ﷺ، يقول: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:46] فهل هذا فقط مهمة الرسول ﷺ والحكمة من إرساله؟ ينذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبله فقط؟ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة:3]، لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس:6] شيخ الإسلام يقول: هذه الآيات الثلاث ذكر الله فيها نعمته على هؤلاء، وحجته عليهم بإرساله، وذكر بعض حكمته في إرساله؛ وذلك لا يقتضي أنه لم يُرسل إلا لهذا، بل مثل هذا كثير معروف في لسان العرب، وغيرهم[27]، وذكر أمثلة، يقول مثلاً: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، يقول: معلوم أن في هذه الدواب منافع غير الركوب والزينة، قال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر:15] هل الوحي جاء فقط لإنذار الناس أن ينذرهم القيامة؟ بل نزلوا بالبشارة للمؤمنين، والأمر والنهي، والشرائع[28]، وهكذا في قوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] فهل خلقه -تبارك وتعالى- للعالم العلوي والسفلي فقط لنعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله أحاط بكل شيء علمًا؟ أم له حِكم أخرى؟ له حِكم أخرى، فذكر حكمة واحدة في مقام لا يعني أنها هي الحكمة الوحيدة، فلا ينفي أنه يوجد حِكم أخرى غير المذكورة في هذا المقام[29].

وفي قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31] يقول: ومعلوم أن في ملك الله حِكمًا أخرى غير جزاء المحسن والمسيء[30]، وهكذا في قوله: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية:22]، إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ [النساء:163] إلى آخره، ثم قال: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] ومعلوم أن في إرسال الرسل حِكمًا أخرى: سعادة من آمن بهم، ودفع الحجة، وغير ذلك، قال الله تعالى: كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [الحج:37] مع أن في تسخيرها حِكمًا أخرى، وهكذا في قوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس:67] هل فقط الليل جُعل من أجل أن نسكن فيه، أو له حكم كثيرة غير هذه؟ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62] هل جُعلت بهذا التعاقب من أجل فقط التذكر أو الشكور؟ وقوله: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12] هل هذا فقط هو الحكمة الوحيدة في قصة أصحاب الكهف لما بعثهم الله بعدما بقوا هذه المدة الطويلة؟ إلى غير ذلك، فذكر أمثلة كثيرة جدًا بهذا المعنى.

"وكذلك نفي الدليل المعين لا يقتضي نفي المدلول، ولا يقتضي نفي دليل آخر غيره يدل على المقصود".

هذا يرد به شيخ الإسلام -رحمه الله- على النصارى لما قالوا: بأن إثبات المسلمين للصفات أنه يلزم منه بعض ما يعتقده النصارى، باعتبار أمور فاسدة، وعقائد، وملازمات غير صحيحة، يعني: الصفات هل هي حادثة مثلاً وحلت بالقديم؟ ومثل الكلام الذي يقوله الفلاسفة وأهل الكلام، وما إلى ذلك، وقد سبق الرد عليه في بعض المناسبات.

فشيخ الإسلام يرد على النصارى هؤلاء في الوجه الثاني عشر من الردود على شبهتهم في موضوع الصفات، فيقول: أن كل من يعتقد في التجسيم ما يعتقد يمكنه أن يقول كما يقوله النصارى، فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، فقالوا: إنه إله تام، وإنسان تام، يعني النصارى يقولون لنا: إثباتكم للصفات له مقتضيات ولوازم منها التجسيم مثلاً، فيرد بقوله: فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، قالوا: إنه إله تام وإنسان تام، وليس فيه من الإلهية شيء، فما بقي مع هذا يمتنع أن يُعتقد في نظائره ما يُعتقد فيه، فلو قال القائل: إن موسى بن عمران كان هو الله، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى، فإن معجزات موسى كانت أعظم، وانتصار موسى على عدوه أظهر، وقد سماه الله في التوراة (إلهًا لهارون ولفرعون) طبعًا هذا من كتابهم المحرف، ويرد عليهم ليزمهم، يقول: فإذا قيل فيه ما قالوه في المسيح: إنه أظهر المعجز بلاهوته، وأظهر العبودية بناسوته، يعني: الجزء الإلهي الذي حل به الجسد المخلوق هذا الناسوت، أظهر فيه المعجزة، يقول: لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى، يعني: لو جاء واحد وادعى ذلك في موسى -عليه السلام-، وأن هذه المعجزات ظهرت بلاهوته، وأظهر العبودية بناسوته، يقول: لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى، بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يُدّعى فيه إلا بدليل خاص، بل إذا قيل لهم: حل في كثير من الأنبياء والقداديس لم يمكنهم نفي ذلك، وإذا قالوا: لم يخبر بذلك أحدًا، ولم يبشر به نبيًّا، أو هذا غير معلوم، قيل لهم -طبعًا على سبيل الجدل-: غاية هذا كله أنكم لا تعلمون ذلك -يعني: هذا الذي ادعى في موسى مثلاً- ولم يقم عندكم دليل عليه، وعدم العلم ليس علمًا بالعدم، فعدم علمكم، وعدم علم غيركم بالشيء ليس علمًا بعدم ذلك الشيء، وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه، يعني: هذه المخلوقات هي تدل على الخالق ، ثم إذا عدم ذلك، يعني: لو ما وجدت مخلوقات، هل معنى ذلك أن الخالق لا حقيقة له؟ الجواب: لا، يقول: فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزمًا لعدمه، كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها إذا لم ينقل عُلِمَ انتفاؤها، يعني: الأشياء التي تتضافر الهمم على نقلها وما نُقلت يدل على أنها غير موجودة، لكن الأشياء الخفية فليست كذلك، فهو يتكلم بهذه الطريقة في الرد على هؤلاء النصارى.

"وإذا انتقض الدليل بطلت دلالته، فإنه إنما يدل إذا كان مستلزمًا للمدلول، فإذا كان تارة يوجد مع المدلول، وتارة لا يُوجد، لم يكن مستلزمًا، فلا يكون دليلاً".

هنا شيخ الإسلام يبطل استدلال النصارى على صحة دينهم بما جاء عن الأنبياء السابقين، فيقول: ونحن نذكر هنا أنه لا يجوز استدلالهم بقول أحد من الأنبياء أو الرسل على صحة دينهم، وأيضًا فإن الذين احتجوا بقولهم مثل موسى وداود والمسيح وغيرهم -يعني: أن دين النصارى حق-، إما أن يكونوا عرفوا أنهم أنبياء بدليل على نبوتهم[31]، كأنه يقول: ما أدراكم أن هؤلاء أنبياء؟ هو يرد عليهم الآن فيقول: أنتم تقولون: إن هؤلاء الأنبياء شهدوا لدينكم أنه حق، ما أدراكم أنهم أنبياء؟ هل عرفتم ذلك بالمعجزات أو أنكم قلتم قولاً بلا علم ولا دليل؟ وإما أن يكونوا احتجوا بذلك على المسلمين لأنهم يُسلمون بنبوة هؤلاء، وعلى كل تقدير لا يصح استدلالهم بقولهم.

يقول: أما على الأولى -يعني: المعجزات-: فلأنه أي طريق ثبتت بها نبوة واحد من هؤلاء الأنبياء -عليهم السلام-، فإنه تثبت نبوة محمد ﷺ بمثلها، وأعظم منها، وحينئذٍ فإن لم يقروا بنبوة محمد ﷺ، مع أن كل دليل يدل على نبوة موسى وداود وعيسى وغيرهم، يدل على نبوة محمد ﷺ، لزم أن يكونوا قد نقضوا دليلهم، لماذا أثبتم الدليل في موسى وعيسى -عليهما السلام- ولم تثبتوا نفس الدليل في محمد ﷺ الذي هو المعجزة؟ يقول: تكونون قد نقضتم دليلكم، فجعلتموه قائمًا مع انتفاء مدلوله، يعني: لما جئنا ووضعاه تجاه النبي ﷺ لم يدل، فصار هذا الدليل منتقضًا.

يقول: وإذا انتقض الدليل بطلت دلالته، فإنه إنما يدل إذا كان مستلزمًا للمدلول.

يقول: فإذا كان تارة يوجد مع المدلول، وتارة لا يوجد، لم يكن مستلزمًا له، فلا يكون دليلاً، فإن من جعل المعجزات دليلاً على نبوة نبي، وقال: المعجزة هي الفعل الخارق للعادة المقرون... إلخ، وهو تعريف المتكلمين الذي سبق الكلام عليه، وقلنا: إنه غير دقيق.

يقول: ونحو ذلك مما يذكر في هذا المقام، وجعلوا ذلك دليلاً على نبوة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، قيل له: إن كان هذا دليلاً فهو دليل على نبوة محمد ﷺ، وإن لم يكن دليلاً لم يكن دليلاً على نبوة موسى وعيسى، فإنه قد ثبت عن محمد ﷺ من المعجزات ما لم يثبت مثله عن غيره، ونقل معجزاته متواتر أعظم من نقل معجزات عيسى وغيره، فيمتنع التصديق بآياته مع التكذيب بآيات محمد ﷺ، وإن قالوا: معجزات محمد ﷺ لم تتواتر عندنا، قيل: ليس من شرط التواتر: أن يتواتر عند طائفة معينة، بل هذا كما يقول المشركون والمجوس وغيرهم: لم يتواتر عندنا معجزات موسى والمسيح -عليهما السلام-، وإنما تتواتر أخبار كل إنسان عند من رأى المشاهدين له، أو رأى من رآهم، وهلم جرًا... إلى آخر ما ذكر، وبدأ يرد عليهم بهذه الطريقة.

يعني: ذكر جميع الاحتمالات، ثم بعد ذلك بدأ يبطلها، يقول: حتى لو قلتم نحن نحتج بما جاء في القرآن مثلاً في نبوة عيسى، يقول: إذا كنتم لا تؤمنون أنه حق وقرآن، وأنه من عند الله فهذا دليل باطل، وإذا كنتم تقرون، فهذا دل على نبوة محمد ﷺ وناطق بذلك.

فالشيخ عجيب -رحمه الله- في إبطاله لأصول هذه الطوائف والفرق والأديان المحرّفة.

"ما أمر الله به أمرًا عامًا هو ما نقلته الأمة عن نبيها محمد ﷺ نقلاً متواترًا، وأجمعت عليه، مثل الأمر بشهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأنه أرسل إلى جميع الناس أميهم، وغير أميهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق من استطاع إليه سبيلاً، وإيجاب الصدق، وتحريم الفواحش والظلم، والأمر بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، هو ما يعرفه المسلمون معرفة عامة، ولا يحتاج الإنسان في معرفة ذلك إلى أن يحفظ القرآن، أو يتكلم بلغة العرب".

"إذا أوجب الله على العباد شيئًا، واحتاج أداء الواجب إلى تعلم شيء من العلم كان تعلمه واجبًا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

يعني: كأن يحتاج مثلاً إلى تعلم اللغة العربية، فيكون تعلمها واجبًا، وهكذا ما يقال بالنسبة لحفظ القرآن هل هو واجب؟ يقال: يجب عليه أن يحفظ من القرآن ما يقيم به صلاته، وهكذا هل يجب عليه معرفة التفسير والمعاني؟ يقال: يجب عليه أن يعرف من ذلك ما يتحقق به إيمانه، ويصح اعتقاده، بحيث عرف أن الله واحد لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وما أشبه ذلك.

وفي الأشياء المعينة بالنسبة للمعين، إذا كان يريد أن يتعامل في معاملات مالية معينة يجب عليه أن يتعلم أحكامها، وهكذا لكل ما هو بصدده.

"المضافات إلى الله نوعان: أعيان، وصفات".

هذه قاعدة ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله- في عدد من كتبه، وهي تحل إشكالات وتكون جوابًا لسؤالات لربما في أمور تلتبس على بعض الناس، أو تثار فتكون من قبيل الشبهات.

المضافات إلى الله نوعان: أعيان، والأعيان المضافة إلى الله هذه إضافة ملك، سواءً كانت هذه الإضافة عامة، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109] فكل شيء هو ملكه، فاللام هنا لِلَّهِ للملك؛ لأن اللام -كما هو معلوم- تأتي لمعانٍ، الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2] هذا اللام ليست لام الملك، وإنما لام الاستحقاق أو الاختصاص، وبعضهم يفرقون في اللامات على كل حال، فيقولون: إذا قيل مثلاً: إذا أضيفت ذات إلى ذات ليس من شأنها أن تملك، فذلك للاختصاص، كالمفتاح للباب، وإذا أضيفت معنىً لذات، فهذا للاستحقاق، الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2] وإذا أضيفت ذات لذات من شأنها أن تملك كان ذلك للملك، فهذه المضافات من الأعيان لله على نوعين: إضافة عامة، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109] فهذه إضافة ملك.

أو إضافة خاصة، كناقة الله، وبيت الله، وأرض الله، ونحو ذلك، فهذه كلها تكون من قبيل إضافة الملك، فهذه أعيان قائمة بنفسها، فكلها تكون من قبيل الأملاك لله -تبارك وتعالى-، وقد تكون حالاً قائمة بغيره، من هذه الأشياء القائمة بنفسها.

وهذه المضافات إلى الله -تبارك وتعالى- ما كان صفة قائمة بغيرها، ليس لها محل تقوم به، هذه هي الصفات، تقوم بغيرها، ليس لها محل، يعني: لا تقوم بنفسها، فإذا ذُكر لها محل تقوم به غير الله ، فهي صفة لذلك المخلوق، وإن كانت مضافة إلى الله -تبارك وتعالى- وليس لها محل تقوم به غير الله ، فهي صفة قائمة به، فهذا من قبيل إضافة الصفات، فحينما نقول: كلام الله، وسمع الله، وبصر الله، وحياة الله، وقدرة الله، وما أشبه ذلك، فهذه صفات له -تبارك وتعالى-.

"فالصفات إذا أُضيفت إليه، كالعلم والقدرة والكلام والحياة والرضا والغضب، ونحو ذلك، دلت الإضافة على أنها إضافة وصف له قائم به، ليست مخلوقة؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها، بل لا بد لها من موصوف تقوم به، فإذا أُضيفت إليه عُلم أنها صفة له".

كقوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] أضافه إليه، فهذه صفات لا تقوم بنفسها، فهي قائمة بالله : أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك[32]، فهذه من إضافة الصفات، أما الأعيان فبنوعيها: الإضافة العامة، أو الإضافة الخاصة، فإن ذلك من قبيل إضافة الملك، لا من قبيل إضافة الصفة.

"وأما الأعيان إذا أُضيفت إلى الله تعالى، فإما أن تضاف بالجهة العامة التي يشترك فيها المخلوق، مثل كونها مخلوقة، ومملوكة، ومقدورة، ونحو ذلك، فهذه إضافة عامة مشتركة، كقوله: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان:11] وقد يُضاف لمعنىً يختص بها يميز به المضاف عن غيره، مثل: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله، وروح الله، فهذه تقتضي التشريف والعناية، وأنها امتازت عن غيرها من الأعيان بما يناسب السياق".

هذه الأشياء التي تُضاف إلى الله -تبارك وتعالى- التي تكون من قبيل الأعيان، وأن ذلك من قبيل إضافة الملك، قلنا: يكون عينًا قائمًا بذاته، أو يكون حالاً، فحينما يقول الله : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص:72] أضاف الروح إليه، فهذه روح مخلوقة، و(من) هذه ابتدائية، والإضافة تدل على التشريف، روح مخلوقة، والله أخبر عن هذا في حق آدم ، وكذلك في حق عيسى نفخ فيه من روحه، فهذا كله لا يكون صفة لله ؛ لأن الصفة قائمة بالموصوف، والروح قائمة بهذا المخلوق، فآدم روحه قائمة به، وعيسى روحه قائمة به، فهذه لا تقوم بالله ، وإنما تقوم بالمخلوق، فهي مخلوقة، فتكون الإضافة من قبيل إضافة التشريف، هذه أنواع المضافات إلى الله ، فإذا جاء النصارى يحتجون بقوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص:72] يقال: الإضافة على نوعين.

 

 


 

  1. المنتخب من كتب شيخ الإسلام (ص: 317).
  2. جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم (2/ 216).
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 328).
  4. الخصائص (2/ 87) ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 441).
  5. منهاج السنة النبوية (6/ 386).
  6. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 128).
  7. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم (2492) وحسنه الألباني.
  8. أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن باب افتراق الأمم برقم (3993) وصححه الألباني.
  9. الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (2/ 699).
  10. أخرجه أبو داود في كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها برقم (3710) وابن ماجه في كتاب المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برقم (10) والترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأئمة المضلين برقم (2155) وصححه الألباني.
  11. أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن -رضي الله عنه- برقم (3430) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- برقم (4419).
  12. أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- برقم (4420).
  13. أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن -رضي الله عنه- برقم (3430) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- برقم (4419).
  14. أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة برقم (6282).
  15. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (1042) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".
  16. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من قاد دابة غيره في الحرب برقم (2652) ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين برقم (3326).
  17. دلائل النبوة ـ للبيهقى موافقا للمطبوع (2/ 278).
  18. أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم برقم (1763).
  19. أخرجه البخاري في كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لو كنت متخذاً خليلاً)) برقم (3668).
  20. منهاج السنة النبوية (6/ 139).
  21. مسند الفاروق ت إمام (3/ 97).
  22. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة برقم (4291) وصححه الألباني.
  23. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 98).
  24. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله برقم (2607).
  25. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله برقم (2607).
  26. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 439).
  27. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 428).
  28. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 429).
  29. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 429).
  30. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 430).
  31. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (2/ 43).
  32. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (486).

مواد ذات صلة