الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب استحباب القميص، والقميص عرفنا أنه يطلق على هذا الذي نلبسه، وإن اختلفت أشكاله وصوره، لكن هذه حقيقته.
ومن هنا أخذ المصنف -رحمه الله- الاستحباب، فكان النبي ﷺ يحبه، مع أن هذه القضية هي من أمور العادات، وما يتصل بالعادات يتنوع وينقسم إلى أقسام:
فمنه ما فعله النبي ﷺ على سبيل الجبلّة المحضة، كالأكل والشرب من حيث هو، والذهاب إلى الخلاء، ونحو ذلك، من حيث هو، إذا لم يُعلم أنه يُؤْثر شيئاً بعينه، فمثل هذا لا يكون محلا للاقتداء، يعني: أن المكلف غير مطالب بذلك.
وابن عمر -رضى الله عنهما- كان يحرص أن يقتدي بالنبي ﷺ في كل شيء حتى إنه يجتهد في وضع أقدام راحلته في المواضع التي مرت بها ناقة رسول الله ﷺ.
وكان إذا مر بمكان ذهب النبي ﷺ فيه إلى الخلاء ذهب إليه، ومثل هذا لا يطالب المكلف به.
ولم يكن الصحابة يفعلون هذا إلا ما نقل عن ابن عمر، فهذا نوع ما كان على سبيل الجبلّة المحضة.
النوع الثاني: ما كان من قبيل العادة المحضة، لم يكن النبي ﷺ يُؤْثره، مثل لبس الإزار والعمامة، فهذا من قبيل العادة المحضة، فما يأتي إنسان الآن ويقول: أريد أن ألبس إزارًا وعمامة، فمثل هذا يُراعَى فيه العرف؛ لئلا يكون ذلك من قبيل لباس الشهرة، لكن النبي ﷺ كان يلبس اللباس الذي يلبسه الناس آنذاك، إزار، رداء، عمامة، وما شابه ذلك.
النوع الثالث: ما علم أن النبي ﷺ يؤثره سواء كان من المطعومات، أو من اللباس، أو نحو ذلك من الطعام، كان يتتبع الدُّبّاء[2].
ولهذا وجد من الصحابة من كان يتتبعه؛ لأن النبي ﷺ كان يتتبعه، والدُّبّاء معروف.
ومن الثياب القميص، هذا كان النبي ﷺ يحبه، فمثل هذا إذا فعله المكلف لأن النبي ﷺ يحبه فإذن ذلك يكون من قبيل الاتباع، وإن لم يطالب به شرعًا، يعني: لم يكن ذلك من قبيل التعبدات، وإنما من قبيل العادات، قميص، أكل معين، كان يحب الحلو البارد[3]، يأكل القثّاء بالرطب[4]إلى آخره فإنْ فعله لأن النبي ﷺ يحبه، يعني: ما فعله اتفاقاً، فمثل هذا يؤجر المكلف عليه، لكن لا يطالب الناس به؛ لأن النبي ﷺ إنما يؤثر ما كان أكمل من المطعومات والملبوسات، وما شابه ذلك، فيحب ما أحبه رسول الله ﷺ.
نوع آخر: هو ما كان قد فعله النبي ﷺ على سبيل التعبد والتقرب إلى الله، فهذا هو العمل المشروع الذي طولبت الأمة بالاقتداء به ﷺ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ [الأحزاب:21]. في صبره، وجهاده، وعبادته صلاته وصيامه، وغير ذلك.
فهذه أقسام تقرب هذا الباب الكبير، وهو ما يؤثر عن النبي ﷺ من الأعمال، ما الذي يقتدى به، وما الذي لا يطالب المكلف بالاقتداء به.
وتبقى بعض الأمور مترددة، مثل: الخاتم، هل فعله النبي ﷺ للحاجة من أجل الختم؟ أو فعله النبي ﷺ للزينة؟ فهل يقتدى به؟ هل يقال: من السنة أن يلبس الإنسان الخاتم؟.
- أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص (4/ 43)، رقم: (4025)، والترمذي، أبواب اللباس عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في القمص (4/ 237)، رقم: (1762).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ذكر الخياط (3/ 61)، رقم: (2092)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز أكل المرق، واستحباب أكل اليقطين، وإيثار أهل المائدة بعضهم بعضا وإن كانوا ضيفانا إذا لم يكره ذلك صاحب الطعام (3/ 1615)، رقم: (2041).
- أخرجه الترمذي، أبواب الأشربة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أي الشراب كان أحب إلى رسول الله ﷺ (4/ 307)، رقم: (1895).
- أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الرطب بالقثاء (7/ 79)، رقم: (5440).