الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب استحباب كون ساقي القوم آخرهم شرباً.
وذكر فيه حديثاً واحداً وهو:
وورد فيه أيضاً غير هذا الحديث، كما في حديث أبي هريرة لما دعا رسول الله ﷺ أهل الصُّفة ليشربوا من اللبن في القصة المشهورة المعروفة.
فقال أبو هريرة في نفسه ما قال، ماذا عسى أن يكفي هذا اللبن، أو القدح من اللبن، وأهل الصفة كثير، عشرات، يزيدون وينقصون، ولما أداره عليهم قال له النبي ﷺ: اشرب أبا هر، فشرب، ثم قال له ثانية وثالثة، حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً[2].
فالشاهد أن النبي ﷺ جعله هو الآخِر، وهذا أدب من آداب الضيافة، وذكر بعض أهل العلم أنه يلحق به ما في معناه من الطعام والشراب، أي: أن الذي يدير الطعام والشراب على الناس أنه يتأخر عنهم، يدير عليهم التمر، أو الحلوى، أو نحو ذلك، يتأخر.
وهذا الأدب لا زال معروفاً عند الناس إلى اليوم أن الذي يقدم للناس يتأخر عنهم، وذلك لاشتغاله بإكرامهم، فيقدمهم على نفسه، وهذا هو اللائق، وخلاف ذلك يدل على الشره والحرص، وهي أمور مذمومة، إذا كان الذي يبذل للناس يبدأ بنفسه، فمثل هذا ما يليق.
وأخذ منه بعض أهل العلم أيضاً أن من يقوم على شأن من شئون الناس، وعلى مصلحة من مصالحهم أنه يقدمهم على نفسه، ويؤثرهم على نفسه، فهذا لمّا كان يقوم بهذه الخدمة لهم -أي السقي وهو أمر يسير- قدمهم على نفسه، فكذلك من يقوم عليهم في أمر من الأمور يؤثرهم على نفسه، إذا كان الإنسان مثلًا يرأس قسماً، يتقاسم فيه العمل مع زملائه، أو مع مرءوسيه، فإنه لا ينبغي أن يستأثر هو بما تميل إليه نفسه من العلوم التي يدرّسها، أو الأوقات التي يختارها، أو عدد الساعات، أو نحو ذلك، وإنما يقدمهم على نفسه، فيختارون، ثم بعد ذلك يكون هو الآخِر، هذا الأليق والأنسب.
يضع جدولا لزملائه، هو مكلف بهذا في المدرسة أنه يتولى قضية الجدول، جدول الاختبارات، أو جدول العام الدراسي، أو نحو ذلك لا يستأثر هو بالأوقات التي يميل إليها، ويترك البقية للآخرين، وإنما يقدمهم وينظر في حاجتهم ومصالحهم، وما هو أحب إليهم، ثم يؤخر نفسه بعد ذلك، لا يستأثر، وإلا فإن ذلك يدل على أنه ما نصح لهم، بل آثر نفسه عليهم.
والله المستعان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الأشربة، باب في الساقي متى يشرب (3/ 338)، رقم: (3725)، والترمذي، أبواب الأشربة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن ساقي القوم آخرهم شرباً (4/ 307)، رقم: (1894)، وابن ماجه، كتاب الأشربة، باب ساقي القوم آخرهم شرباً (2/ 1135)، رقم: (3434).
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 648)، رقم: (2477).