قال -رحمه الله-:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا نوع يتعلق أيضًا بنزول القرآن؛ وهو الحضري والسفري؛ وهذا النوع -كما رأيتم- جعله على نوعين: الثالث والرابع، الحضري والسفري، ويمكن أن يجعل ذلك في نوع واحد، ودراسة الحضري والسفري ليس فيه فائدة ذات أهمية -كما يقال- في معرفة مثلاً المكي والمدني، ما يتعلق بالنسخ، لكن هنا الحضري والسفري يدل على عناية الأمة بكتاب الله عرفوا ما نزل في أحوال شتى.
يقول: الأول كثير يعني: الحضري وهو الأصل، والثاني: سورة الفتح، سورة الفتح نزلت على النبي ﷺ وهو في سفر، في كُراع في مكان يقال له: كُراع الغميم، وهذا يبعد عن المدينة نحو مائة وسبعين ميلاً، ويبعد عن مكة نحو ثلاثين ميلاً، وقد جاء في صحيح البخاري: "عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن النبي ﷺ كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب كان يسير معه ليلاً، لاحظوا! ليلاً هذه نحتاج إليها في الليلي والنهاري، سأشير إلى هذا، يسير معه ليلاً؛ فسأله عمر بن الخطاب عن شيء، فلم يجبه رسول الله ﷺ، ثم سأله فلم يجيبه، ثم سأله فلم يجبه" الشاهد: وفيه؛ الحديث أن النبي ﷺ قال: لقد أنزلت علي الليلة سورة، لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس! ثم قرأ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1][1].
إذًا هذه نزلت في سفر، وفي الليل، وهذا نحتاج إليه فيما بعد -إن شاء الله-، وجاء أيضًا في الصحيحين حديث سهل بن حنيف وعند أحمد أيضًا والترمذي من حديث أنس، وعند أحمد وأبي داود عن مجمع بن جاريه، وعند أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود كل هذه الأحاديث تدل على أنها نزلت والنبي ﷺ في سفر.
قال: "والتيمم في المائدة بذات الجيش، أو البيداء" ذات الجيش مكان وراء ذي الحليفة، والبيداء يقال: هي ذو الحليفة نزلت بذات الجيش، أو البيداء وهذا حينما كان النبي ﷺ أيضًا في سفر كما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- وذلك حينما قفل النبي ﷺ راجعًا من بعض مغازيه، وحصل ما حصل مما تعرفون حينما فقدت عِقدها بواقعة غير قصة الأفك، فذهب في طلبه بعض أصحاب النبي ﷺ.
الشاهد: أنهم ما وجدوه، والنبي ﷺ قد وضع رأسه في حجرها، فتكلم من تكلم أنها حبست الناس وليس مع النبي ﷺ ماء، من أجل أن يصلوا الفجر، فجاء أبو بكر وجعل ينخسها بأصبعه في جنبها، ويقول: "حبستي الناس"[2] وليس مع النبي ﷺ ماء ،كذا!
فالشاهد: أن الآية نزلت على النبي ﷺ آية التيمم، فهذا كان في سفر مرجع النبي ﷺ من غزوة المريسيع وهي المصطلق.
يقول: بمنى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] لاحظوا! ضعوا نقطة بعد البيداء؛ لأن ليس الكلام هكذا والتيمم في المائدة بذات الجيش، أو البيداء. بمنى، ذات الجيش والبيداء ليست بمنى؟ وإنما بعد ذات الجيش، أو البيداء نضع نقطة، ثم يبدأ كلام جديد، قال: بمنى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] وهذا بناءٍ على ما رواه البيهقي في الدلائل والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: آخر آية نزلت وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281][3] نزلت بمكة وكان بين نزولها وبين موت النبي ﷺ واحد وثمانون يومًا، لكن هذا الإسناد كما ترون من طريق الكلبي عن أبي صالح إسناد لا يعتمد عليه، ولا يعول عليه.
يقول: وآمَنَ الرَّسُولُ [البقرة:285] إلى آخرها يوم الفتح، لا أعلم دليلاً على أن هذه الآية: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ [البقرة:285] أنها نزلت يوم الفتح، لا أعلم دليلاً على هذا، بل حتى المؤلف في بعض كتبه ذكر أنه لم يقف على دليل لذلك، وحاولت أن أتتبع ولم أجد شيئًا.
يقول: و يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ [الأنفال:1] باعتبار أن هذه نزلت في سفر؛ لأنه كما في الصحيح من حديث سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس -رضي الله عنهما-: سورة الأنفال، قال: نزلت في بدر، وقيل: نزل أولها في بدر عقب الواقعة يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ[الأنفال:1] بعد ما اختلفوا في الغنائم كما أخرجه أحمد عن سعد بن أبي وقاص يقول: لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير، وقتلتُ سعيد بن العاص، وأخذتُ سيفه، فأتيت به النبي ﷺ فقال اذهب فاطرحه! القصة المعروفة، الشاهد: وفيه فما جاوزت إلا يسيرًا حتى نزلت سورة الأنفال"[4].
فهي نازلة، أو على الأقل نزل صدرها وطائفة من الآيات فيها بعد وقعة بدر.
يقول: وهَذَانِ خَصْمَانِ [الحج:19] ببدر، جاء في الصحيح من حديث أبي ذر "أنه كان يقسم عن أبي ذر، أنه كان يقسم أن هذه الآية هَذَانِ خَصْمَانِ [الحج:19] نزلت في حمزة وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه"[5] ثلاثة من المسلمين، وثلاثة من المشركين؛ خرجوا للمبارزة، فإذا كانت هذه الآية هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] نازلة في هذا الشأن؛ فمعنى ذلك: أنها نزلت في سفر، في قصة بدر، لكن لو قال قائل: بأن هذه الآية تتحدث عن هؤلاء، لكن هل هذا يعني أنها نزلت في بدر فعلاً؟ قد تكون بعد ما رجع النبي ﷺ إلى المدينة.
وأيضًا قول الصحابي نزلت هذه الآية في هؤلاء، هل هذا يعني أنه هو سبب النزول، ذكرنا في بعض المناسبات في شرح أظن في مقدمة شيخ الإسلام، وفي قواعد التفسير؛ أن أسباب النزول منها ما هو صريح وهو أن يذكر واقعة، أو سؤال ويقول: فنزلت، فأنزل الله سبب نزول هذه الآية كذا! وقد تكون العبارة غير صريحة، فيقول: نزلت هذه الآية في كذا! يعني: غالبًا أنه يريد التفسير؛ أن هذا مما يدخل في معناها.
فهنا أبو ذر كان يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه، نزلت هذه الآية فيه، يعني أقصد أن هذا لا يلزم أولاً أن يكون هو سبب النزول، والأمر الثاني: لا يلزم أن يكون نزلت في بدر والسفر، قد تكون نزلت بعد ذلك بعد ما رجع النبي ﷺ، وهكذا الكثير من الأشياء لو تأملتها ستجد أن الجزم بمثل هذه الأحكام قد يكون فيه أشكال، والله أعلم.
يقول: والْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] بعرفات، وهذا كما في الصحيحين عن عمر لما ذكر قال: "أنها نزلت في يوم عيد، نزلت والنبي ﷺ واقف في عرفه"[6] وهذا يعتبر سفر.
يقول: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ [النحل:126] بأحد، يعني: في قصة حمزة لما مثل به كما في الدلائل للبيهقي ومسند البزار من حديث أبي هريرة : "أن رسول الله ﷺ وقف على حمزة حين استشهد وقد مُثّل به، فقال: لأمثلنا بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل"[7].
لكن هذا في إسناده صالح المري وهو ضعيف، والروايات الواردة في هذا المعنى أنها نزلت في أحد بعدما مثل بحمزة، أو مثل ببعض الصحابة كلها ضعيفة، لكنها قد تتقوى بمجموعها، بعض هذه الرواية مراسيل وبعضها فيها بعض الرواة فيهم ضعف، فقد تتقوى بمجموعها.
لكنه جاء برواية أخرى بإسناد أقل أحواله أنه حسن -إن شاء الله- عن أبي بن كعب في أن هذه الآية نزلت والنبي ﷺ في طريقه إلى مكة عام الفتح، فتكلم من تكلم من الأنصار وكان مما قيل: أنه اليوم ذهبت قريش، كأنهم أرادوا أن ينتقموا مما حصل في يوم أحد؛ ولهذا فإن النبي ﷺ يقال: إنه أخذ راية الخزرج من سعد بن عبادة ودفعها لابنه قيس ابن سعد -رضي الله عن الجميع-.
فالشاهد: إذا صححنا الروايات بمجموعها في أنها نزلت في أحد؛ فنقول: بأن الآية نزلت مرتين وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126] مرة في أحد، ومرة في طريقهم إلى فتح مكة، وإذا قلنا بالروايات النازلة التي تذكر أن النزول كان في أحد ضعيفة؛ فتكون هذه نازلة والنبي ﷺ في طريقه إلى مكة عام الفتح.
على كل حال الرواية الثانية الحديث الآخر حديث أٌبي بن كعب تدل على أنها نزلت في السفر، أو في الحضر؟ في السفر أيضًا، ولكن قوله هنا: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ قال: بأحد، هو يتكلم عن السفر، فهل أحد يعتبر سفر؟ بالنسبة للمدينة يعتبر سفر؟
ليس بسفر، ليست مسافة تقصر فيها الصلاة، يترخص برخص السفر، لكن المقصود أنه خارج الحضر خارج البلد هذا المقصود.
قال -رحمه الله-:
وهذا كما سبق أيضًا النوع الخامس والسادس هذا يمكن يجعل في نوع واحد، أما الفائدة المترتبة على هذا أن هذا نزل في الليل، أو هذا نزل في النهار فهذا أيضًا ليس تحته فائدة كبيرة، لكنه ينبئ عن أمرٍ وهو عناية هذه الأمة بالقرآن، عرفوا أوقات النزول.
يقول: الأول كثير يعني ما نزل في النهار، والثاني له أمثلة كثيرة منها سورة الفتح، الحديث السابق الذي ذكرته لما كان عمر سأل الرسول ﷺ فالآية نزلت ليلاً.
قال: وآية القبلة، وهي قوله -تبارك وتعالى-: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] هذه آية القبلة؛ هذه هل نزلت ليلاً، أو نزلت نهارًا؟
في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "بينما الناس في قباء، في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن النبي ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن"! لاحظوا هذه الرواية "أنزل عليه الليلة قرآن، فجاءهم في صلاة الصبح، قال: وقد أُمر أن يستقبل القبلة"[8] هذه الرواية في الصحيحين عن ابن عمر فإذا أخذنا بظاهرها نقول: هذه الآية، آية القبلة نزلت ليلاً، لكن في الصحيحين أيضًا من حديث البراء "أن أول صلاة صلاها النبي ﷺ هي صلاة العصر"[9] وهذا الذي رجحه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- صلاة العصر، أول صلاة صلاها النبي ﷺ.
إذا كانت أول صلاة صلاها النبي ﷺ أول صلاة صلاها العصر، فمعنى ذلك متى تكون نزلت عليه الآية؟ هل يمكن أن يقال من الليلة الماضية ولم يصل الفجر ولا الظهر وقد أمر أن يستقبل القبلة؟ ما يمكن! إلا أن تكون قبل صلاة العصر، وبعد الظهر لابد من هذا.
والرواية الأخرى في الصحيحين ماذا يقال فيها؟ حديث ابن عمر، يعني جاءهم آت فقال أن النبي ﷺ "قد أنزل عليه الليلة قرآن"، لو قال قائل بأن قوله: "أنزل عليه الليلة قرآن" يقصد به معنى أوسع من الليلة التي تكون من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، الليلة يعني أنزل عليه بالأمس قرآن، قد يقول قائل مثل هذا، وإن كان هذا لا يخلوا من بعد، لكن من الناحية العملية الواقعية يمكن أن يكون بلغهم صلاة الفجر، وقد أنزل على النبي ﷺ قبل العصر، يمكن، فالوسائل السابقة وتعرفون النبي ﷺ حينما هاجر إلى المدينة هاجر يوم الاثنين، وبقي من يوم الاثنين إلى الخميس حتى بنا المسجد، ثم سار فأدركته صلاة الجمعة في الطريق إلى المدينة، فصلى الجمعة. فقديمًا الوسائل البسيطة وما بين هذه المحال من الزروع ونحو ذلك على كل حال.
يقول: ويَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ [الأحزاب:59] هذه الآية في سورة الأحزاب، يقول المؤلف: بأنها نزلت ليلاً، بناءٍ على أي شيء أنها نزلت ليلاً؟
الحديث المخرج في الصحيحين حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجت سودة -رضي الله عنها- بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها" يعني: لقضاء الحاجة، كانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر، فقال: يا سودة! أما والله ما تخفي علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت: فانكفأت راجعة إلى رسول الله ﷺ وإنه ليتعشى معه عَرْق" وهو العظم الذي ذهب أكثر اللحم منه، فأخذه ما يأخذه من برحاء الوحي تقول عائشة: "فأوحى الله إليه، فقال على اللفظ: إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن[10].
الآن هذه الرواية هل فيها أن الآية أنها نزلت بسبب هذا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] فيه ذكر للآية حديث عائشة؟ لا، أوحى الله إليه، أوحى إليه ماذا؟ أوحى أن أذن لهن أن يخرجن لحاجتهن، ما أوحى إليه قرآن.
فالقول بأن هذه الآية نازلة ليلاً؛ بناء على حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا المخرج بالصحيحين؟ غير صحيح، نعم وردت روايات متعددة تدور على معنى وهو أن بعض ضعفاء النفوس، أو بعض المنافقين كانوا يجلسون في طريق النساء اللاتي يخرجن ليلاً لحاجتهن، فلربما غمزوا المرأة، أو نحو ذلك، أو تكلموا، فإذا قيل لهم، قالوا: كنا نظن أنها أَمَة، فنزلت هذه الآية يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ [الأحزاب:59] يعني أنهن من الحرائر بحجابها، حرة تتحجب حجابًا لائقًا، فلا يؤذين، لا يظن أنها أَمَة، لكن جميع الروايات الواردة في هذا المعنى أن هذا هو سبب النزول لا تصح.
فنبقى على أن القول بأن هذه الآية نازلة ليلاً ليس عليه دليل، طبعًا ليس الهدف الذي أريد أن أصل إليه عند مناقشة هذه الجزئيات والأمثلة فإن العناية بهذا قد تكون قليلة الفائدة، لكن المعنى الأهم في نظري هو أن يتعلم طالب العلم كيف يناقش؟ كيف يفهم كلام أهل العلم؟ هذا هو الأهم، وهذا الذي يخرج طلبة العلم، وينمي الملكة، ويجعل عند الإنسان بصر، ويميز وكذا.
أما مناقشة مثال، هل هذا كذا هذه قضية يسيرة، والله أعلم.
يقول: وآية الثلاثة الذين خلفوا في براءة، الآن يقول: أيضًا آية الثلاثة أنها نزلت في الليل، بعضهم يذكر على هذا حديثًا يستدل بحديث، يقول: هو في الصحيحين حديث كعب يقول: "فأنزل الله توبتنا حين بقي الثلث الآخر من الليل"[11].
والمؤلف -رحمه الله- في بعض ما كتبه يستدل أيضًا بهذا الحديث بهذا اللفظ، والحديث الذي في الصحيحين في الواقع ليس فيه ذلك، ليس فيه ذكر الثلث الآخر من الليل، ولا ذكر أنها نزلت في الليل، الحديث المخرج في الصحيحين ليس في هذا، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: ووقع في رواية إسحاق ابن راشد وفي رواية معمر: "فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسوله ﷺ عند أم سلمة" وهذا سيذكره بعد قليل في الكلام على الفراشي أنه كان في فراش أم سلمه -رضي الله عنها-، لكن هذه الرواية ليست في الصحيحين[12].
قال -رحمه الله-:
"النوع السابع والثامن: الصيفي والشتائي؛ الأول كآية الكلالة، والثاني: كآيات العشر في براءة عائشة".
الصيفي والشتائي: هذا كما سبق فيما ذكرت من الأمرين، تفريق هذا في نوعين، ومن جهة أيضًا الفائدة المترتبة عليه، ليس هناك فائدة تذكر إلا ما ذكرت من دلالته على عناية الأمة لهذا القرآن، يقول: الأول يعني الصيفي كأية الكلالة، وهي الآية التي في آخر سورة النساء، وهذا يدل عليه ما أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب يقول "ما راجعت رسول الله ﷺ في شيء ما راجعته في الكلالة" وفيه أن النبي ﷺ قال له: يا عمر ألا تكفيك آية الصيف؛ التي في آخر سورة النساء[13] هذا الشاهد، آية الصيف، هذا نص قاطع على هذا المعنى.
يقول: والثاني يعني: الشتائي كالآيات العشر في براءة عائشة، تأملوا معي هل الدليل الذي يستدل به فعلاً يدل على أنها نزلت في الشتاء، قصة الأفك معروفة، فيها حديث عائشة -رضي الله عنها- الطويل، وأول هذه الآيات التي نزلت في هذا الموضوع هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11] في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: في آخر الحديث لما نزلت على النبي ﷺ قالت: "فوالله ما رام رسول الله ﷺ مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء" يعني الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، قالت: "حتى أنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات"[14] لاحظوا الآن.
السيوطي -رحمه الله- يحتج بهذا: "أنحدر منه مثل الجمان وهو في يوم شات" أن هذه الآيات في قصة الأفك نزلت في الشتاء، هل هذا النص يمكن أن نقول فعلاً: أن هذا المعنى لا محيد عنه؟
ما يمكن أن نقطع بهذا، لكن نقول: أن هذا احتمال، لماذا نقول احتمال؟
هي تصف الحال الشديدة التي تعتري النبي ﷺ عند نزول الوحي تقول: حتى إنه في اليوم الشاتي لا يلزم أنها حينما نزلت كان في يوم شاتي، لكن هي تصف الشدة، تقول: حتى إنه في اليوم الشاتي كان يتفصد جبينه عرقًا، لكن حينما نزلت هذه الآيات، هل كان في يوم شاتي؟
ليس هذا اللفظ يدل على هذا المعنى دلالة قاطعة، يحتمل، لكن عندنا آيات أخرى نزلت في الشتاء مثل ماذا؟
الآن الآيات التي نزلت في قصة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9] واقعة الأحزاب وقعت في وقت شتاء، برد شديد، والروايات الواردة في حفر الخندق تدل على هذا "خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يحفرون في غداة باردة"[15] فالروايات تصف الحال التي كانوا عليها عند حفر الخندق عند وقعة الأحزاب، فنقول مثل هذه الآيات نزلت شتاءً، والله أعلم.
قال -رحمه الله-:
الفراشي يعني: ما نزل في الفراش، بعضهم، أو كما يقول المؤلف في الإتقان: الفراشي والنومي[16] والتعبير بالفراشي أحسن من التعبير بالنوم، يقول: كآية الثلاثة الذين خلفوا بناء على ماذا؟
بناء على حديث كعب الرواية التي ظن بعضهم أنها في الصحيحين، أنها نزلت في الثلث الأخير من الليل.
قال: "ويلحق به ما نزل وهو نائم كسورة الكوثر!" سورة الكوثر نزلت وهو نائم، نحن عندنا حديث أنس يقول: "بينما رسول الله ﷺ بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة" لاحظوا أغفى إغفاءة "ثم أفاق وهو يضحك ﷺ ويقول: أنزلت علي آنفًا سورة إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]"[17] قرأ السورة.
فالحاصل انظروا أولاً هل هذا فيه ما يدل على أنها نزلت في الليل؟ لا.
الأمر الثاني: هل هذا يدل على أن النبي ﷺ كان نائمًا حينما نزلت عليه؟
ليس ذلك بالضرورة، النبي ﷺ جالس بين أصحابه فأغفى إغفاءة، قد يكون المراد بذلك هي الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحى؛ ولهذا فإن بعض أهل العلم نفى وأنكر ومنع أن يكون شيء من القرآن نزل على النبي ﷺ وهو نائم، وقال: إن الله قد رد على المشركين حينما قالوا: أضغاث أحلام، فلو نزل عليه شيء من القرآن في حال النوم لربما احتجوا عليه بذلك، مع أن هذا ليس فيه، لكن قالوا: إن كل ما نزل على النبي ﷺ من القرآن هو في حال اليقظة، لكن الرؤية الصالحة هي جزء -كما هو معلوم- من ستة وأربعين جزءً من النبوة.
فعلى كل حال هل نزل شيء من القرآن في حال النوم؟
من يقول: نعم، يحتج بحديث أنس هذا، ومن يمنع يفسر هذه الإغفاءة بالحالة التي كانت تحصل للنبي ﷺ عند نزول الوحي، ولعل هذا أحسن، والله تعالى أعلم.
قال -رحمه الله-:
"النوع العاشر أسباب النزول، وفيه تصانيف؛ وما روي فيه عن صحابي؛ فمرفوع، فإن كان بلا سند؛ فمنقطع، أو تابعي؛ فمرسل، وصح به أشياء كقصة الأفك، والسعي، وآية الحجاب، والصلاة خلف المقام، وعَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم:5] الآية".
أسباب النزول هذا المبحث، أو هذا النوع هو من أنفع الأنواع، ومن أجلها؛ لأن معرفة أسباب النزول تفيد في معرفة التفسير والمعنى، فأحيانًا يتوقف المعنى على معرفة أسباب النزول أحيانًا، وأحيانًا يرتفع به الإشكال، وأحيانًا قد تنفى به تهمة، أو تثبت فيه مزية، وأحيانًا لا يترتب عليه شيء، فإذا قرأ الإنسان قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] الآية، ما معنى هذه الآية؟
يعرف المعنى إذا عرف سبب النزول، فمن العرب من كان يتدين لله إذا أحرم بالحج، أو العمرة وأنه من محظورات الإحرام ألا يدخل بيتًا، فإن احتاج فإنه يتسور، ما يدخل مع الباب هذا من محظورات الإحرام، فالله يقول لهم: هذا ليس من البر أن تأتوا البيوت من ظهورها! وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا فهذا الآن فهمنا الآية بعد ما عرفنا سبب النزول.
في قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] تعرفون سؤال عروة بن الزبير لما سئل عائشة -رضي الله عنها- عن هذه الآية؛ لأن ظاهرها قد يفهم منه أن السعي بين الصفا والمروة لا يجب فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا لا حرج عليه، عائشة -رضي الله عنها- أنكرت عليه هذا الفهم وقالت: لو كان كما أردت لقال: "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما"[18] لكن عروة ابن الزبير عربي قح، وفهم هذا الفهم.
فهذا فهم متوجه من جهة العربية ولم يفهمه عروة بن الزبير، بل فهمة آخرون ولهذا قال بعض الأئمة بأن السعي بين الصفا والمروة سنة، وليس بواجب؛ بناء على هذه الآية لاحظتم! لكن إذا عرف سبب النزول؛ انتفى الإشكال كان على الصفا أصنام أساف ونائلة كانوا يرون أن ذلك كما في حديث أنس أنه من أعمال الجاهلية السعي بين الصفا والمروة، فلما أسلموا تحرجوا من السعي بينهما[19] كانوا يخشون أن هذا من إحياء مآثر الجاهلية وأعمال الجاهلية، فبين الله لهم إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لا علاقة لها بالجاهلية فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158].
ففي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- كان الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ[20].
وهكذا أيضًا في الصحيح عن عاصم بن سليمان قال: "سألتُ أنسًا عن الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية! فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، وما سعينا، فأنزل الله تعالى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ"[21].
فالمقصود: أنه أحيانًا قد يتوقف فهم الآية على معرفة سبب النزول، وأحيانًا يبقى شيء من الإشكال والغموض، فيرتفع إذا عرف سبب النزول، وأحيانًا تنفى تهمة مثلما سبق في بعض المناسبات في قوله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا [الأحقاف:17] فمروان كان يقول: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، في القصة المعروفة، لما رد عليه وهو يخطب، فعائشة -رضي الله عنها- ردت هذا.
وهكذا أيضًا قد تثبت فيه مزية لأحد من الناس، مثل الآيات التي ذكرها هنا قال: "والسعي وآية الحجاب والصلاة خلف المقام وعَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم:5] الآية" ففي الصحيح من حديث أنس أن عمر قال: "وافقت ربي في ثلاث" مزية ومنقبة لعمر، قال: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]"[22].
وقال أيضًا هنا في الحجاب كان يقول للنبي ﷺ أن نسائك يدخل عليهن البر والفاجر؛ فنزلت آية الحجاب"[23].
وأيضًا قال لأزواج النبي ﷺ في قصة الايلاء المعروفة: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ [التحريم:5]... الخ فنزلت الآية موافقة لقول عمر -رضي الله عنه وأرضاه-[24].
قال -رحمه الله-:
على كل حال قبل أن أجاوز موضوع أسباب النزول الكتب في أسباب النزول كثيرة؛ منها كتب مسندة، ومنها كتب غير مسندة، ومن الكتب المسندة كتاب الواحدي، لكن فيه الصحيح والضعيف، والسيوطي حاول أن يجمع ما أمكنه من الروايات، لكنه حذف الأسانيد في كتابه لباب النقول، فيه الصحيح والضعيف، لكن هناك كتب أخرى بعض هذه الكتب اعتنى بالصحيح، وبعض هذه الكتب ميز الصحيح من الضعيف، ففيه كتاب خاص بالصحيح من الروايات لأسباب النزول للعلي، وهناك أيضا كتاب يذكر الصحيح والضعيف ويبين أن هذا صحيح وأن هذا ضعيف اسمه الاستيعاب في ثلاث مجلدات، وهناك أيضا كتاب حسن الترتيب، جيد ومفيد في هذا الباب، في مجلدين اسمه: "المحرر في أسباب النزول"، وللحافظ ابن حجر -رحمه الله- كتاب اسمه: "العجاب" مات عنه وهو مسوده وطبع في مجلدين، لكن الحافظ -رحمه الله- ما أتمه، فهو من أوسع الكتب؛ بل هو أوسع ما وقفنا عليه في أسباب النزول، يتكلم عن الروايات ويخرج ويطيل النفس في هذا.
يقول: النوع الحادي عشر، أول ما نزل، ثم ذكر النوع الثاني عشر، آخر ما نزل، وهذا كله يمكن أن يجعل أيضا في نوع واحد، يقال: أول ما نزل وآخر ما نزل.
ومعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل هذا يحتاج إليه طالب العلم؛ فبه يعرف النسخ، وبه أيضًا يتعرف على سير التشريع التدرج فيه، وأيضا نعرف بذلك أيضا تاريخ القرآن، وما نزل منه ابتداءً بإطلاق، وما نزل في بعض الأبواب خاصة، وما هو آخر ما نزل.
على كل حال يقول: الأصح أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1] يعني الأصح يدل على أن هناك أقوال أخرى، لكن الأصح منها الأرجح: أن أول ما نزل هو (اقرأ)، والمقصود: هنا أول ما نزل من القرآن بإطلاق، ليس أول ما نزل في موضوع معين، وهناك آيات نزلت في موضوعات معينه، أول ما نزل في الأشربة، أول ما نزل في القتال، وهكذا.
يقول اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1] ويدل على هذا حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين "أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وفيه: حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء جاءه الملك فيه فقال اقرأ قال رسول الله ﷺ: فقلت ما أنا بقارئ إلى أن قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] حتى بلغ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]"[25].
فهذا أول ما طرق سمع النبي ﷺ من القرآن هذا هو الراجح وهو الذي عليه الجماهير من أهل العلم.
يقول: ثم المدثر، ولذلك يقولون: نبأ باقرأ، وأرسل بالمدثر؛ لأن النبي ﷺ حينما فزع لما رأى الملك وقال له ما قال؛ رجع، فقال لأهله: دثروني فأنزل الله يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]"[26].
ومن أهل العلم من يقول: إن أول ما نزل هو المدثر، ويحتج على هذا بما في الصحيحين عن أبي سلمه بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله، أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] قلت: أو (اقرأ) قال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله ﷺ: إني جاورت بحراء فلما قضيت جواري؛ نزلت، فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي... إلى أن قال: ثم نظرت إلى السماء فإذا هو -يعني جبريل-، فأخذتني رجفة فأتيت خديجة، فأمرتهم، فدثروني، فأنزل الله يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ[27].
الآن ظاهر هذه الرواية: أن أول ما نزل، طبعا جابر بن عبد الله يصرح بهذا، لكن إذا نظرت إلى كلام النبي ﷺ فإن ظاهره أن أول ما نزل عليه: هو المدثر، فهو حينما رأى الملك؛ أخذته رجفة، كأنه أول مرة يراه، والنبي ﷺ إنما رآه في المرة الأولى حينما كان في غار حراء، فنزل عليه باقرأ، لكن يمكن أن يجاب عن هذا بما في الصحيحين أيضًا عن أبي سلمه عن جابر قال: "سمعت رسول الله ﷺ: وهو يحدث عن فترة الوحي" لاحظ هذه الرواية يحدث هذه الجملة بغاية الأهمية، يحدث عن فترة الوحي؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن مراده بذلك أول ما نزل، أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي بعد الانقطاع، يقول: "سمعت رسول الله ﷺ وهو يحدث عن فترة الوحي" إذًا كان فيه وحي، ثم بعد ذلك حصل انقطاع، فأول ما نزل كان (اقرأ) في حراء حصل انقطاع، ثم بعد ذلك جاءه الملك بـ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] يقول فقال في حديثه بين أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء رفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء هذا موضع ثاني، موضع أخر يدل على أن أول ما نزل (اقرأ) من نفس هذا الحديث حديث جابر : فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت، فقلت: زملوني، فدثروني، فأنزل الله يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ[28].
على كل حال يقول: "وبالمدينة" يعني: أول ما نزل في المدينة لاحظ الآن الأول الذي ذكره هو أول ما نزل بإطلاق، وهنا أول ما نزل بقيد، يعني: أول ما نزل في المدينة ما هو؟
أول ما نزل في الأطعمة، أول ما نزل في الأشربة، فهنا أول ما نزل في المدينة يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1] وقيل: البقرة، على كل حال بعضهم يقول: سورة إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] لكن كل هذه الروايات مرسلة، لا يصح منها شيء، حتى الروايات التي تسرد سور القرآن مرتبة بحسب النزول لا يصح منها شيء.
لكن نقول: بأن سورة المطففين هي من أول ما نزل على النبي ﷺ في المدينة، وسورة البقرة كانت من أول ما نزل، وسورة المائدة كانت من آخر ما نزل، كما أن سورة براءة من آخر ما نزل.
قال -رحمه الله-:
النوع الثاني عشر آخر ما نزل، قيل: آية الكلالة، يعني آخر ما نزل بإطلاق، ليس في موضوع معين، قيل: وحينما يقول: قيل؛ فهذا إشارة إلى تضعيف هذا القول، آية الكلالة، ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: "آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ[النساء:176]، وآخر سورة نزلت براءة"[29].
هذا قول البراء بن عازب والصحابة قد يجتهدون، وقد يحمل ذلك على معنى، يعني: قد يقول قائل: إنه قال: آخر آية نزلت آية الكلالة، يعني: آخر آية نزلت في موضوع الفرائض، يعني: قد تكون المناسبة قال فيها هذا الكلام كان الحديث فيه عن موضوع الفرائض والمواريث، قد يكون، فنحن ما نقلت لنا المناسبة، فإذا كان الحديث عن موضوع الفرائض وقال قائل: آخر آية هي آية: يَسْتَفْتُونَكَ [النساء:176] آية الكلالة، فهذا لا أشكال فيه، فهي آخر آية في باب، أو في موضوع معين.
وقيل: "آية الربا" ففي الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "آخر آية نزلت آية الربا"[30] وعند البيهقي في الدلائل عن عمر كذلك، مثل هذا[31].
وأخرج أبو عبيد عن الزهري -والزهري من التابعين- قال: "آخر القرآن عهدًا بالعرش: آية الربا وآية الدين"[32] وهذا مما يذكر بالمناسبة عند الكلام على أن جبريل كان يتلقى القرآن من الله مباشرة، ما كان يأخذه من اللوح المحفوظ، ولا من بيت العزة، ولا من الصحف التي بأيدي الملائكة، آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا، وآية الدين.
وعند أحمد وابن ماجه، عن عمر: "من آخر ما نزل آية الربا"[33] ومن هذه لا تدل على أن هذا.
يقول: وقيل: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] فقد أخرج النسائي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]"[34] وعلى كل حال الصحابة قد يجتهدون، وما اختلفت أقوالهم هذا الاختلاف إلا لوقوع الاجتهاد منهم.
قال: وقيل: آخر براءة، يعني: قوله -تبارك وتعالى-: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128] الآية، وقد أخرج الحاكم عن أُبي بن كعب قال: آخر آية نزلت: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة"[35].
يقول: وقيل: "آخر سورة:" لاحظ، ما هو آخر سورة النصر، لا، ضع نقطتين بعد سورة، وقيل: (آخر سورة: النصر).
وأخرج مسلم في صحيحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- آخر سورة نزلت إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]"[36].
وقيل: براءة، فعند الحاكم عن عثمان : "بأن براءة من آخر القرآن نزولاً"[37].
على كل حال، بعض الأقوال يمكن أن توجه، وبعض هذه الأقوال يمكن أن يجمع مع غيره، ولهذا يمكن أن نقول: أن ما جاء من آية الكلالة هي آخر ما نزل، أن المقصود بذلك في موضوع المواريث، آخر ما نزل في المواريث، وأما ما يتعلق بسورة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[النصر:1] فهي آخر سورة نزلت على النبي ﷺ، آخر سورة نزلت كاملة هي سورة النصر، وأما سورة المائدة فهي آخر سورة نزلت تتضمن الأحكام العملية، وفيما يتعلق بالجهاد وما إلى ذلك سورة براءة.
فهذه السور آخر ما نزل على النبي ﷺ أما الآيات فيمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- بأن الآيات الثلاثة نزلت جميعًا، آية الربا وآية وَاتَّقُوا يَوْمًا [البقرة:281] وآية الدين، نزلت مجتمعة، وهذا الذي أختاره الحافظ ابن حجر -رحمه الله-[38]، فمن قال: بأن الآية الفلانية من هذه الآيات هي آخر ما نزل، فهذا صحيح، لكن لم تكن بمفردها وإنما نزلت معها الآيات الأخرى، والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، برقم (4177).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]، برقم (4608).
- انظر: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، للبيهقي (7/144). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن السائب الكلبي، وهو كذاب. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي (4/120).
- أخرجه أحمد في مسنده، برقم (1556)، وهو ضعيف. انظر: خريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن، لسيد قطب - رحمه الله -، لعلوي السقاف (1/229).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19]، برقم (4743).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4407)، ومسلم، كتاب الإيمان برقم (3017).
- انظر: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، للبيهقي (3/288). قال ابن عدي: تفرد صالح، والمعلوم أنه متروك. انظر: نزهة الألباب في قول الترمذي «وفي الباب، لأبي الفضل الوائلي (4/2297).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، ومن لم ير الإعادة على من سها، فصلى إلى غير القبلة، برقم (403)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، برقم (526).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، برقم (40).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، برقم (4795)، ومسلم، كتاب السلام، باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان، برقم (2170).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، برقم (4677).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، برقم (4677).
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها، برقم (567).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث، برقم (4141).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب التحريض على القتال، برقم (2834).
- انظر: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/17).
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة، برقم (400).
- انظر: أحكام القرآن الكريم، للطحاوي (2/94).
- انظر: أسباب نزول القرآن، للنيسابوري (49).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله، برقم (1643)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، برقم (1277).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]، برقم (4496).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، ومن لم ير الإعادة على من سها، فصلى إلى غير القبلة، برقم (402)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل عمر -رضي الله تعالى عنه-، برقم (2399).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، ومن لم ير الإعادة على من سها، فصلى إلى غير القبلة، برقم (402).
- أخرجه البخاري، كتاب 65 - كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}، برقم (4916).
- أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة، برقم (6982)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (160).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَدًّا وَلاَ سُواعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} [نوح:23]، برقم (4922)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (161).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَدًّا وَلاَ سُواعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} [نوح:23]، برقم (4922)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (161).
- أخرجه البخاري، بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، برقم (4)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (161).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ} [التوبة:1]، برقم (4654).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، برقم (4544).
- أخرجه البيهقي في دلائل النبوة. انظر دلائل النبوة، للبيهقي (7/138)، وصححه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، برقم (2806).
- انظر: فضائل القرآن، للقاسم بن سلام (369).
- أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، برقم (2276)، وأحمد في مسنده، برقم (245).
- أخرجه النسائي في السنن الكبرى، سورة البقرة، باب قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [البقرة:281]، برقم (10991)، وإسناده صحيح. انظر: سلسلة الآثار الصحيحة أو الصحيح المسند من أقوال الصحابة والتابعين، لأبي عبد الله الداني (1/217).
- أخرجه الحكام في مستدركه، كتاب، باب، برقم (3296)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (4490).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة، برقم (3024).
- أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، برقم (2875)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (2222).
- انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر (8/205).