الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه المجالس التي نتدارس فيها هذه الرسالة في "أصول التفسير"، وقبل الشروع في قراءتها والتعليق عليها أذكر بعض المقدمات التي قد يحتاج إليها طالب العلم في هذا الفن، ابتداءٍ من تعريفه بذكر غايته، وفائدته، وأهميته، ثم الكلام بعد ذلك على نشأته، فأقول:
أولاً: تعريف هذا العلم:
فيما يتعلق بهذا الفن علوم القرآن لست بحاجة إلى الكلام على الألفاظ التي يتركب منها هذا العنوان (علوم القرآن)، ولكن يمكن أن يقال: بأن علوم القرآن على سبيل التقريب: هو علم يحوي أبحاثًا كلية تتعلق بالقرآن من وجوه شتى، أو من نواحي شتى، يمكن أن يعتبر كل واحد منها علمًا قائمًا بنفسه، فنقول مثلاً: المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ، أسباب النزول، إلى غير ذلك، فهذا العلم يتركب منها جميعًا، ويمكن أن نعتبر كل واحد علمًا قائمًا بنفسه، ولذلك تجد العلماء يفردون هذه العلوم بمصنفات، فبعضهم ألف في أسباب النزول، وبعضهم ألف في الناسخ والمنسوخ، وبعضهم ألف في القراءات، وبعضهم ألف في الأحرف السبعة كما لا يخفى.
بل أن كتاب علم الدين السخاوي -رحمه الله- كما سيأتي هو عبارة عن مؤلفات أو رسائل مفرقة في علوم القرآن، ثم بعد ذلك ضمها في كتاب واحد وسماه: (جمال القراء وكمال الإقراء) فجاء في مجلدين.
ثانيًا: موضوع هذا العلم:
أما الموضوع الذي يتعلق به فهو القرآن من نواحي مختلفة، فإذا نظرت إلى أسباب النزول، فإن علوم القرآن تتعلق بها تعلقًا ظاهرًا، وإذا نظرت إلى ما يرد من النسخ والرفع لبعض أحكامه، أو لبعض آياته فإن علوم القرآن تحوي ذلك، وهكذا إذا نظرت إلى أماكن النزول: فالمكي والمدني، وأوقات النزول: الليلي والنهاري، وأحوال النزول، وأماكن النزول: فالحضري والسفري، والسمائي والأرضي، كما يعبرون، فالمقصود أن هذه العلوم ترتبط بالقرآن دونما سواه.
ثالثًا: فائدته:
من فوائد هذا العلم:
أولاً: يعين على فهم القرآن: ولهذا سمى السيوطي -رحمه الله- هذه الرسالة بــ "أصول التفسير"، فالأصل هو الذي يبنى عليه غيره، فالذي يتعلم هذه الأصول تعلم هذا العلم يكون لديه القدرة بإذن الله على النظر والاستنباط والتفسير والفهم إذا اجتمع إلى ذلك أمور أخرى لا بد من تحققها، ولهذا فإن هذا العلم هو عبارة عن أوزاع جُمعت وقربت لطلاب العلم من كتب أصول الفقه، ومن كتب اللغة، وجُمع ذلك من مقدمات بعض كتب التفسير، إلى غير ذلك من المصادر التي يجمع منها العلماء الذين ألفوا في هذا الفن، فبعضهم يستنبط من النصوص من الأحاديث والآثار أشياء تتعلق بعلوم القرآن، وأصول التفسير.
وبعضهم ينقل ما جمعه غيره في كتب الفنون المتنوعة فيأخذ من أصول الفقه مثلاً: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، وما شابه ذلك، ويأخذ من كتب اللغة: الكلام على الحقيقة والمجاز، والمشترك والمترادف والمتواطئ، وما يتعلق بالبديع والمعاني، إلى غير ذلك.
ويأخذون من مقدمات بعض كتب المفسرين يأخذون أشياء تتعلق بأسباب اختلاف المفسرين، الموضوعات التي يدور عليها القرآن، فجمعت هذه الأشياء، ووضعت في مكان واحد، وقربت لطالب العلم، ولو لم يوجد مثل هذا لاحتاج الإنسان أن يدرس الفنون المختلفة من أجل أن يجتمع له أشياء من هذه التفاريق المبثوثة في كتب العلوم المختلفة، وهذا لا شك أنه من تيسير الله ، ومن أيضًا حسنات علمائنا علينا حيث قربوا لنا البعيد، وجمعوا لنا المتفرق في كل شيء، فصارت العلوم سهلة قريبة يستطيع الراغب فيها أن يتوصل إلى مطلوبه بأدنى كُلفة، ولا أريد أن استطرد في هذا، لكن بلغ من جمعهم أن بعضهم جمع الجمل البليغة التي لا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يعافس الكتب، ويشتغل بها العقود، ولا أقول: يبقى السنين يقرأ فيها بل يبقى عقودًا، وهو يدمن النظر في هذه الكتب المختلفة في اللغة وما شابه ذلك فيصل إلى بعض الجمل ويكون لديه ملكة في التعبير، وقوة أدبية وما شابه ذلك، فجمع بعضهم هذه الأشياء المتفرقة ووضعها في كتاب حتى أن بعضهم قال: "وددت أن صاحب هذا الكتاب قطعت يده"، لأنه جمع -في نظره- للبطالين ولخاملي الهمة ما تنقضي الأعمار في تحصيله ما يحصل للإنسان إلا بعد جهد ومكابدة للكتب وللعلم فجمعها في كتاب سماه: "كتاب الألفاظ الكتابية"، مطبوع لربما يعزف عنه أكثر الناس، وهكذا في كتاب "جواهر الألفاظ"، وما شابه ذلك، فالمقصود أن هذا العلم جمع من أجل أن يستعين به طالب العلم؛ ليحصل له بذلك القدرة على النظر في التفسير.
ثانيًا: دراسة هذا العلم تعرفنا بتاريخ القرآن، والملابسات التي صاحبت نزوله: فهذا القرآن بعضه نزل في مكة وبعضه نزل في المدينة، وبعضه نزل على أسباب معينة وأحداث وسؤالات وجهت إلى النبي ﷺ، وغزوات وأسفار، وأحيانًا في الحضر، فيعرفنا على ذلك.
ثالثًا: أنه يجعل الدارس لهذا العلم والعارف به راسخ القدم متمكنًا يستطيع بإذن الله أن يدفع الشبهات التي لربما يقع في شِراكها غيره: ولذلك نحن نجد الكثيرين ممن ليس لهم دراسة لكتب العلم بطريقة صحيحة مؤصلة حينما يأتي هؤلاء ويدخلون بعض المواقع في حوارات مع بعض أهل البدع والضلالات مثلاً، يقولون لهم: أنتم تقولون بتحريف القرآن، فيقولون: لسنا نقول بتحريف القرآن؛ بل يوجد في كتبكم أشياء وفي صحيح البخاري وكذا، ويأتون له ببعض الآيات المنسوخة لفظًا مثلاً: والشيخ والشيخة إذا زنيا[1]، أو أن سورة الأحزاب كانت بقدر كذا[2]؛ فيبقى هذا الإنسان متحيرًا، فبعض الناس عَمِد إلى جمع الشبه التي يفترضها ذهنه أو لربما يقتنصها ويجمعها من كتب المستشرقين، وبعض هذه الشبه لربما لم يسمع بها عامة الناس ولم يقرءوها ولم يطلعوا عليها فهي خاملة في بعض المذكرات التي كتبها المستشرقون، فللأسف جاء من يجمع هذه ويضعها في الكتب التي تدرس للطلاب في الجامعات والمعاهد حتى وصل الأمر إلى حد لربما يزيد على مائة شبهة في كتاب واحد، بل لربما أفردت بعض الكتب في الشبهات التي تثار حول القرآن؛ وهذا خطأ، ومنهج السلف واضح في منع عرض الشبه من حيث الأصل وألا تسمع، وألا يشتغل بها، وألا يرد عليها إلا في حالات محددة معينة كما إذا كانت الشبهة غالبة، وذاعت انتشرت، أو إذا عرضت في مجلس فلا بد من دفعها، أو سأل من يريد أن يعرف الحق ويسترشد ولا يريد المجادلة ولا يريد التلبيس؛ فهنا يجاب عليه بأقرب طريق، ولا يجيب فيه هذه الحالات الثلاث إلا من كان متمكن راسخًا في العلم، والذي نشاهده عكس هذا في الغالب شباب لربما في المرحلة الثانوية يدخلون في مواقع ويردون على الطوائف من النصارى، أو من أهل البدع فيقعون في شراكهم، فالطريقة الصحيحة لا تكون بدراسة الشبه، وإنما تكون بدراسة العلم، فإذا درس الإنسان العلم دراسة صحيحة فوردت عليه الشبه فإنه يستطيع أن يدفعها، لكنها إذا أبرزت الشبهة ودرست على حدة فإن ذلك يضخمها ويفخمها في النفوس، وقد لا يتمكن الإنسان من إخراجها من قلبه، قد تعلق به ولا يستطيع دفعها، كما أنه أيضًا قد يحصل لمن يدفع هذه الشبه أو يرد الشبه شيء من التقصير والضعف؛ ولهذا اتهم بعضهم الفخر الرازي بأنه أراد الدس في الإسلام؛ لكثرة ما يعرض من الشبهات التي يعرضها بصورة محكمة قوية ثم يرد عليها في غاية الوهاء والضعف، حتى قال بعضهم: "إنه يعرض الشبهة نقدًا ويرد عليها نسيئة"[3]، والتمس له بعضهم العذر بأنه من شدة تحريه وطلبه لكل طريق يمكن أن يحتج به المخالف من أجل أن يرد عليه ولا يترك له أدنى حجة يمكن أن يتمسك بها، فكان يجمع ما يمكن أن يتشبث به صاحب الهوى المبطل، ثم بعد ذلك يكون قد استنفذ طاقته وتعب حينما يقرر الشبهة، فإذا جاء الرد يكون قد ضعف، وكان يقول عن نفسه: "إنه يعرض الشبهة بطريقة يعجز أصحاب المذهب المنحرف عن تصويرها بما يصورها به"، من شدة حرصه على ألا يبقى للخصوم أدنى مستمسك.
وقد رأيت لبعض هؤلاء بعض من كتب أن يرد بردود في غاية السوء، يقول مثلاً يرد على شبهة لماذا القرآن السور المكية آياتها قصيرة؟ والسور المدنية آياتها طويلة؟، فيذكرون شبهة في هذا لكن يأتي هذا ويرد يقول: خطاب الأذكياء يختلف عن خطاب غيرهم، فلما كان أهل مكة أهل ذكاء وألمعية والحر تكفيه الإشارة، كثيرة بخلاف أهل المدينة هذا رد! يتهم الأنصار بالغباء، ثم أنه من المعلوم أن الذين كانوا بمكة هاجروا إلى المدينة حتى أن المهاجرين صاروا أكثر من الأنصار كما هو معروف، ثم إن سورة الأنعام من السور المكية، وسورة الأعراف من السور المكية، فهو لا يتخيل أن السور المكية إلا مثل سورة: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [النبأ:1]، أو السور قصيرة الآيات هذا غير صحيح.
وهكذا أيضًا يوجد وهذا من أهم الأشياء عند طالب العلم الملكة التي يستطيع بها بأذن الله أن يميز ويفهم ويكون له بصر لهذا العلم ودراية، بخلاف من يأتي ويقرأ في كتب التفسير فقط دون أن يكون له أصول ينطلق منها، فإنه بهذه القراءة سرعان ما ينسى، ولا يستطيع أن يميز بين هذه الأشياء التي يقرأها، ولا يستطيع أن يرجح ولا يختار، وبهذا نعرف أهمية هذا العلم فهو ميزان وأصول وأسس يمكن أن ينطلق منها طالب العلم ويبني عليها البناء العلمي، فإن البناء أن لم يكن على أصول فإنه لا ثبات له، وبهذا يحصل لهم انضباط في الفهم؛ لأنه جرى على أصول فلا يتناقض، ولا يتخبط في طلب تقريره للمسائل فيناقض ما ذكره في موضع من المواضع يناقضه في الموضع الآخر، فيحصل له انضباط، كما نقول: بأن الذي يدرس علم العربية يفهم بهذه الدراسة النصوص الكلام العربي، وأيضًا ينضبط لسانه من اللحن، واللحن في الكلام كما قيل: كالجدري في الوجه، لكن من الذي يعرف هذا الذي عنده حس وذوق.
بعض الناس يعجب بخطبة أو محاضرة ويتأثر ويبكي وإذا سمعت المحاضرة هذه أو الخطبة تجدها لحون من أولها إلى آخرها، فاللسان ينضبط بالعربية دراسة النحو، كما أن الاستنباط الفقهي يحتاج الإنسان إلى دراسة أصول الفقه، وهكذا مصطلح الحديث إذا درسه طالب العلم يستطيع أن يميز بين الحديث الصحيح والضعيف، ويفهم كلام أهل العلم في هذه القضايا، فنحن إذا درسنا هذا العلم نميز بين صحيح التفسير وفاسده، والجيد من الأقوال والرديء، وكيف نجمع بين الأقوال الصحيحة التي يمكن أن تجتمع، كل هذا يمكن أن يحصل بإذن الله -تبارك وتعالى- وتوفيقه.
رابعًا: غاية هذا العلم:
غاية هذا العلم القريبة ما يسميه الناس اليوم الهدف، الهدف القريب هو فهم النص القرآني، والقدرة على التعامل مع أقوال المفسرين، والهدف البعيد إذا صار الإنسان عنده قدرة على فهم النص القرآني، وقدرة على التعامل مع أقوال المفسرين، متى يجمع بين هذه الأقوال؟ متى يرجح؟؛ فإنه يتوصل بذلك إلى الفهم الصحيح، والعمل الذي يرضاه الله -تبارك وتعالى- عنه، وبهذا تحصل له النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.
هذه بعض المقدمات الخفيفة التي تذكر بين يدي العلوم، أشرت إلى هذه القضايا المتعلقة بها.
خامسًا: نشأة هذا العلم:
ومما يتبع هذه المقدمات الكلام على نشأة هذا العلم، وقد رأيت عامة من يكتب في هذا العلم أو من يتكلم فيه ينقل بعضهم عن بعض، فيذكرون أشياء يتناقلونها وقد يكون بعضها غير صحيح، بل رأيت الخطأ يقع حتى في نقل تواريخ الوفيات ينقل حتى بالأخطاء التي وقع فيها من ينقلون عنه كثيرًا، فنحن مثلاً إذا نظرت في الكتب المؤلفة في علوم القرآن كثير منها ينقل بعضهم عن بعض، يعني حتى إذا نقل عن متقدم فإن الكثيرين ينقل عنهم بالواسطة، بل رأيت من هذا بالمقارنة أشياء عجيبة، فتجد أحيانًا أن "النقل" يُنقل ويَنقل كلام من نَقل كلام ذلك العالم، وعقب عليه بتعقيب فينقل ذلك جميعًا على أنه من كلام العالم المتقدم، وهو من تعليق هذا، فينقل هكذا، ثم يأتي آخرون وينقلون عن هذا الأخير، ولا يميزون بين كلام هذا ومتى انتهى، وكلام الآخر، فلذلك تجد أشياء تذكر لا أظن أنها صحيحة بحال من الأحوال، ولهذا أقول على سبيل الإيجاز: إذا نظرنا إلى القرون الأولى القرن الأول وقسمناه إلى العهد النبوي يمكن أن نقول: بأن النبي ﷺ الناس في زمانه الصحابة كان يقرأ عليهم القرآن ويبين لهم ما يحتاجون إلى بيانه من القرآن، ولا يحتاجون إلى بيان كل شيء لأنهم عرب خُلَّص وعندهم من السليقة ما ليس عند غيرهم، ولهذا ما احتاجوا إلى دراسة أصول الفقه، ولا إلى علوم القرآن، فلماذا يدرسون أسباب النزول وهم يعيشون مع النبي ﷺ، ويرون القرآن يتنزل صباح ومساء، لماذا يدرسون المكي والمدني مثلاً، وهم يعايشون النبي ﷺ، ويسافرون معه، ويقيمون معه، ويعرفون أين نزل القرآن، كما قال ابن مسعود : ما من آية إلا ويعلم متى نزلت؟ وأين نزلت؟ وأنه لو يعلم أحدًا أعلم منه بكتاب الله تبلغه المطايا لرحل إليه.[4].
فكانوا يعرفون هذه الأشياء جميعًا، يعرفون أن هذه الآية نزلت ثم نسخت الآية الفلانية، ويعرفون أن هذه الآية نزلت في مكة، وهذه الآية نزلت في المدينة، أو أن هذه السورة نزلت في مكة، وهذه السورة نزلت بالمدينة.
فهذه القضايا كانت بالنسبة إليهم قضايا تحصل بالمعايشة، ومنها ما يحصل بالسليِقة ولا يحتاج أن يدرس مثلاً غريب الألفاظ، وهذا باب من علوم القرآن، ولا يحتاجون إلى دراسة أبواب تتعلق بالحقيقة والمجاز عند القائل بالمجاز؛ لأن هذه بالنسبة إليهم هي من صميم لغتهم التي يتخاطبون بها، إلى غير ذلك من الموضوعات.
القراءات كان النبي ﷺ يقرئهم يُقرئ كل أحد بحروف قد لا يقرأ بها آخرين.
فالحاصل أن هذه الأمور بالنسبة للصحابة ما احتاجوا فيها إلى علوم مدونة كما نحتاج إليه اليوم، الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي النبي ﷺ كانوا يكتبونه فيما تيسر لهم من العُسُب واللخاف والأكتاف وما شابه ذلك، ثم بعد ذلك بعد النبي ﷺ جاء أبو بكر ، ووقعت حروب الردة فقتل كثير من القراء، واستحرّ القتل فيهم في وقعة اليمامة، وقتل سبعون من القراء -رضي الله عنهم وأرضاهم-، فأشار عمر على أبي بكر أن يجمع القرآن مخافة أن يذهب منه شيء بذهاب القراء، فدعا زيد بن ثابت وأمره أن يجمع القرآن، فجمع القرآن من الصحابة فكان لا يقبل شيئًا إلا ما شهد عليه اثنان على أن ذلك مما كتب بين يدي النبي ﷺ، فيطالبونهم بالمكتوب.
وبعضهم يقول: أن يشهد شاهدان: الحفظ والكتابة، يعني أن يكون ذلك مما كُتب بين يدي النبي ﷺ، وأن يكون محفوظًا أيضًا؛ فجمعه، لكنه جمع في صحف من أجل أن يُحفظ؛ لئلا يضيع منه شيء منه، فكان ذلك مما قيظه الله -تبارك وتعالى- من الأسباب التي حفظ بها هذا القرآن.
ثم بعد ذلك جاء عهد عثمان فوقع ما وقع من الاختلاف بين الأجناد في أرمينا وأذربيجان في حدود سنة: 25 هجرية؛ لأنه قد اجتمع الأجناد من البصرة والكوفة والشام واليمن والحجاز، فهذا يقول: قراءة أبي موسى الأشعري، وهذا يقول: قراءة ابن مسعود، وهذا يقول: قراءة أبي الدرداء، وهذا يقول: قراءة معاذ.
وبعض هؤلاء جهلة، أجناد، لا يعرف أن القرآن أنزل على سبعة أحرف فوقع بينهم اختلاف، ففزع حذيفة بن اليمان وذهب إلى عثمان وذكر له ذلك، فاستشار عثمان من حضره من الصحابة فسألوه عن رأيه فأخبرهم أنه يرى أن يجمع القرآن في قراءة واحدة، يعني على حرف واحد هو حرف قريش، فوافقه كل من حضره من الصحابة في المدينة على هذا بما فيهم علي -رضي الله عنه وأرضاه-، فجمع القرآن في مصاحف، ورتبوا السور، وكتبوه بطريقة دقيقة هذه الطريقة هي التي سميت بالرسم العثماني، وهو أحد الأنواع في علوم القرآن، وموضوع السور، وترتيب السور هو أحد الموضوعات المتعلقة بعلوم القرآن، وترتيب الآيات، ترتيب الآيات كما هو معلوم توقيفي فلم يكن لأحد أدنى اجتهاد فيه.
أما ترتيب السور فيه فاجتهدوا فيه واستأنسوا بما كانوا يرونه من غالب قراءة رسول الله ﷺ كما قال الإمام مالك -رحمه الله-، فوجد عندنا موضوع ترتيب السور، ترتيب الآيات، الرسم العثماني، موضوع جمع القرآن؛ وهو من أدق الموضوعات في علوم القرآن، الأحرف والقراءات، كل هذه من موضوعات علوم القرآن، فمن الأشياء التي تُذكر في عهد الخلفاء الراشدين، أو في القرن الأول الهجري، ذكر ابن أشته في كتابه: "المصاحف"، وهذا الكتاب غير موجود مفقود، لكن العلماء ينقلون عنه، ومن ثم فنحن لم نقف على الأسانيد، وهو كتاب مسند، فالشاهد أنه ذكر عن ابن سيرين أن علي كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وأن ابن سيرين يقول: "فطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه"[5].
وساق الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله- بسنده إلى ابن سيرين -رحمه الله- أنه قال: "لما بويع أبو بكر أبطأَ علي عن بيعته فجلس في بيته، فبعث إليه أبو بكر ما بطأك عني؟ أكرهت إمرتي؟ فقال علي : ما كرهت إمارتك! ولكني آليت ألا أرتدي ردائي إلا إلى صلاة حتى أجمع المصحف"، يقول ابن سيرين: "وبلغني أنه -هذا الشاهد- كتبه على تنزيله، ولو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير"[6]، هذا يفيدنا في قضية علوم القرآن في وقت مبكر في زمن خلافة أبي بكر الصديق ، لكن هذه الرواية كما ترون مرسلة، ابن سيرين لم يشهد هذا، لكن ابن عبد البر -رحمه الله- بعد ما ذكر هذه الرواية يقول: "أجمع أهل العلم بالحديث أن ابن سيرين أصح التابعين مراسيل، وأنه كان لا يروي ولا يأخذ إلا عن ثقة، وأن مراسله صحاح كلها ليس كالحسن وعطاء في ذلك"[7]، وما نقل في هذا أيضًا في هذا العهد لو صح أن عليًّا أمر أبا أسود الدؤلي بوضع قواعد النحو، وكانت هذه بداية لو صحت لو ثبتت بداية لموضوع إعراب القرآن وهذا أحد موضوعات علوم القرآن، وهذا الخبر مشهور عند النحاة يذكرونه في أول النحو لماذا سمي النحو بهذا؟
يقولون: إن عليًّا قال لأبي الأسود الدؤلي: "الكلام اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، فالاسم: ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بزمن، والفعل: ما دل على معنى في نفسه واقترن بزمان"[8].
الشاهد قال له: "وانحو نحو هذا أو هذا النحو؛ فسمي بالنحو"، هكذا يقولون لكن هذه الرواية من حيث الإسناد لا تصح، وأن كانت مشهورة عند النحاة.
بعد الخلفاء الراشدين إلى نهاية القرن الأول الهجري يُذكر أن زياد بن أبيه أمر أبا الأسود الدؤلي فوضع قواعد الشكل، وهذا مما يذكر ويروى، ولكن ليس محل اتفاق، حتى أنه يقال: إنه طلب منه ذلك أولاً فامتنع؛ لأن ذلك لم يفعله أحدًا قبله، يريد أن يضع علامات الشكل على المصاحف فامتنع، يقال: إنه جعل رجلاً في طريقه يقرأ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ورسولِهِ] كيف يكون المعنى: أعوذ بالله يعني كأن الله بريء من المشركين وبريء من رسوله، فصار (رسوله) معطوفًا على المشركين وهذا معنى فاسد، وإنما هي هكذا: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3] أيضًا بريء منهم، ففزع أبي أسود الدؤلي وذهب إلى زياد ووافقه على كتابة هذه العلامات، هكذا يذكر بعضهم وليس محل اتفاق[9].
وبعضهم يقول: بأن أول من وضع ذلك هو نصر بن عاصم الليثي المتوفى سنة 89 من الهجرة، وهو الذي خمسها وعشرها.
وبعضهم يقول: إن ابن سيرين -رحمه الله- كان عنده[10] مصحف نقطه يحيى بن معمر المتوفى سنة: 89 من الهجرة.
وقيل: إن يحيى بن يعمر هو أول من نقط المصاحف[11]، وأكثر العلماء على أن المبتدأ في ذلك هو أبو أسود الدؤلي.
وبعضهم يقول: بأن الحجاج هو أول من أمر بنقط المصاحف[12]، وبتجزئتها ولا شك أن الحجاج كان مع ظلمه وحيفه وسوءه إلا أنه كان من أكثر الأمراء عناية بالمصاحف، حتى أنه لربما يأتي بهؤلاء الأكابر، ويعطيهم حبات الشعير، ويأمرهم أن يعدوا حروف القرآن، وكلمات القرآن، أين ينتهي الربع والأجزاء بالحروف، وهذا معروف وخبره مع يحيى بن يعمر مشهور لما ذكر له أنه يقول: بأن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ﷺ، فقال: "تأتي على هذا ببينة! أو ترى ما أفعل بك! فقال: أو ما تقرأ؟ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام: 84] ذرية إبراهيم ، دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى [الأنعام: 84].. إلى أن ذكر عيسى ، وهو ابن بنت فسكت الحجاج عنه"[13].
ومن الجهود المبذولة في ذلك العهد أيضًا أن يحيى بن يعمر قلنا أنه توفي سنة 89 من الهجرة كتب مؤلفًا في القراءة جمع فيها اختلافات المصاحف المشهورة، وكذلك سعيد بن جبير المتوفى سنة 94 من الهجرة كتب جزءًا في التفسير لعبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن مروان توفي سنة 86 من الهجرة، فطلب من سعيد بن جبير أن يكتب له تفسيرًا فكتب، إذن هذا كان قبل سنة 86 من الهجرة، فكتب له جزءًا في التفسير، حتى قال ابن أبي حاتم: "سئل أبي عن عطاء بن دينار فقال: هو صالح الحديث إلا أن التفسير أخذه من الديوان، فإن عبد الملك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بن جبير بهذا التفسير إليه فوجده عطاء بن دينار في الديوان، فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير"، وهذا موجود في "الجرح والتعديل"[14]، و"تذكرة الحفاظ"، و"معرفة القراء الكبار"، و"طبقات المفسرين"، هذا القرن الأول، كانت بدايات هذه الطريقة، ثم جاء القرن الثاني الهجري، وإذا تتبعنا في مثل كتاب: "الفهرست" للنديم، أو مثل: "كتاب كشف الظنون" لحاجي خليفة نجد كتب كثيرة تنسب إلى جماعة من التابعين فمن بعدهم في التفسير، وفي القراءة، وفي الناسخ والمنسوخ، وفي أشياء تتعلق بعلوم القرآن، فمن ذلك:
التفسير المنسوب إلى مجاهد بن جبر المتوفى سنة: 104هــ في القرن الثاني، الآن بداية القرن الثاني الهجري.
والتفسير المنسوب للضحاك بن مزاحم كانت مائة وخمسين كانت وفاته في 150هــ.
تفسير منسوب لعكرمة توفي سنة 107هــ.
محمد بن كعب القرظي: 108هــ له تفسير ينسب إليه "عد الآي".
"نزول القرآن"، للحسن البصري المتوفى سنة: 110هــ.
تفسير منسوب لعطاء بن أبي رباح 114، عواشر القرآن، الناسخ والمنسوخ لقتادة السدوسي المتوفى سنة 117.
"اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق"، "المقطوع والموصول" هذه أسماء وعناوين كتب لعبد الله بن عامر توفي سنة: 118هــ، وغير هؤلاء كثير.
المقصود إذا عرفت هذا تعرف ما يتناقله كثير ممن يكتب في هذا العلم يقولون أول ما بدأ كان على يد علماء الحديث الذين كانوا يدخلون قضايا التفسير وما يتعلق به في مؤلفاتهم في الحديث، ويذكرون يزيد بن هارون وعلماء لربما كانوا في أواخر القرن الثاني الهجري، وفي القرن الثالث الهجري، وهذا غير صحيح إطلاقًا، وجدت مؤلفات مفردة منذ وقت مبكر، ووجدت تفاسير مفردة أيضًا.
أما القرن الثالث الهجري فالكتب فيه أكثر من أن تحصى:
"الناسخ والمنسوخ" لعبد الوهاب الخفاف المتوفى سنة 204هــ.
"الناسخ والمنسوخ" لحجاج الأعور 206هـ
و"إعراب القرآن" لعبد الملك بن حبيب القرطبي 238هــ.
و"إعراب القرآن" لأبي حاتم السجستاني 248هــ.
و"إعراب القرآن" لأبي عباس المبرد 286هــ.
و"إعراب القرآن" لأبي العباس ثعلب 291هــ،
عبد الرزاق الصنعاني هذا تفسيره موجود توفي سنة: 211هــ.
ومقاتل بن سليمان تفسير 500 آية موجود، آيات الأحكام، وكذلك "الوجوه والنظائر" له.
وهكذا تفسير أبي عبيد توفي سنة: 224هــ، وله أيضًا كتاب في القراءات، والناسخ والمنسوخ، وفضائل القرآن، وهو موجود من أجل الكتب التي وصلتنا في هذا الباب في أكثر من تسع مائة أثر، وحديث، بالأسانيد، وبعد ذلك جاء القرن الرابع الهجري، وجدت فيه مؤلفات أيضًا ليست قليلة.
تم بحمد الله، وفضله.
- أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (4429)، وأبو داود الطيالسي في مسنده، برقم (542)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (16913)، وأشار إلى تصحيحه بقوله: "في هذا وما قبله دلالة على أن آية الرجم حكمها ثابت، وتلاوتها منسوخة وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا".
- أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (4429)، وانظر: البرهان في علوم القرآن (2/35)، والإتقان في علوم القرآن (3/82).
- توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم (2/188).
- انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (1/54).
- الإتقان في علوم القرآن (1/204)، ومناهل العرفان في علوم القرآن (1/254).
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (8/301).
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (8/301).
- نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة (ص: 22)، وانظر: إنباه الرواة على أنباه النحاة (1/50).
- انظر: نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص: 20)، ونشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة (ص: 23).
- البرهان في علوم القرآن (1/250).
- المصاحف لابن أبي داود (ص: 324).
- انظر: البرهان في علوم القرآن (1/251).
- الإكليل في استنباط التنزيل (ص: 119).
- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/332).