الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة غير الذهب والفضة أورد المصنف -رحمه الله-:
يقول: إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة: بمعنى الماء الذي يبيت يكون ذلك أبرد من جهة، وأصفى من جهة أخرى، كانوا يضعون المياه في قرب ونحوها، فالماء الذي يصب في القربة، ويستخرج من الآبار ونحوها لربما لا يخلو من شيء من الكدر يتحرك فيه وينتشر، فإذا بات صار ذلك في أسفله، ثم إنه إذا بات في شنة فإن ذلك يكون أدعى لبرودته، والشَنّة هي القِربة التي تكون بالية من كثرة الاستعمال، وهذه يكون ماؤها أبرد.
وإلا كرعنا: يعني نشرب بالفم، فهذا الحديث دل على جواز الشرب من القِرب، هذا من جهة، ودل على جواز الشرب بالفم لاسيما إن كان ذلك للحاجة.
يعني: يشرب بفمه مباشرة، وما ذكر من الكراهة أو نحو ذلك لا يكون تشبهًا بالحيوان إن وجد عنه مندوحة كالذي يجلس على بطنه، أو على أربع ويشرب بفمه من حوض ونحوه، فيكون متشبهاً بالحيوان، لكن في مثل القربة ونحو ذلك الشرب من فم القربة ورد النهي عنه سابقاً.
وسبق الكلام في الشرب من فم القِربة هل هو للتحريم أو لا، والمرأة التي دخل عليها النبي ﷺ وشرب من قربة معلقة عندها، وقلنا: إن ذلك أخذ منه بعض أهل العلم الجواز، وقيل: خاص به؛ لأن فعل النبي ﷺ يكون بركة في الشراب إلى آخر ما ذُكر.
الأصل أن النهي للتحريم، والحرير معروف، والديباج بعضهم يفسره بالحرير، وبعضهم يقول: إنه ما كان سَداه ولُحمته من الإبريسم.
السَّدى واللُّحمة: خيوط بالطول، وخيوط بالعرض، والسدى هذه الخطوط التي ينسج عليها، توضع خشبة مثلاً من جهتين فيها مثل المسامير، ويوضع فيها خيوط، ثم بعد ذلك ينسج على هذه، فتكون بعد ذلك قطعة من الحرير، أو نحو هذا.
فهذا السدى هذه الخطوط، واللحمة هو ما يلحم به، سواء كان من حرير، أو قطن، أو نحو هذا، فبعضهم يقول: ما كان سداه ولحمته من الإبريسم فهو الديباج.
قال: والشرب: يعني لا يجوز هذا للرجال، يوضحه الحديث الآخر أن النبي ﷺ أحلها لإناث أمته، ولم يحلها لذكورها[3].
فهنا قال: نهانا -أي: معشر الرجال- عن الحرير والديباج، إلا لحاجة طبعاً، كما أذن النبي ﷺ لبعض أصحابه لحكّة، ونحو ذلك[4].
قال: والشرب في آنية الذهب والفضة، ويلحق به أيضاً الأكل، وقد جاء هذا أيضاً في بعض الروايات كما سيأتي، الأكل والشرب بمعنى واحد لا فرق في آنية الذهب والفضة، فيدخل فيه الإناء، ويدخل فيه ما يؤكل به مثل الملاعق، والشوك، والسكاكين، ويدخل فيه أيضاً الكأس الذي يشرب به، ويدخل فيه الإناء الذي يوضع فيه الشراب، ويدخل فيه أشياء كثيرة جدًّا، وألحق به أهل العلم ما كان للاستعمال كالمِكحلة، والمِبخرة، والمِعطرة التي يرش فيها العطر، وما إلى ذلك من الأشياء التي تلحق بهذا، فهذا حرام لا يجوز، وهو محرم أيضاً على النساء يعني: آنية الذهب والفضة لا تحل للنساء، وما ألحق بها في باب الآنية.
هنا ذكر الذهب والفضة، والأواني الثمينة الأخرى آنية من جواهر ثمينة، من معادن نفيسة غير الذهب والفضة؟، يجوز، لكن ذلك لا يحسن، ولا يجمل لما فيه من الإسراف والترفع.
قال: هي لهم في الدنيا، يعني: الكفار يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ [محمد:12]، وهي لكم في الآخرة، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [الإنسان:15-16].
فهذه آنية أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهلها-، فهذه في الآخرة، وابن القيم -رحمه الله- يقول: إن التمتع بهذه المحرمات في الدنيا يكون نقصاً في حظ العبد في الآخرة.
فالذي يشرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا لا يشرب بها في الآخرة، كأنه يقيس هذا على الخمر أن الذي يشربها في الدنيا لا يشربها في الآخرة، وهذا فيه نظر -والله تعالى أعلم؛ إذ إن هذه الأمور لا يدخلها القياس، هذه من الأمور الغيبية.
يقول: وهي لكم في الآخرة متفق عليه.
يُجرجِر: تفسر بـ يُلقِي في بطنه، لكن فيها معنى زائد على مجرد الإلقاء؛ لأن جرجر أصلها من الجر، وكأنه يسحب شيئًا، وإذا تكررت الحروف في كلمة فإن ذلك يدل على تردد في المعنى، مثل زلزل، وجلجل، وصلصل، يدل على تحرك في المعنى، تردد في المعنى، يتزلزل، يتجلجل، تزلزلت الأرض، أكثر من حركة، ليست مجرد حركة، فهنا يجرجر، الجرة الواحدة لا يقال لها: جرجرة.
فهذا الذي يشرب بآنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، هذا كقوله -تبارك وتعالى- في الآية التي سمعتم آنفًا في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]؛ لأن مآل ذلك في الواقع إلى هذا، إلى النار، فهذا الذي يأكل في آنية الذهب والفضة هو في الواقع كأنه يأكل ناراً.
ويحتمل أن يكون كأنما يُجرجِر في بطنه نارُ -بالرفع- جهنم، هذه الأولى نارَ مفعول به، فهو يجرجرها، هنا نارُ جهنم، يعني: هي التي تجرجر في بطنه، والأول هو المشهور والأقرب، والله تعالى أعلم.
وفي رواية لمسلم: إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب، أو الفضة[6]لاحظ في هذه الرواية ذكر الأكل والشرب، نص عليه، مع أنه في معناه.
وفي رواية له: من شرب في آنية ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم[7]، وهو بمعنى ما قبله، لكنه أوضح، "ناراً" هنا لا يحتمل إلا المعنى الأول أنه يجرجر النارَ، النار مفعول به.
وهنا ذكر الأكل والشرب، وما ذكر وجوه الاستعمال الأخرى التي أشرتُ إليها آنفاً.
فيقال: ذُكرت لأنها غالب وجوه الانتفاع، كون غيرها لم يذكر كالكحل مثلاً ونحوه إذا وضع في هذه الأدوات والحاويات، وما إلى ذلك فإنه في نفس الحكم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب شوب اللبن بالماء (7/ 110)، رقم: (5613).
- أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب الشرب في آنية الذهب (7/ 112)، رقم: (5632)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجل، وإباحته للنساء، وإباحة العلَم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع (3/ 1637)، رقم: (2067).
- أخرجه الترمذي، أبواب اللباس عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الحرير والذهب (4/ 217)، رقم: (1720)، وابن ماجه، كتاب اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء (2/ 1189)، رقم: (3595).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرير في الحرب (4/ 42)، رقم: (2919)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها (3/ 1646)، رقم: (2076).
- أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب آنية الفضة (7/ 113)، رقم: (5634)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء (3/ 1634)، رقم: (2065).
- أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء (3/ 1634)، رقم: (2065).
- أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء (3/ 1635)، رقم: (2065).