الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي آداب المجلس والجليس، أورد المصنف -رحمه الله:
قوله: إذا قام أحدكم من مجلس، ثم رجع إليه، فهو أحق به، بمعنى: أنه قام منه لعارض، أو لحاجة، ويريد الرجوع إليه، سواء ترك ما يدل على ذلك، أو لم يترك، أي: أنه ترك شيئًا من متاعه، أو لباسه، أو نحو ذلك، أو لم يترك، فإنه أحق بهذا المكان، كأن يخرج مثلًا من المسجد؛ ليتوضأ، أو نحو هذا، فإنه أحق، بمعنى: لو جلس أحد فيه، فطالبه بالقيام، فإنه محق بذلك، ويلزم ذلك أن يقوم.
أما من خرج عن المجلس لا بنية الرجوع إليه، خرج بعد أن فرغ من جلوسه هذا من المسجد، أو من مجلس من المجالس، لا بنية الرجوع، ثم بعد ذلك جاء في وقت آخر فليس له حق في هذا المجلس.
وأما من يعمد إلى مكان فيه من أجل أن يحجزه، ويضع فيه شيئًا يحول دون الآخرين، أو دون الجلوس، فإن هذا لا يجوز، وهو من التعدي، والظلم، والتحجر لشيء لا يملكه، ففي المسجد مثلًا: يأتي الإنسان قبل الجمعة مثلًا، أو بعد صلاة الفجر، ويضع شيئًا في الصف المقدم، فهذا لا يجوز، أو يأتي لمجلس العلم قبل ذلك، فمثلًا: المجلس بعد صلاة العشاء، فيصلي العصر في هذا المسجد، أو يوصي أحدًا، ثم يضع شيئًا، أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز، إنما يكون ذلك لمن سبق، فمن سبق إلى مجلس فهو أحق به، وهكذا من يستأجر أحدًا، وهذا يقع في المسجد الحرام، ولربما في المسجد النبوي في أوقات الزحام، والاعتكاف، ونحو ذلك في رمضان، فيأتي الإنسان ويستأجر آخر، يأتي بإنسان من هؤلاء الفقراء، ويقول له: أنا أعطيك خمسين ريالا، أو أعطيك مائة ريال، واحجز لي هذا المكان، في هذا المسجد، عند هذا العمود، في هذه الزاوية، هذا المكان الذي لربما الناس يقصدونه، فيضع له شيئًا يتحجره به، ويجلس هذا الإنسان فيه، حتى يأتي ذاك بعد يوم، أو بعد يومين، أو نحو هذا، فهذا لا يجوز، فهذا تحجر ما لا يحل، وهكذا في أبواب من التحجر الذي لا يحل للناس، يأخذ مصحفًا من المسجد، وهي: مصاحف وقف، فيضع عليه خرقة أو لفافة، ويمنع الناس من القراءة فيه، هذا لا يجوز؛ لأنه لا يملك ذلك، لكن لو أحضر معه مصحفًا يملكه، وجاء به من بيته، فلا بأس أن يضع ذلك في قماش، أو يضع عليه شيئًا يدل على اختصاصه به.
والحديث ثابت عن النبي ﷺ، هذا من آداب المجلس.
وقوله: "إذا أتينا النبي ﷺ جلس أحدنا حيث ينتهي" يعني: حيث ينتهي المجلس، هذا من الأدب، لا أن يأتي الإنسان -كما سيأتي- ويفرق بين اثنين، أو أن يأتي ليزاحم الناس، ويضيق عليهم في الجلوس، فيتأذون به، أو أن يقيم أحدًا من مكانه؛ ليجلس فيه، وإنما يجلس حيث ينتهي المجلس، هذا هو الأدب اللائق، لكن لو أن الناس تفسحوا له، أو قام أحد؛ ليجلس في مكانه، قام من نفسه؛ إكرامًا له، أو نحو ذلك، فهذا لا إشكال فيه، ومضى أثر ابن عمر -ا- أنه كان لا يجلس في مكان قام أحد منه له[2]؛ تورعًا، لكن ذلك لا بأس به، على كل حال، فهذا من الآداب في المجالس: أن يجلس الإنسان حيث ينتهي المجلس.
ويوم الجمعة الأصل: أنه يبدأ من طلوع الفجر.
ويتطهر ما استطاع من طهر، هذا تابع للذي قبله، وهو: الاغتسال للجمعة، بمعنى: أن هذا الاغتسال يكون على مرتبتين من حيث الكمال:
المرتبة الأولى: أن يعمم الماء سائر الجسد بنية الطهارة، ويتمضمض، ويستنشق، فيجزيه ذلك عن الوضوء، ويكون ذلك من قبيل الغسل المجزئ، وهو: غسل شرعي لصلاة الجمعة.
الصورة الثانية هي: أن يتوضأ وضوءه للصلاة، ويعمم الماء، فهذا أكمل من الاكتفاء بالمضمضة والاستنشاق مع تعميم الماء.
قال ﷺ: ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، قوله: يدهن من دهنه، يعني: مثل دهن العود، والعنبر، والورد، وما أشبه ذلك، ولا يختص ذلك بالدهون، أو بالعطور المصنعة من هذا، بل لو تطيب بأي نوع من الطيب فإن ذلك يتحقق به المقصود.
قال: أو يمس من طيب بيته، يعني: قد لا يختص به، قد يكون لأحد أولاده، أو قد يكون لأحد نسائه، أو نحو ذلك، وهنا يرد كلام في مسألة التطيب بالعطور النسائية، هل يدخل ذلك في التشبه أو لا؟.
يقول: ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين يعني: في المجلس، وليس المقصود بذلك: أنه إذا وجد فرجة في المسجد أنه لا يجلس فيها حتى لا يفرق بين اثنين، إنما المقصود بذلك: أنه لا يفرق بين اثنين بينهما حديث، أي: اثنان يتحدثان، فجاء هذا الإنسان، ودخل بينهما، وجلس، فهذا لا يجوز، لا في المسجد، ولا في غير المسجد، وسيأتي ما يوضح ذلك صراحة.
قال: فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، وهنا لم يحدد، ووقت الجمعة مفتوح للصلاة، فلو أنه جاء مثلًا في الساعة العاشرة، وجلس يصلي حتى صعد الخطيب، فلا إشكال في هذا، يصلي ما كتب له، ولو أن الناس استغلوا هذا الوقت في الصلاة لكان خيرًا؛ لأن النبي ﷺ قال عن ساعة الجمعة التي يستجاب فيها الدعاء: لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله شيئًا، إلا أعطاه[4]، فقال: يصلي، فهذا يمكن أن يحمل على ظاهره بهذا الاعتبار، لاسيما على قول من قال: إنها بين يدي صعود الخطيب على المنبر، فيجلس يصلي، ويدعو في سجوده، وقبل السلام، ويمكن أن يقرأ سورة الكهف في صلاته، بدلًا من أن يقرأها وهو جالس، يقرؤها وهو يصلي في هذا الوقت، ما يضرك؟.
قال: ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى رواه البخاري.
يعني: بهذه الشروط: الاغتسال، والطيب، ثم يخرج لا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت، هذه خمسة أشياء إذا تحققت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى.
ولو كنا نستشعر مثل هذه المعاني في هذه الأعمال اليسيرة لصرنا ننتظر يوم الجمعة متى يأتي، ولكنّ الكثيرين يشعرون لربما أن يوم الجمعة ثقيل على قلوبهم، بل لربما بعضهم يقول: إنه يكتئب في يوم الجمعة -نسأل الله العافية، والسبب: أنهم لا يستشعرون ما في هذا اليوم العظيم من الفضائل، والمعاني العظيمة، فهو خير أيام الأسبوع، لكنها الغفلة الغالبة.
فقوله: لا يحل بمعنى: أنه يحرم، إلا بإذنهما، جاء في مجلس من المجالس، والناس يتحدثون، كل رجل مع صاحبه يتحدث، والمجلس مليء، أو أنت تريد أن تجلس مع هؤلاء؛ لأنك تعرف هذا وهذا مثلًا، وهم يتحدثون، فليس لك أن تجلس إلا بإذنهما، هل تأذنون أن أجلس هنا؟ أمّا أن يأتي هكذا، ويدخل، فهذا لا شك أنه لا يكون محبذًا ومحبوبًا في نفوس الناس، والناس يستثقلون هذا، ولا يُنبئ ذلك عن كمال الأدب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرجل يجلس بين الرجلين بغير إذنهما، رقم: (4844)، و(4845)، والترمذي، أبواب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية الجلوس بين الرجلين بغير إذنهما، رقم: (2752)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (2/ 1268)، رقم: (7656).