الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله-:
الأنواع منها ما يرجع إلى النزول وهو اثنا عشر نوعًا:
الأول والثاني: المكي، والمدني، الأصح أن ما نزل قبل الهجرة مكي، وما نزل بعدها مدني؛ وهو البقرة، وثلاث تليها، والأنفال، وبراءة، والرعد، والحج، والنور، والأحزاب، والقتال، وتالياها، والحديد، والتحريم، وما بينهما، والقيامة، والقدر، والزلزلة، والنصر، والمعوذتان، قيل: والرحمن، والإنسان، والإخلاص، والفاتحة من المدني.
وثالثها: نزلت مرتين، وقيل: النساء، والرعد، والحج، والحديد، والصف، والتغابن، والقيامة، والمعوذتان؛ مكيات.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.
فقوله: "الأول والثاني: المكي والمدني"، الفائدة من دراسة هذا الموضوع يمكن أن نلخصها بثلاثة أمور:
الأول: أنه يفيد في معرفة الناسخ والمنسوخ؛ فنحن نعرف المتقدم والمتأخر.
والأمر الثاني: به نعرف التدرج في التشريع، فهذه الشريعة هذا القرآن هذا الوحي نزل في مدد متطاولة، في ثلاث وعشرين سنة، فنعرف ما نزل أولاً في مكة، الآيات المكية تتحدث في الغالب عن الله ، وأسمائه وصفاته، وعن اليوم الآخر، وعن رد شبه المشركين، وما إلى ذلك، والآيات المدنية تتحدث عن الأحكام، وبهذا نعرف أيضًا الأمور التي ينبغي العناية بها في دعوتنا وتعليمنا.
الأمر الثالث: أنه دليل على عناية الأمة بالقرآن، عرفوا ما نزل بمكة، وما نزل بالمدينة.
ومعرفة المكي والمدني لها طريقان:
الأول: سماعي، وذلك بالنقل؛ حيث نقل لنا الصحابة ما شاهدوه فعرفوا أن هذا نزل بمكة وهذا نزل بالمدينة.
والأمر الثاني: قياسي؛ وهو ما يعرف بالعلامات، كقولهم مثلاً: كل سورة فيها (يا أيها الناس) وليس فيها (يا أيها الذين آمنوا) فمكية، واختلفوا في الحج.
وكقولهم: كل سورة فيها (كلا) فمكية.
وكقول بعضهم: كل سورة ذكر فيها قصة آدم وإبليس فمكية، سوى البقرة.
وكقولهم: كل سورة فيها ذكر للمنافقين فمدنية، سوى العنكبوت.
وكقولهم: كل سورة ذكرت فيها الحدود والفرائض فمدنية.
وهكذا كقول بعضهم: كل سورة ذكرت فيها القرون الماضية فمكية.
وكقول بعضهم: كل سورة فيها حرف تهجي يعني في أولها، سوى الزهراوين والرعد فمكية.
وكقولهم: كل سورة فيها سجدة فمكية.
ومبنى هذا على الاستقراء، فنحتاج أن نستقرئ هذه المواضع، ونتتبع فإذا وجدناه كذلك، فإن ذلك يكون علامة، وإلا فإن وجود هذه الأشياء لم يجعل السورة مكية أو مدنية، ولكن بالتتبع عرفنا أن السورة التي ذكرت فيها كذا مكية، فجعلناه علامة نُعرِّف الناس بها.
وقوله: "الأصح أن ما نزل قبل الهجرة مكي وما نزل بعدها مدني" يدل على أن هذا القول هو الراجح عند المؤلف، وهو يشير أيضًا إلى وجود أقوال أخرى في المسألة، وهو كذلك، فنقول: كل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي وما نزل بعد الهجرة فمدني ولو نزل بمكة، أو نزل في مكان آخر في أسفار النبي ﷺ ومغازيه، والسور المدنية ذكر بعضهم أنها تبلغ تسعًا وعشرين سورة يقول: "وهو البقرة وثلاث تليها": يعني آل عمران، والنساء، والمائدة.
يقول: "والأنفال، وبراءة، والرعد، والحج"، والحج مختلف فيها فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "بأنها مكية سوى ثلاث آيات: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19][1]، وفي رواية أربع آيات[2].
وبعضهم يقول: هي مختلطة فيها المكي والمدني.
وذكر بعضهم: أنها من أعاجيب القرآن حيث اجتمع فيها المكي من رأس ثلاثين إلى آخرها، والمدني من رأس الآية الخامسة عشرة، والحضري إلى رأس العشرين، والسفري وهو أولها، والليلي والنهاري والحربي والسلمي، والناسخ وهو قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39]، والمنسوخ يقولون هو قوله: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الحج:69]، نسخت بآية السيف، وهذا فيه نظر.
وهكذا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، يقولون: هذه نسخت بقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى [الأعلى:6] وهذا أيضًا فيه نظر، فإنه لا منافاة بين المعنيين على خلاف في المراد بقوله -تبارك وتعالى-: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، بعضهم جعل ذلك يراد به القراءة ومنه قول حسان : "تمنى كتاب الله أول ليله"[3]، يعني قراءه، وبه فسر بعض أهل العلم قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] يعني قراءة[4].
وبعضهم يقول: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فسر ذلك بالأماني بحيث أنه يتمنى إيمان قومه، والله -تبارك وتعالى- يكون قد كتب أنهم لا يؤمنون!
يقول: "والنور، والأحزاب، والقتال، وتالياها": وهما الفتح والحجرات، "والحديد، والتحريم، وما بينهما": وهي ثمن سور؛ المجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، "والقيامة"؛ وهذا فيه غرابة وإشكال؛ لأن سورة القيامة مكية بالإجماع؛ فلعله سبق قلم، أو ذهول من المؤلف -رحمه الله-، وأن صوابه القيمة أي: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة:1] فهي مدنية عند الجمهور خلافًا لابن عباس -رضي الله عنهما-، وسيأتي بعد قليل من كلام المؤلف -رحمه الله- ما يشبه هذا أيضًا، أن القيامة من السور المدنية؛ لأنه ذكرها بعد ذلك في جملة قول ضعفه أنها نازلة في مكة.
"يقول: والقدر، والزلزلة، والنصر، والمعوذتان"، وحينما أورد: الرحمن، الإنسان، والإخلاص، والفاتحة؛ السور الأربع بصيغة التمريض (قيل) فإن هذا يشير إلى هذا القول غير مرضي، أنه قول مرجوح، فإنه جزم بأن الطائفة الأولى من هذه السور أنها مدني، ثم قال: (وقيل) وجاء بأربع سور كأنه يريد أن يعلمك أن هذا القول ضعيف، لكن يوجد من قال بهذا، يقول: "قيل: والرحمن، والإنسان، والإخلاص، والفاتحة من المدني"، هذه السور الراجح أنها مكية عند المؤلف، ويضعّف القول بأنها من المدني.
سورة الرحمن مما يدل على أنها مكية حديث جابر بن عبد الله عند الترمذي، وهو حديث ثابت صحيح، لما خرج النبي ﷺ على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا! فقال: لقد قرأتها على الجن، ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودًا منكم[5].
ليلة الجن كانت في مكة قطعًا، فدل هذا على أن سورة الرحمن من السور المكية.
أما سورة الإنسان: فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- روايتان؛ رواية يقول: بأنها مكية، ورواية يقول: بأنها مدنية.
وعن عبد الله بن الزبير أنها مدنية، فالروايات الواردة في سورة الإنسان والمشعرة بأنها نازلة في المدينة لا يصح منها شيء، يعني: عندنا روايات متعددة، هذه الروايات يُفهم منها أن هذه السورة أو على الأقل بعض الآيات نزلت بسبب معين في المدنية، لكنه لا يصح من ذلك شيء، لا في السورة، ولا في بعض آياتها، يعني مما قد يدل على أنها نازلة في المدينة، فلو تتبعتم الروايات في كتاب "الدر المنثور" ذكر مجموعة من الروايات، وهكذا لو نظرتم في الكتب التي تذكر أسباب النزول هناك روايات أسباب نزول بعض الآيات في سورة الإنسان يفهم منها أنها نزلت في المدينة، لملابسة معينة؛ لكن هذه الروايات لا يصح منها شيء، والذين قالوا: بأنها مدنية لربما اعتمدوا على تلك الروايات.
أما سورة الإخلاص: فقد ثبت أن المشركين سألوا النبي ﷺ حينما قالوا له: انسب لنا ربك فنزلت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2][6]، وهذا كان بمكة.
وأما سورة الفاتحة: فهي نازلة في مكة، والدليل على أنها نازلة في مكة صلاة النبي ﷺ كان يصلي ويقرأ الفاتحة، وهناك دليل أوضح من هذا؛ في سورة الحجر، وسورة الحجر قطعًا من السور المكية، فالله يقول فيها: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، فالنبي ﷺ كما في الصحيحين قال عن الفاتحة: وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته[7]، فهذا يدل على أن سورة الفاتحة نزلت في مكة قطعًا.
يقول: "وثالثها": هذا من اختصاره الشديد، والمراد بقوله وثالثها أي ثالث الأقوال، الأول بأنها مدنية ذكر هذا، والثاني: عكسه أنه مكية، وجد من قال هذا، قال: "وثالثها نزلت مرتين": يعني مرة بمكة، ومرة بالمدينة، الذين قالوا: بأنها نزلت في المدينة يحتجون بالحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- لما كان جبريل عند النبي ﷺ فسمع صوتًا فرفع رأسه فقال: هذا باب فتح من السماء لم يفتح قبل قط! وهذا ملك نزل من السماء لم ينزل قبل قط! فقال: أبشر بنورين أوتيتهما، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة[8]، لكن هل معنى هذا أن السورة سورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة نزلت في ذلك الحين؟
هذه الواقعة حصلت في المدينة يرويها ابن عباس -رضي الله عنهما- هل يعني هذا أن النزول حصل حينما نزل ذلك الملك وإلا جاء بالبشرى؟
جاء بالبشرى، فقد يقول قائل: جاء بالبشرى، البشرى تكون على شيئًا سيحصل، نقول: لا يلزم، البشرى قد تكون على أمر قد حصل، أليس كذلك؟ فالإنسان قد يبشر بشيء سابق، وقد يبشر بشيء سيأتي.
وإنما قيل لها بشرى؛ لأن الإنسان يتأثر بسماع ذلك، ويسر به، فيظهر أثر ذلك على بشرته، إنسان يقال له: يبشر بولد قد ولد له.
وهناك قول رابع: وهو بعيد جدًا أنّ نِصفها نزل في مكة، وأن نصفها نزل في المدينة، وهذا أبعد هذه الأقوال فالراجح أن سورة الفاتحة نزلت بمكة.
يقول: "وقيل النساء، والرعد، والحج، والحديد والصف، والتغابن، والقيامة، والمعوذتان مكيات"؛ لأنه ذكر القول الذي يضعفه أن من السور ما قيل عنه إنه مدني لكن ذلك ليس محل رجحان عند المؤلف، وهكذا هناك سور قيل إنها نزلت بمكة لكن ذلك لا يقوى عند المؤلف، ولا يترجح.
يقول: "قيل: النساء" الآن النساء، حديث عائشة في البخاري تقول: "ما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده"[9]، وعائشة كانت عند النبي ﷺ بعد الهجرة، فدل ذلك على أن سورة النساء نازلة في المدينة.
لكن القائل بأنها نزلت في مكة هو النحاس[10]، قال ذلك بناءً على أن قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، قال: بأن سبب نزول هذه الآية هو قصة مفاتيح الكعبة، لما أخذها النبي ﷺ عام الفتح من عثمان بن طلحة، وأراد أن يدفعها إلى على ، أخذها على أساس يفتح باب الكعبة ليدخلها صلى بها النبي ﷺ، فأراد أن يعطيها لعلي ، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58][11]، لكن هذه الرواية أولا ضعيفة، ثم لو كانت صحيحة فإن هذه الآية يقال لها: مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة، فما نزل بعد الهجرة فهو مدني، فالنحاس وهو إمام كبير قال بأن سورة النساء بكاملها مكية باعتبار أن هذه الآية نزلت بمكة مع ضعف الرواية، ومخالفة ذلك للأصل الذي ذكرناه، ما نزل بعد الهجرة فهو مدني ولو نزل بمكة.
أما سورة الرعد: فقد أخرج الطبراني في الكبير والأوسط[12] وابن أبي حاتم[13] عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنها نزلت في أربد بن قيس، وعامر بن الطفيل، أنهما قدما المدينة على رسول الله ﷺ، وأنها نزلت فيهما: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى [الرعد:8]، وهكذا أيضًا إلى قوله: مِنْ وَالٍ [الرعد:11]، يعني من الآية الثامنة إلى الآية الحادية عشر، والسيوطي يضعف القول بأن سورة الرعد مكية بناءٍ على ماذا؟ يقول: إن هذه السورة مدنية؛ لأن هذه الآيات فيها نازلة في المدينة في أربد وفي عامر؛ وهؤلاء قدموا على النبي ﷺ في المدينة، الرواية هذه ضعيفة، هي رواية طويلة فيها تفاصيل أرادوا قتل النبي ﷺ وتأمروا على هذا، فالرواية ضعيفة، والسيوطي -رحمه الله- يتكأ عليها، ويحتج بها على أن سورة الرعد مدنية، وبناءً عليه ضعّف القول بأنها مكية.
قال: "والحج": أخرج عبد بن حميد، وعبد الرزاق الصنعاني في التفسير، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو يعلى والحاكم عن أنس أنها نزلت: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1] على النبي ﷺ وهو في مسير له، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه"[14]، يعني انضموا إليه وأقبلوا عليه، وهذه الرواية ثابتة صحيحة، وهذه الرواية تدل على أن سورة الحج نزلت في المدينة، وأقصد في المدينة أن حكمها مدني، وإلا كان في سفر، والنبي ﷺ حينما كان في مكة مستخفيًا، ولم يكن يحصل مثل هذا يسافر وأصحابه معه تنزل عليه الآية يرفع فيها صوته، ويجتمعون إليه إنما كانت هذه الأسفار بعد هجرته ﷺ، فهذا يمكن أن يحتج به السيوطي باعتبار أن سورة الحج مدنيه ومن ثم يضعف القول بأنها مكية.
قال: "والحج، والحديد"، بناء على ماذا؟ كانت سورة الحديد مدنية وحكم بضعف قول من قال بأنها مكية، بناء على روايات ضعيفة أكثرها مراسيل، وردت في سبب نزول بعض الآيات، كما في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحديد:16]، إذا تتبعت تلك الروايات وراجعوا مثل كتاب "الدر المنثور"، والكتب المصنفة في أسباب النزول ستجدون جملة من الروايات بسورة الحديد، كل ما ورد في سورة الحديد في أسباب النزول لا يصح.
فهذه الروايات تدل بظاهرها أو على الأقل أن بعضها يدل بظاهره على أن السورة نازلة في المدينة؛ لكنها لا تصح.
فالسيوطي يعتمد -والله أعلم- على هذه الروايات ليقول بأن السورة مدنية، والقول بأنها مكية ضعيف.
يقول: "والصف"؛ ويرجح أنها مدنية، ويضعف القول بأنها مكية، ويدل على هذا ما رواه أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن سلام ، قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله ﷺ فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الصف:1] إلى آخره"[15]، هذه الرواية ثابتة صحيحة، يعني لما أعلموا أنه الجهاد كأنهم تثاقلوا وتباطئوا فعاتبهم الله : لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2] فالجهاد كان في المدينة، فسورة الصف إذن من السور المدنية، فالقول بأنها مكية قول ضعيف.
يقول: "والتغابن"، السيوطي يقول بأن سورة التغابن من السور المدنية، ويضعف قول من قال بأنها مكية؛ بناءً على ماذا؟
في سورة التغابن الله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] الروايات الواردة سواء بأنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي لما أراد الهجرة فصرفه عنها زوجته وأولاده وحينما قالوا له: لمن تتركنا فرق لهم وجلس، ثم بعد ذلك هاجر بمدة فوجد أصحابه الذين سبقوه إلى الهجرة قد تعلموا وتفقهوا وفاته شيء كثير، فأراد أن يعاقب زوجته وأولاده فأنزل الله الآيات وفيها: وَإِنْ تَعْفُوا [التغابن:14][16]، لكن هذه الرواية ضعيفة، وهكذا جميع الروايات الواردة في هذا التي تدل على أن هذه الآية نزلت بسبب طائفة من أصحاب النبي ﷺ لما أرادوا أن يهاجروا من مكة إلى المدينة، أو يهاجروا من أوطانهم إلى المدينة أقعدهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم، الروايات الواردة في هذا ضعيفة، ولا حاجة لسردها، ويمكن أن تراجع في مظانها، فالسيوطي ربما يعتمد على هذه الروايات يقول بأن السورة مدنية، وبناء عليه من يقول بأنها مكية فهو مخطئ؛ لكن هذه الروايات ضعيفة.
يقول: "والقيامة"، سورة القيامة سورة مكية، وقد نقل عليه بعضهم الإجماع؛ فلا أدري هل هذا من السهو الذي وقع للمؤلف واستمر عليه، أو أنه يقصد سورة القيامة فعلاً وهذا غريب جدًا، سورة القيامة لا شك أنها نازلة بمكة، إلا إذا قلنا: القيّمة، فالجمهور يقولون: بأنها نزلت بالمدينة، وابن عباس -رضي الله عنهما- أنها نازلة في مكة.
يقول: "والمعوذتان"؛ في كتاب "التحبير" للمؤلف ذكر بدلاً من المعوذتين الزلزلة؛ لكن لما مشى في الشرح، وبدأ يفصل ذكر بعد ذلك المعوذتين، وهذا واضح أنه ذهول وسهو من المؤلف -رحمه الله-؛ ولهذا أقول: لا يستبعد أن ذكره سورة القيامة أيضًا هو من الذهول والسهو، وقد يكون ذلك من تصرفات النساخ، والله أعلم.
يقول بأن هذه السور نازلة في المدينة، وهناك من قال بأنها نازلة في مكة، والمؤلف يرجح أن هذه السور نازلة في المدينة، في كلام له في غير هذا الكتاب يستثني سورة الحديد، وقد ذكرت لكم أن ما يعتمد عليه من يقول بأنها نازلة في المدينة روايات لا تصح، هو يستثني في موضع آخر يستثني سورة الحديد، فعند البزار والطبراني وأبي نعيم والبيهقي في "الدلائل" في قصة إسلام عمر بن الخطاب وأنه دخل على أخته فاطمة وبيدها صحيفة فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:1] سورة الحديد تعرفون الخبر لما أراد أن يقرأ، قالت له: "إنك نجس"[17]، هذا الرواية مشهورة جدًا لكنها لا تصح ضعيفة، فهو يريد في موضع آخر يحتج بهذا على أن سورة الحديد نازلة في مكة، نقول حتى هذا الاحتجاج أيضًا يعني ما ذكره هنا في ظاهره في هذا الكتاب في هذا المختصر أن سورة الحديد من جملة هذه السور النازلة في المدينة، ويضعف القول بأنها مكية بناءً على الروايات الضعيفة.
وفي موضع آخر يقول: بأن سورة الحديد نازلة بمكة بناءً على قصة إسلام عمر بن الخطاب لكن هذه الرواية ضعيفة، فبعض السور قد لا يتبين لنا هل هي نازلة بمكة أو المدينة لكننا قد نعرف أو يغلب على الظن بأنها نازلة بمكة أو في المدينة من خلال موضوعات السورة، ومن خلال الأسلوب؛ الآيات المكية لها أسلوب تتميز به، خصائص السور المكية، فقد نرجح بأنها نازلة بمكة أو المدينة لكن هو مجرد ليس بالجزم والقطع لكن نقول: لعلها، ربما، قد تكون، يمكن أن تكون نازلة بمكة، كأنها من السور المكية، مثلاً باعتبارات معينة، لكن نقول: هذه سورة مكية بناء على الموضوعات التي ناقشتها، أو بناء على الأسلوب، أو نحو هذا! هذا الكلام لا يعتمد عليه، والله تعالى أعلم.
وفيما يتعلق بسورة الحديد في صحيح مسلم[18] من حديث ابن مسعود يقول: ما كان بين إسلامهم وبين نزول هذه الآية يعاتبهم الله بها إلا أربع سنين: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16]، بين إسلامهم وبين معاتبة الله إلا أربع سنين يعني هذا يحتج به من يقول بأنها نازلة في مكة، لكن هل يقطع بهذا؟ ما بين إسلامهم أربع سنين، النبي ﷺ بقي في مكة قيل: عشر سنوات، وقيل: ثلاثة عشر سنة، ابن مسعود من السابقين للإسلام؛ لكن هل نستطيع أن نجزم وأن نقطع تمامًا بأن هذه قصد بها نفسه أو أنه يتحدث عن وقت كثر فيه الدخول للإسلام إلى حد ما، بعد إسلام عمر وحمزة في مرحلة الدعوة العلنية، فتكون السورة نازلة في المدينة مثلاً بعد أربع سنوات يحتمل، وأن كان الذي يغلب على الظن أنها نازلة في مكة، وأن ابن مسعود يقصد أولئك الذين دخلوا في الإسلام في أول من دخل، وهو منهم ، هو يتحدث عن نفسه وعن أصحابه الذين كانوا معه فهو من السابقين إلى الإسلام، والله تعالى أعلم.
- انظر: البيان في عد آي القرآن (ص:189)، ومباحث في علوم القرآن لمناع القطان (ص:55).
- روي عن قتادة قوله بأنها مدنية إلا أربع آيات وهن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج:52]، إلى قوله تعالى: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55]. انظر: البيان في عد آي القرآن (ص:189).
- تفسير البغوي - طيبة (5/394)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (5/445).
- تفسير البغوي - طيبة (1/114).
- أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ومن سورة الرحمن، برقم (3291)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5138).
- أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ومن سورة الإخلاص، برقم (3364)، وأحمد في المسند، برقم (21219)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (5206).
- أخرجه البخاري، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، برقم (4474)، وبرقم (5006)، كتاب فضائل القرآن، باب فضل فاتحة الكتاب.
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، برقم (806).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، برقم (4993).
- تفسير القرطبي (5/1).
- تفسير الطبري (جامع البيان) ت شاكر (8/491)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (2/341).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/312)، برقم (10760)، وفي المعجم الأوسط (9/60)، برقم (9127).
- لم أقف عليه.
- انظر: تفسير الطبري (18/561)، وتفسير ابن أبي حاتم (8/2472)، برقم (13768)، وتفسير عبد الرزاق (2/396)، برقم (1895)، ومسند أبي يعلى الموصلي (5/430)، برقم (3122)، والمستدرك على الصحيحين للحاكم، ط الحرمين (5/29)، برقم (8756)، وقال: "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
- أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ومن سورة الصف، برقم (3309).
- تفسير الطبري (جامع البيان) ت شاكر (23/424).
- انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/35)، والروض الأنف ت السلامي (3/164)، وسيرة ابن هشام ت السقا (1/344).
- أخرجه مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} [الحديد:16]، برقم (3027).