الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول: الغريب: ومرجعه النقل، المقصود بالغريب يعني: من الألفاظ -ألفاظ القرآن-، والغريب جمع فيه أشياء، وصنَّف فيه علماء منذ أوقات وأزمنه بعيدة، ومن أوائل المصنفين فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى، والكتب في هذا الباب -باب الغريب- كثيرة، وكثيرًا ما يسأل الناس عن ذلك، من هذه الكتب ومن أشهرها وأنفعها: كتاب "غريب القرآن" للسجستاني، توفى سنة 330 للهجرة، هذا بقي في تأليفه 15 سنة، وكان يقرأه على شيخه ابن الأنباري- رحمه الله-، 15 سنة من إمام عالم في اللغة والتفسير، ويقرأه على إمام من أئمة اللغة ابن الأنباري 15 سنة! وهذا لا يستغرب، فإنك إذا نظرت في كثير من الألفاظ التي هي من هذا القبيل -قبيل الغريب-؛ تجد أنك تحتاج إذا أردت أن تحقِّق أو تكتب كتابة محققة فيها، تحتاج إلى النظر مرَّةً بعد مرَّة والمقارنة والتدقيق؛ لأنَّ بعض هذه الألفاظ له معاني كثيرة في التفسير، وفي اللغة، فأحيانًا تكون هذه المعاني جميعًا صحيحة وداخلة تحته، فتحتاج أن تعبر عنها بعبارة تشملها وتتضمنها جميعًا، وأحيانًا لا بد من الترجيح أحد هذه المعاني، وأحيانًا في هذا الموضع ترجح هذا المعنى، المسألة تحتاج إلى تحرير، وليست بهذه السهولة التي قد يتصورها بعض الناس، ومن الكتب في الغريب: كتاب "العمدة في غريب القرآن"، وهو مطبوعٌ في مجلد، المنسوب لمكي بن أبي طالب متوفى سنة 437هـ، وهذا الكتاب -بغض النظر عن صحة نسبة هذا الكتاب إلى مكي -رحمه الله-، لكن هذا الكتاب من أسهل كتب الغريب لمن أراد أن يحفظ، يعني كتب الغريب التي يذكرها مثل كتاب السجستاني، أو ما سأذكره بعد ذلك، لربما في كثير من المواضع لا يعنون بتفسير اللفظة بلفظة –مثلاً-، وإنما يعبرون عنها بعبارة، أو بجملةٍ لربما تبلغ سطرًا، أو سطرين، أو ثلاثة، وهذا يصعب على من أراد الحفظ، لكن من أراد أن يحفظ في الغريب بحيث يعبر عن اللفظة بلفظة، فكتاب العمدة من أحسنها، وأنسبها من هذه الحيثية، وهناك كتاب آخر وهو: "غريب القرآن وتفسيره"، لابن اليزيدي المتوفى سنة 237 للهجرة، وكتاب آخر لابن الجوزي مطبوع في مجلدين اسمه: "تذكرة الأريب"، وهناك أيضًا كتاب لمكي بن أبي طالب اسمه: "تفسير المشكل من غريب القرآن"، ومن الكتب –أيضًا-: "بهجة الأريب في بيان ما في كتاب الله العزيز من الغريب"، لعلي التركماني توفي سنة 750 للهجرة، وهنا "معجم غريب القرآن لصحيح البخاري"، الذي جمعه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، وجل ذلك مما رواه على ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وضمنة –أيضًا- مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو مطبوع ومفيد، ومن الكتب المفيدة في هذا: كتاب "المعجم الجامع في مفردات غريب القرآن"، الذي جمعه الأستاذ عبد العزيز السيروان في مجلد، هذا جمع فيه أربعة كتب من أشهر الكتب المعروفة في الغريب، وهذا الكتاب الذي جمعه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وكتاب ابن قتيبة تفسير المشكل، وأيضًا كتاب مكي بن أبي طالب الذي هو العمدة، وكتاب أبي حيان، -أيضًا- هذه أربعة كتب جمعها ورتبها على حروف المعجم، وجعل لكل كتاب رمزًا، فصار يورد عند الكلمة الواحدة يضع أمامها الألفاظ التي فسرت بها من هذه الكتب، وأمام كل لفظة الرمز، يعني: أن هذا فسرها به فلان، وهكذا فهذا مفيد، وهذه الكتب التي ذكرتها هي بالطريقة التي وصفت حيث يعبرون عن اللفظة بجملة، أو بعبارة لربما لا تكون منحصرة في لفظة واحدة، فيصعب الحفظ كل هذه الكتب التي ذكرت، -وعلى كل حال- أقول: الغريب ينبغي العناية به، وأظن لو أن الإخوان في الحلقات القرآنية قرَّروا على الطلاب في حلقاتهم أنَّه لا بد من معرفة الغريب، إذا حفظ سورة يختبر في الغريب، وهذا أولى بكثير في نظري من تدريس اللغة العربية في الحلقات القرآنية، دروس في النحو، أو النحو التطبيقي، أو غير هذا، النحو مهمٌّ لكن ليس مجاله الحلقات القرآنية، لكن لو يدرسونهم الغريب على الأقل هذا نافع جدًا، والإنسان لو نظرتم في فهارس بعض هذه الكتب عدد من هذه الكتب تجدونهم في الفهارس يذكرون الألفاظ الغريبة التي ذكرت في الكتاب سردًا في صفحات مرتبة على حروف المعجم –مثلاً- على سبيل فهرسة، فأحيان يذكرون هذه الألفاظ ومعانيها سردًا على حروف المعجم، فقد تقرأ في مجلس واحد؛ لأنَّه يطول الكتاب أحيانًا بسبب ذكر الآيات كمرتب على السور –مثلاً-، فالأمر سهل جدًا، هذا لو أن الانسان خصص لنفسة ختمة بشهر، أو في أقل من شهر، وأخذ كتابًا من كتب الغريب هذه ونظر فيه من الكتب هناك كتب معاصرة، أيضًا كتاب الشيخ محمد حسنين مخلوف هامش على المصحف ومفيد مختصر، وهناك كتابات أخرى.
-على كل حال- من الناس من انتقى من بعض التفاسير، هذا وُجد قديمًا وحديثًا؛ ابن صُمادح استخلص من تفسير ابن جرير الطبري، مطبوعًا على هامش المصحف، وكذلك بعضهم استخرج من تفاسير أخرى، والعجيب أن بعضهم استخرج الغريب من تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي- رحمه الله-، مع أن تفسير الشيخ عبد الرحمن سعدي- رحمه الله- يعنى بالناحية الإجمالية، فهذا من الغرائب والعجائب، هذه الكتب تعتبر كتب مختصرة، ومن أوسع من الكتب في الغريب: الكتاب الذي ألَّفة الأصفهاني الرغب: "كتاب المفردات في غريب القرآن"، هذا كتاب يعتبر من أوسع الكتب في هذا الباب، يذكر ذلك بحسب حروف المعجم، فإذا ذكر الكلمة في موضع واحد؛ فإنَّه يأتي بها في المواضع المختلفة من القرآن، ويذكر معناها في كل موضع إذا كان المعنى يختلف، فمثل هذا لا يصلح لمن أراد أن يتعرف على الغريب بالطريقة التي ذكرتها، إنسانٌ يريد أن يعرف معاني غريب القرآن، وهو يريد أن يختم ختمة يتعرَّف بها على ما قد يشكل عليه من الألفاظ، فهذا سيأتيه باللفظة في المواضع المختلفة، ويطول عليه ذلك، لكن يصلح هذا لمن أراد أن يرجع إلى لفظةٍ لينظر ما هي معانيها في القرآن -مثلاً-، وهناك كتاب آخر اسمه: "كنز الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ"، للسمين الحلبي، وهو كتاب كبير مثل المفردات، الواقع أنه متضمن للمفردات وفيه بعض الاستدراكات والإضافات القليلة، استدرك على الراغب بعض الاشياء، يقول المفروض أنه ما أورد هذه اللفظة –مثلاً- ما وردت في القرآن، أو يقول بأنه أغفل بعض الألفاظ، فأضاف بعض الإضافات، لكن في نظري أن من عنده كتاب كنز الحفاظ يستغني به عن المفردات، ومن عنده المفردات يكاد يستغني، يعني غير المتخصصين لا حاجة لهم في أن يجمعوا هذا وهذا، والحلبي- رحمه الله- عالم كبير معروف في التفسير، وهو من علماء العربية، من أبدع ما كتب كتابه المعروف "در المصون" مطبوع في 11 مجلد.
يقول: مرجعه النقل ما المقصود بقوله هذا؟ يعني:أنه لا مجال للاجتهاد فيه عندنا لفظة غريبة وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذا وَقَبَ[الفلق:3]، لفظتان:غاسق ووقب، هل هنا الإنسان يجتهد في بيان معنى الغاسق أو وقب؟ لا مرجعه إلى النقل ماذا يفعل حتى يعرف غاسق أو يعرف معنى وقب؟ حتى لو كان عالمًا يرجع إلى الكتب، كلام أهل اللغة، والصحابة كانوا يرجعون إلى هذا.
نظرت من المنقول عنهم في ذلك كابن عباس وغير ابن عباس، حتى مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس يفسر له لفظة، ويسأله يقول له: أين تعرف العرب هذا؟ فيأتي له بالشاهد، فمرجعه إلى النقل، لا مجال للاجتهاد فيه، لكن مجال الاجتهاد هو أنه: هل هذه اللفظة إذا كان لها أكثر من معنى هل هذا المعنى مراد هنا؟ أو جميع المعاني مرادة؟ هذا الذي يدخل فيه الاجتهاد .
إذًا المعرِّب هو: اللفظ الذي استعملته العرب في معنى وضع له في غير لغتهم، هو لفظ أعجمي، استعملته العرب في معناه الذي وضعته له الأعاجم، فاستعمله العرب، هذا الاستعمال -يعني- قد توجد لفظة متوافقة بين لغتين، لكن العرب تطلقها على معنى، والأعجام يطلقونها على معنى؛ ليس هذا هو المراد، المراد لفظة في أصلها أعجمية استعملتها العرب في نفس الاستعمال الذي استعملها الأعاجم، فهذا يُقال له المعرب، باعتبار أنه نقل إلى اللغة العربية، وشاع استعماله فذاب في لغة العرب، وتعاملوا معه تعاملهم بالألفاظ العربية بطريقة النطق، وما إلى ذلك؛ لأنَّ العرب يغيرون فيكيفون الألفاظ بما يتناسب مع ألسنتهم، يتصرفون بها فلا يؤدونها كما يؤديها الأعاجم، ولهذا تجدون من العبارات التي قد توجد هنا وهناك، أو يوجد معناها عند الشاطبي، وبعضهم يصرحِّ بها يقولون: أعجمي فالعب به، ما معنى فالعب به؟ يعني تصرف معه بالطريقة كيِّفه بالطريقة التي تصلح مع اللسان العربي، فمن كان لسانه عربيًا فإنه قد يصعب عليه النطق ببعض الكلمات الأعجمية بنفس الطريقة التي تنطق بها الأعاجم، إلا بطريقةٍ يلوي بها لسانه، وللأسف بعض الناس اليوم يرون أن هذا من المفاخر والمآثر والقُدَر التي لربما يترفعون بها ويفتخرون بها، وما علموا أن هذا من الأمور التي ليست على طريقة العرب في كلامهم، وإنما يغيرون ويتصرفون في الألفاظ الأعجمية، فهذا النقل وهذا التصرف بهذه الألفاظ جعلتها كأنها من لغتهم، بطبيعة الحال ليس هذا محل اتفاق بين أهل العلم أن هذه الألفاظ أعجمية في أصلها، لكن عند من يقول بأن أصلها أعجمية يقولون: نقلها العرب فصاروا يستعملونها في لغتهم، فنزل القرآن وهي من جملة كلامهم الذي يتكلمون به، فصحَّ أن يُقال بأن القرآن بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195]؛ لأن ذلك مما ذاب في لغتهم، ودخل فيها، ويقولون بأن الكلمات القليلة في الكلام الكثير لا تؤثر، ولا تنقل الحكم من كونه عربيًا إلى شيء آخر؛ إلى أنه كلام أعجمي -مثلاً- كلمات قليلة، والعبرة بالأكثر والأغلب، هكذا يقولون ويبررون ويجيبون عن هذا السؤال أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فكيف تقولون فيه ألفاظ أعجمية؟ يجيبون بهذا الجواب، مع أن من أهل العلم الكبار -مثل كبير المفسرين ابن جرير الطبري، والإمام الشافعي، وإمام اللغة وهو أحمد بن فارس، وأمثال هؤلاء- ينكرون وجود المعرب، بعضهم يقول، لماذا لا نقلب القضية الله قال عن القرآن بأنه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] فهذا جزمًا، فلماذا لا نقول هذه ألفاظ عربية استعملتها العجم، ونقلتها من اللغة العربية؟ لماذا نجعل لهم الأصل؟ وما الدليل على أنهم هم تكلموا به أولاً؟ والله يخبرنا عن القرآن أنه بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ؟ هذه عربية وهم الذين أخذوها، فهذا المعجم عندهم، وبعضهم يقول لا مانع من توارد اللغات فتستعمل تتفق في لفظة واحدة، وتطلقها على معنى متحد، ولا يقال عنها بأنَّها عربية ولا أعجمية، طبعًا الكلام في هذه القضية في نوع معين؛ لأنهم يتفقون على شيئين، وإنما خلاف في هذا النَّوع الثالث:
هناك الأعلام: فالأعلام تنطق كما هي، لذلك إذا جئت تقول: خالد، من الخطاء أنك تقول: كالد، أسمي خالد، أو تقول أهمد تتحول إلى أعجمي، الاسم ينطق كما هو تقول: أحمد، وما عليهم إلا أن يتعلموا كيف ينطقون الحاء والخاء، ولو لم تكن لها حروف عندهم في لغتهم، فهذا بالنسبة للأسماء تنطق كما هي -بصرف النظر- يعني: بعض أهل العلم يقول هذه الأسماء لا توصف –أيضًا- بأنها أعجمية، أو عربية، وهذا قد لا يخلو من تكلف، فهي تنطق بها كما هي، ولذلك يقولون أسماء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وأسماء الملائكة كلها أعجمية، ويستثنون من أسماء الأنبياء أربعه الواردة في القرآن، محمد ﷺ، وشعيب، وصالح، وهود، يقولون هذه الأسماء الأربعة عربية والباقي أعجمي، فهذا ليس الكلام فيه الأسماء تقال كما هي.
القسم الثاني: مما اتفقوا عليه أنه لا يوجد في القرآن تركيب أعجمي قطعًا، ولم يقل بهذا أحد، لا يوجد تراكيب أعجمية.
بقي القسم الثالث: وهو الألفاظ المنكَّرة، ليست أسماء الاعلام ولا تراكيب، وإنما الألفاظ المنكرة، مثل:استبرق، مشكاة، سندس، وما شابه ذلك، فهذه، هل يقال لها أعجمية، أو عربية؟ الخلاف في هذا، فلهذا يقول صاحب المراقي في المعرب[1]:
ما استعمل فيما له جا العرب | في غير ما لغتهم معرب |
ثم ذكر الأقسام:
ما كان منهم مثل إسماعيل | ويوسف قد جاء في التنزيل |
يعني هذا موجود الأعلام إن كان منه؛ لأن بعضهم يقول هذه لا يقال لها أعجمية
إن كان منه واختيار الأكثر | والشافعي النفي للمنكر |
الذي فيه الخلاف الذي ذكرت يقول الأكثر ومنهم الشافعي، نفوا وجود المعرب في القرآن في القسم الذي فيه الخلاف الذي هو المنكر؛ أما التراكيب، فلا حاجة للتنبيه، أو التطويل، أو الإيضاح بأنها لا توجد بأنها لا يقول أحد بهذا التركيب، أعجمي جملة أعجمية هذا غير موجود، هو تكذيب للقرآن نزل بلسان عربي مبين، -على كل حالٍ- ألَّف فيه جماعة، منهم ممن كتب في ذلك في رساله صغيرة جدًا مطبوعة طبعة قديمة، يمكن من عام 1356رسالة صغيرة لأحد علماء الأزهر، لكنها تحوي ألفاظًا كثيرة، يعني فيها نحو -تقريبًا- 121 لفظة، والسيوطي له كتاب تعتبر أوسع ما وقفت عليه في ذلك، يقال له: "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب"، مطبوع طبعة مغربية، ذكر فيه ألفاظ جداول التي يقول عنها معربة، وأتبعه بملحق، أو ما يشبه الملحق في أبيات للتاج السبكي، ذكر فيها نظمًا حوى سبعًا وعشرين لفظة، قال أنها من المعرب، ثم هناك نظم كمل فيها الحافظ ابن حجر ما ذكره التاج السبكي، ذكر فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله 24 لفظة، زيادة على ما ذكره التاج السبكي، والسيوطي زاد عليها -أيضًا استدرك عليهم- فذكر نحو 72 لفظة.
يقول: كالمشكاة، تعرفون المشكاة؟ هي مثل النافذة لكنها غير مطلة إلى الخارج، يعني: يوضع فيها السراج، وكذا البيوت قديمًا إلى عهد قريب، يعني يضعون فيها سراج أو نحوه، فهذه المشكاة يقولون أن أصلها حبشي.
والكفل: يقولون هو أصله حبشي، يعني بمعنى الضعف يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ [الحديد:28] يعني: ضعفين.
(والأواه) يقولون –أيضًا-:حبشي، بمعنى الرحيم.
(والسجيل) يقولون: بأنه فارسي: يعني: الطين المشوي.
و(القسطاس) يقولون: رومي، بمعنى العدل، وهذه تجدونها جميعًا ذكرها البخاري تعليقًا.
لكن –طبعًا- هذا ليس محل اتفاق، بعضهم يقول هذه عربية -كما سبق-، وحتى هذه الألفاظ التي يقولون عنها بأنها أعجمية يختلفون، يعني: تجد اللفظة الواحدة أحيانًا بعضهم يقول: هذه حبشية، وبعضهم يقول: لا، رومية، وبعضهم يقول: فارسية.
وقد سألت كثيرًا الأعاجم بمختلف لغاتهم من الأحباش، ومن يعرفون الفارسية من الفرس، ومن غيرهم؛ لم أجد أحدًا في يومٍ قط يقول لي نعم هذه اللفظة معروفة عندنا في لغتنا، غاية ما يقولون: لعلها في اللغة القديمة، وأمَّا الآن فما نعرفها، ولا مستعملة والله أعلم، يعني:كون هذا يقول رومية، وهذا يقول حبشية؛ ما الذي يثبت هذا؟ وحتى لو ثبت من قال لكم أن أصلها حبشي؟ لماذا ما يكون الأحباش أخذوها من عندنا؟.
فمن الناحية النظرية لو قال قائل: بأنه يوجد ألفاظ معربة، هل هذا رد لقول الله: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[الشعراء:195]؟ أقول ليس بالضرورة لما سبق، لكن تقول هل تجزم بأنه يوجد من هذه الألفاظ ما هو أعجمي في أصله؟ أقول:-والله- لا أستطيع أن أجزم، الجزم بهذا صعب، قد يكون الأعاجم أخذوها! بمجرد ما وجدناها عند الأعاجم نقول أن أصلها أعجمي؟ لماذا نجعل لغة الأعاجم هي الأصل، والله أخبرنا أنه أنزل القرآن بلسان عربي مبين؟ فهذا كثير تجدونه في كتب التفسير، هذه اللفظة أصلها كذا، وتجد فيها أحيانًا ثلاثة أقوال أو نحو هذا، كل واحدٍ ينسبها إلى لغةٍ أخرى، نأخذ قول من؟ فالله أعلم.
يقول: "وجمعت نحو ستين، وأنكرها الجمهور، وقالوا بالتوافق" بالتوافق يعني: أنها استعملتها الأعاجم واستعملتها العرب، ليس الأصل فيها أنها أعجمية، وإنما اتفقت فيها اللغات.
قال- رحمه الله-:
نعم -على كل حال- هذا المختصر كما ترون مع شدة اختصاره، إلا أنه يعنى بهذه الأشياء، كما جاء بأشياء تتعلق بالأداء والآن في قضايا تتعلق بالمجاز وأنواع المجاز، كان بالإمكان الاستغناء عن هذا، والاقتصار على الموضوعات الأساسية، فيقول: المجاز، أنتم تعرفون المجاز عند القائل به هو: صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لقرينة، فهو استعمال للفظ في غير المعنى المتبادر، فهذا الصرف هو الذي يسمونه بالتأويل، ولهذا يقولون: بأن التأويل يأتي على حمار المجاز، ركب التأويل حمار المجاز ففعل فعله في النصوص، فالمتكلمون أوَّلوا نصوص الصفات وما شابه، والقرامطة والباطنية أوَّلوا نصوص المعاد، والحقائق الشرعية، فحصل بسبب ذلك فساد عريض، والعلماء -رحمهم الله- مختلفون: هل المجاز موجود في لغة العرب أو غير موجود؟ وإذا كان موجودًا هل يوجد في القرآن أو لا؟ فبعضهم يقول: غير موجود في لغة العرب؛ لأنَّ ذلك لا يعرف عنهم، وإنما وُجد في وقتٍ متأخر، بعد القرون المفضلة على يد المعتزلة، فحرَّفوا فيه النصوص، وأمَّا السَّلف فما كانوا يعرفون هذا، وأن هذه استعمالات للعرب في الألفاظ يحدد المراد السياق، ومقتضى الحال والقرائن، فيعرف مراد المتكلم فيتبادر ذلك إلى الذهن فهذا هو الحقيقة، أما القول بأن أصل هذه اللفظة -كما يقولون في المجاز- بأن اللفظة تستعمل في معنى غير المعنى الذي وضعت له ابتداءً، فيقولون: من قال أنها وضعت ابتداءً لهذا؟ فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم ينكرون المجاز أصلاً يقولون: ما هو موجود في لغة العرب، وتكلم عليه شيخ الإسلام في كتابه الإيمان الكبير[2]، وله رسالة في هذا الرساله المدنية –أيضًا-، وابن القيم أطال فيه، وسماه طاغوتًا في كتاب الصواعق المرسلة، وأبطله من وجوه كثيرة -عشرات الوجوه- وردَّ على القائلين به[3].
والشنقيطي -رحمه الله- له رساله نفيسة في هذا مطبوعة في بعض طبعات أضواء البيان في آخره، مطبوعة مستقلة اسمها "منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز".
وأكثر ما يستدل به المانعون للمجاز؛ هو أن المجاز يصح نفيه، فإذا قلت: رأيت أسدًا يقاتل الأعداء، تقصد الرجل الشجاع، فلقائل أن يقول: هذا ليس بأسد هذا رجل يصح نفيه، فتضطر أن تقول له: أنا قصدت أن أبين شجاعته، وإلا صحيح هو رجل وليس بأسد، يقولون: لأن كلمة أسد وضعت ابتداءً للحيوان المعروف المفترس، لكن لوجود هذا الرابط الذي هو الشجاعة أطلقت على هذا الرجل الشجاع الأسد، يعني: أطلقته على غير ما وضع له لهذه العلاقة، فيقولون إذا كان الأمر كذلك -يعني المجاز يصح نفيه- فالقرآن لا يوجد فيه شيءٌ يصح نفيه، فاذا قال الله وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] ما يمكن لأحد أن يقول القرية ما تُسأل، فيقولون هذا تكذيب للقرآن.
والذين يقولون بالمجاز يقولون: القرآن نزل بلغة العرب، وفي لغة العرب المجاز، وهذا من البلاغة، والفصاحة، والتَّوسع في الاستعمالات، ولا مانع منه، ولا يترتب عليه مثل هذا، وبعض الناس يقول: الخلاف لفظي.
والذين يقولون بالمنع من المجاز يقولون: لا الخلاف ليس بلفظي، بل القضية التي يقفون عندها، ويصرون عليها: قول لا يوجد في القرآن شيء يصح نفيه، وأنتم تقررون أن المجاز يصح نفيه، وتتفقون على هذا.
-وعلى كل حال- من أثبت المجاز فإنه لا يعني ذلك القدح في عقيدته، فقد أثبته كثير من أهل السنة، بل أكثرهم، ولكن لا يسلط على النصوص بحيث يعمل فيها التأويل فتحرف عن حقائقها، أو عن مراد الله فيها بهذا الشرط، ولا أقصد بهذا أني أقول أن المجاز موجود وصحيح، لكن أقصد من قال بهذا لا يقال أنه جاء بمنكر من القول وبانحراف لا، لكن حينما قال بالمجاز هل حرَّف في النصوص وإلا لا؟ ولهذا بعض من يقول به يقولون: نقول بالمجاز موجود في القرآن، لكن ليس موجود بنصوص الصفات –مثلاً- هكذا يقولون.
ومن أهل العلم من أثبته في اللغة، ولم يثبته في القرآن، وقد يقول قائل: أليس كل ما ثبت في اللغة ثبت في القرآن؟ بعضهم يقول لا يوجد في اللغة العربية أشياء لكنها غير مناسبة غير لائقة في القرآن الكريم، فمثلا يقول لك: القرآن لا يوجد فيه مجاز؛ لأنه يصح نفيه، فإن جاز في اللغة فإنه لا يجوز في القرآن، هكذا بعضهم يقول.
وهكذا اختلفوا في أشياء مثل المشترك والمترادف، هل هي موجودة في القرآن؟ مع أنها موجودة في لغة العرب على خلاف في الترادف، حتى القائل بوجود الترادف في اللغة بعضهم منعه -كما سيأتي- في القرآن، والسبب أنهم يقولون أن تكثير الألفاظ الدالة على معنى واحد هذا يحتاج إليه الناس الضعفاء، حيث يغيب عنهم التعبير بلفظة فيحتاجون إلى لفظة أخرى، والله مستغني عن ذلك، فلا يوجد مترادف، وهذا لا يخلو من إشكال.
-على كل حال- هذه خلاصة في موضوع المجاز، والإنسان إذا ترجَّح عنده أحد هذه الأقوال؛ فهذا إنما يكون بغلبة ظن، ونظرت إلى بعض عبارات المتقدمين مثل البخاري في خلق أفعال العباد تجد مثل هذه اللفظة مستعملة المجاز اللغة يقول النبي ﷺ: وجدته بحرًا[4] وجدناه بحرًا، يعني: الفرس، البخاري يورد مثل هذه الأشياء هل يقصد به المجاز الذي يقصده هؤلاء أو لا؟ بعض أهل العلم يقولون: لا ما يقصد هذا المعنى، وكذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى فهو متقدِّم مع أنه تُكلِّم فيه أنَّه من المعتزلة، وأنه من الخوارج فلا عبرة بكلامه، لكن له كتاب اسمه مجاز القرآن، لكن هل يقصد بكتاب مجاز القرآن المعنى الذي عرفة المتأخرون؟ ليس بالضرورة؛ لأن هذا مما يصوغ في القرآن مما يجوز في القرآن هذا الذي يقصد، لكن بعض الألفاظ جاءت في كلام بعض المتقدمين مثل البخاري.
يقول: "اختصار حذف" يعني: الآن ذكر نوعين، وهما متقاربان، مجاز الحذف أو مجاز الاختصار، فيحذف لفظة، يعني: كما يقول ابن جرير -رحمه الله- بأن العرب تستغني عن بعض الكلام ثقة بفهم السامع أو المخاطب، فيختصرون في الكلام، لا داعي للتطويل إذا كان المعنى مفهوم، والله يقول فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، هل يفهم من هذه الآية أن من كان مسافرًا يجب عليه أن يقضي ولو صام لا يصح صومه كما يُنقل عن بعض الظاهرية؟ الجواب: لا فيه مقدر محذوف فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184] فأيش فأفطر فَعِدَّةٌ وهذا يقتضيه الشرع هذا التقدير؛ لأنه ما يترتب الحكم فعدة من أيام أخر إلا إذا أفطر، فهذا له تعلق بجانب آخر اسمة دلالة الاقتضاء عند الأصوليين، فالاقتضاء أحيانًا يكون شرعي يعني الذي يطلب التقدير، هذا هو الشرع فلا بد من تقدير هذه حتى نرتب عليه وجوب القضاء "فأفطر"، وأحيانًا يكون الاقتضاء لغوي، وأحيانًا يكون عقليًا، وأحيانًا يكون عاديًا، يعني بمجاري العادات المهم، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا [يوسف:46] ما هو التقدير فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ في مقدر السامع مباشرة يفهم أنه ماذا؟ فأرسلوه، هو قال:فَأَرْسِلُونِ، ثم قال يوسف، المشهد بسرعة انتقل من حضرة الملك ومجلسه إلى المخاطبة في السجن، معناه: أنه فأرسلوه فذهب، لكن هذا التَّطويل ما له حاجة أن يقول الله : فَأَرْسِلُونِ فأرسلوه، فذهب إلى السجن، وقال:يا يوسف أفتنا، لا، يختصر ثقةً بفهم السامع أو المخاطب، وهكذا.
يقول: "اختصار حذف ترك خبر" يعني: يحذف الخبر، الآن حينما أقول لك –مثلاً- أحيانًا يحذف المبتدأ، وأحيانًا يحذف الخبر، لو سألتك قلت: أين زيد؟ ماذا تقول؟ انتبه تقول زيد موجود، تطول علينا بلا حاجة، ماذا تقول؟ في الخارج، أو موجود، ما هو التقدير؟ زيد موجود، فحذفنا المبتدأ، لماذا حذفنا؟ لماذا لم نأت بالكلام تاما؟ زيد موجود حتى لا تثقل على السامعين فحذف هذا من الاختصار، العرب تحذف هذه الأشياء.
وفي جواب كيف زيد قل دنف | فزيد استغني عنه إذ عرف[5] |
قل زيد دنف، يعني: مريض متعب، فزيدٌ استغني عنه إذ عُرف، ما تحتاج أن تقول: زيد دنف، جواب كيف زيد، مباشرة تقول: دنف، فاستغنيت عن زيد "زيد دنف" إذ عرف؛ لأنه معروف، وهو من محاسن اللغة.
يقول: "ترك خبر" فيترك أحيانًا المبتدأ، وأحيانًا يترك الخبر في قوله -تبارك تعالى- مثلاً: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18]بعضهم يقول: صبري صبرٌ جميلٌ، فيكون محذوف المبتدأ. وبعضهم يقول: صبرٌ جميلٌ صبري أن المحذوف الخبر، وهما قولان للمعربين، فإذا أخذنا بالقول الآخر فَصَبْرٌ جَمِيلٌ صبرٌ جميل ٌ صبري، فحذف الخبر.
وعلى كل حال يقول: "ترك خبر مفرد ومثنى وجمع عن بعضها" يعني يعبر بكل واحد عن الآخر، يعني: يستعمل كل واحد موضع الآخر، يعبر بالمفرد عن المثنى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة:62]، ما قال: أن يرضوهما، وقد تكلمت على هذه الأشياء في الكلام على قواعد التفسير، وتعليل هذا، قد يذكر شيئين ويعود الضمير إلى أحدهما؛ لاعتبار معين، ليدل على الآخر، أو لأنه هو المقصود أو غير ذلك من الاعتبارات، فهنا تعليلات -طبعًا- معروفة وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة:62]، ما قال: أن يرضوهما، طبعًا أكثر أهل العلم يقولون: لأنَّ رضى النبي ﷺ تبعًا لرضى الله ، لكن طبعًا رضى النبي ﷺ مطلوب، فأعاد الضمير إلى واحدٍ منهما، والمقصود: أنَّه راجع إليهما، فعبَّر هنا بالمفرد عن المثنى، وهكذا بالمفرد عن الجمع: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]، الإنسان هنا بمعنى الجمع، وهو اسم جنس، ويعبر بالمثنى عن المفرد: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ [ق:24] باعتبار أن المخاطب واحد: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ [ق:24]، يقولون فالعرب تعبر بالمثنى، فالحجاج –مثلاً- يقول: يا حرسي، الحرسي: يعني الحارس أو الشرطي، اضربا عنقه، يعني: اضرب عنقه.
-وأيضًا- يعبر بالمثنى عن الجمع، يقولون: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:4]، هل المقصود كرتين؟ ولا كرات؟ كرَّات، فعبَّر بالمثنى عن الجمع، كرَّة بعد كرة، يقولون والجمع عن المفرد: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99]، يعني: أرجعني، طبعًا ليس بالضرورة، بل لا يرد أن هذا المتكلم حينما عبَّر عن نفسه بصيغة الجمع أنه يقصد تعظيم نفسه؛ لأنه في مقام ما هو حول التَّعظيم رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] هو يريد الخلاص ربي ارجعني، لهذا ذكرت في عدد من المناسبات أن لفظة التعبير بالجمع عن المفرد لا يقتضي التعظيم بإطلاق، أحيانًا يقتضي التعظيم، ولكن أحيانًا قد يذهب الطفل الصغير، وهو حاف القدمين وفي حال من التبذل، فيذهب يشتري شيئًا، فيقول: أعطنا كذا، يقصد يعظم نفسه؟ أبدًا، على كل حال.
وكذلك –أيضًا- يعبِّر بالجمع عن المثنى في قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، هذا حجب النقصان؛ فلأمه السدس إن كان له أخوة، والأم تحجب هذا الحجب بوجود كم أخ؟ اثنين، فقال: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، على القول بأنهما شهران وعشرة أيام، وبعضهم يقول: جبر الكسر، ومن أراد أن يناقش ويجادل فلن يعجز في هذه الأمثلة التي نذكرها من أولها إلى آخرها -على كل حال- المقصود التوضيح.
والشأن لا يعترض المثال | إذ قد كفى الفرض والاحتمال[6] |
فإن من أهل العلم من يقول –أصلاً- بأن أقل الجمع اثنان، وبالتالي فإن التعبير هنا عن المثنى بالجمع؛ لأن أقل الجمع اثنان، فيكون هذا التعبير على حاله وأصله، لهذا يقول في المراقي:
أقل معنى الجمع في المشتهر | الاثنان عند الإمام الحميري[7] |
الإمام مالك -رحمه الله-، هذا من أراد أن يناقش له أن يقول هذا، ويحتج بالآية السابقة.
يقول: "لفظ عاقل لغيره"، يعني: استعمل الصيغ التي تستعمل للعقلاء قد تستعمل لغير العاقل؛ لاعتبارٍ معينٍ، ولذلك ذكرت في القواعد بأن الخطاب يرد في القرآن أحيانًا مراعًا فيه حال المخاطب، يعني: قد يرد على اعتقاد المخاطب، وإن كان المتكلم لا يقر بذلك، لكن راعى المخاطب بحسب اعتقاده، وقد ترد مثل هذه الأشياء يستعمل العاقل يعبر عن غير العاقل بصيغ تختص بالعقلاء؛ لأنَّه أضاف إليه شيئًا من أوصاف العقلاء، يعني: انظروا –مثلاً- في قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] الآن الضمير "رأيتهم" هذا يستعمل للعقلاء، غير العقلاء ماذا يقال؟ والشَّمس والقمر رأيتها لي ساجدة، لاحظ "رأيتها" وساجدين هذه الصيغة في الجمع للعقلاء، غير العقلاء يقول: ساجدة، تقول: في المسجد رأيت الناس قائمين وراكعين وساجدين، لكن تقول: رأيت الأشجار قائمةً، ما تقول: رأيت الأشجار قائمين أو قائمات! فهناك صيغ للعقلاء، لماذا هنا قال: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ في الشمس والقمر؟ لأنَّه أضاف إليها فعلا من أفعال العقلاء، وهو السجود، فناسب أن يعبر عنها بما يعبر به عن العقلاء، فقال: رَأَيْتُهُمْ، وقال: سَاجِدِينَ وهكذا الله حينما خاطب السماوات والأرض قال:ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا [فصلت:11]، ما قال:طائعات، وإنما قال: طَائِعِين، هذا يستعمل للعقلاء، ثم الرد والجواب، وهذا من شأن العقلاء، فناسب أن يعبَّر عنها وإن كانت من غير العقلاء بهذا.
يقول: "لفظ عاقل لغيره وعكسه" عكسه يعني: يعبر عن العقلاء بعبارة تستعمل في غير العقلاء وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [النحل:49] فالسجود من فعل العقلاء، وما تستعمل لغير العاقل، ومن تستعمل للعاقل تقول: رأيت ما بيدك، ورأيت: من عندك، من عندك يعني: من الناس، لكن لو إنسان يريد أن يقول لآخر: أنا رأيت من عندك من الضيوف، يقول: رأيت ما عندك هكذا؟ لا. يقول رأيت من عندك، لكن رأيت ما عندك من المتاع، فهنا يمكن أن يقال بأنه عبَّر عن العاقل بلفظةٍ أو بعبارة تستعمل أو يعبَّر بها عن غير العاقل، من باب التَّغليب أن أكثر الموجودات هي من غير العقلاء، وبعضهم يتحاشى لفظة عقلاء ويستعمل لفظة العالم أو الموصوف بالعلم، من أجل يدخل الملائكة، ويقول: الملائكة –مثلاً- ما توصف بالعقل، وإنما توصف بالعلم، هكذا بعضهم يقول تحريا في الألفاظ.
يقول: "التفات" الالتفات هو الانتقال كما يلتفت بوجهة، الانتقال من صيغة لأخرى في الكلام، ينتقل من صيغة المتكلم إلى الغائب وعكسه، ومن الغائب إلى المخاطب، انظروا –مثلاً- الحمد لله هذه الصيغة ماذا الغائب ولا المتكلم ولا المخاطب؟ الغائب لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، يعني: هو رب العالمين غائب، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، يعني: هو الرحمن الرحيم، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، ثم إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، فانتقل إلى صيغة المخاطبة، طبعًا العلماء يتكلمون عن هذا، يعني: ما سر الانتقال؛ فبعضهم يقول –مثلاً- لما ذكره بأوصاف الكمالات كأنه حضر بين يدية، فوجَّه الخطاب إليه، وبعضهم يقول غير هذا، فهذا موجود وهكذا حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ [يونس:22] هذا للمخاطب أليس كذلك؟ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس:22] ما قال: وجرينا بكم وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا [يونس:22] وهكذا، وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [فاطر:9] هذا الغائب أو لا؟ فَسُقْنَاهُ [فاطر:9]، التفت في الخطاب فعبر بالمتكلم فَسُقْنَاهُ، فهذا موجود على كل حال، لكن هل هذا من المجاز أو لا؟ السيوطي -نفس- يقول أنه ليس من المجاز، لماذا أورده هنا؟ يمكن أن يكون أورده؛ لأنَّهم أوردوه وجعلوه من أنواعه، فأراد أن يذكر، لكن لم ينبه عليه، لو قال: وقيل الالتفات فما يظهر أنه مجاز لأنه هل هذا استعمال للفظ في غير موضع له عند القائل بالمجاز؟ ليس كذلك.
يقول: لفظ العاقل لغيرة وعكسه التفات إضمار" الإضمار: هذا مثل الحذف السابق والاختصار، وبعضهم يقسمه إلى أنواع كما أشرت في أول الكلام، يعني: ما يتوقف عليه صحة اللفظ شرعًا، مثلاً: كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍفأفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وأحيانًا يتوقف عليه صحة اللفظ أصلا باعتبار وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] مثلاً يقول: واسأل أهل القرية، (واسأل العير): واسأل أهل العير، هكذا يقولون، طبعًا الذين يمنعون من المجاز بعضهم يقول هذا استعمال عربي وليس بمجاز، وبعضهم يزيد ويقول: ما المانع أن تسأل القرية والبنيان؟ ما المانع أن تسأل العير؟ يمكن الله يجعل له إرادة، جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف:77] فما المانع أن يكون للجدار إرادة، والله أخبر أن الأشياء تسبح له فيعطيها إدراكًا، أنا أقول لا حاجة أن نصل إلى هذا الحد في الرد، لكن نقصر دونه قليلاً، فنقول جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، يعبر عنه بمثل هذا عادة في لغة العرب باعتبار التوسع في الكلام، فلما كان يوشك أن يصير إلى حال أخرى ينتقل إليها عبَّر عنه بهذا، وإلَّا حتى كلامنا الآن نقول ينتقل إليها، هو ينتقل وإلا ينقل فإذا أردت أن تدخل في هذه التدقيقات ما تنتهي، وهكذا –أيضًا- في مثل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] نقول القرية أصلاً تطلق تارة على الحال، وتطلق تارة على المحل، وتطلق ويراد بها هذا وهذا معًا، فإذا أطلقنا القرية وأردنا المحل يعني البنيان مجموع البنيان، يقال له: قرية، وقد نطلقها ونريد بها الحال؛ وهم أهل القرية في اللغة، وشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- حينما يرد على هؤلاء وكذا بموضوع يعني مثلاً العلاقة الحالية والمحلية، يقول لهم الآن يعني أين الأصل وأين الفرع؟ خاصة أذا جئنا ببعض الأمثلة، حينما تقول:حفرتُ النهر، وجرى النهر، حفرت النهر ما معناه؟ الشَّق الذي في الأرض يجري فيه الماء، فهذا سمَّاه نهرًا، وجرى النَّهر فالنهر الآن هو الماء، وتقول: أصلحت الميزاب يعني: مجرى الماء، وجرى الميزاب، أين الحقيقة وأين المجاز؟ وحينما تقول: حفرت النهر ما المتبادر؟ أنه الشق الذي في الأرض أو لا؟ فهذا هو الحقيقة حينما تقول جرى النهر ما هو المتبادر؟ الماء، فهذا حقيقة إذًا أليس هو اللفظ المتبادر؟ هذا الحقيقة، إذًا تقول: أصلحت الميزاب هذا حقيقة أو مجاز؟ حقيقة، إذًا جرى الميزاب حقيقة أين الذي يقول مجاز؟ جرى الميزاب هذا حقيقة، هذا المتبادر أن الماء هو الذي جرى، وأصلحت الميزاب هو المجرى، فهذه أمثلة واضحة تبقى بعض الأمثلة، يعني مثل: الأسد يطلق على الحيوان المفترس، لكن الكلام أن هذا وضع له أولاً في مثل هذه الأمثلة التي ذكرت قبل قليل، فاسأل القرية قرية تطلق على السكان أحيانًا على الحال، وأحيانًا تطلق على المحل، ولا إشكال، وهكذا العير الإبل مع أهلها يقال لهم عير قافلة، وأحيانًا يتوقف عليه عادة اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء:63] أين المقدر؟ فضرب فانفلق، فهذا اختصار يمكن أن تقول حذف، وأحيانًا يعرف هذا من دليل آخر يعني –مثلاً-: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا [طه:96] من أثر الرسول إذا نظرت إلى الروايات، وقلت بأنه قبض قبضة من أثر حافر فرس الرسول، فهذا بدليل آخر عرفت أن هنا في مقدر محذوف إضمار، يقول زيادة يعني بزيادة في المجاز مثل ماذا؟ يقولون هذه اللفظة زائدة من باب الزيادة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] طبعًا يختلفون اختلافًا كثيرًا هل اللفظ الزائد هو الكاف أو الزائد مثل؟ ويوردون على هذا أشياء ومسائل وإشكالات، فيقولون: هذه من باب الزيادة، كثيرًا ما تجدون اللفظة الفلانية زائدة، يقصدون زائدة إعرابًا يا أما من ناحية المعنى فجيء بها مثلا للتوكيد، تكرير مثل أيش دَكًّا دَكًّا [الفجر:21]، تقديم وتأخير نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37] على أحد الأقوال في تفسيرها، فبعضهم يقول المقصود نحيا ونموت؛ لأنَّهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، نموت ونحيا ففيه تقديم وتأخير، وهكذا في أمثلة وأن كانت ليس محل اتفاق في قوله –تعالى- مثلاً: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55] يا عيسى إني رافعك إليَّ، ومطهرك من الذين كفروا وآخر شيءٍ يكون ومتوفيك -الوفاة تكون بالأخير-، لكن هذه دعوى –طبعًا- والأصل في الكلام الترتيب، ولا يلجئ إلى القول بأنه فيه تقديم وتأخير إلا في حالات الضرورة، سبب يعني أحيانًا يطلق على المسبب اسم السبب:
إذا نزل السماء بأرض قوم[8] |
يعني: المطر، رعيناه، فسمى هذا الرَّاعي عبَّر عنه بها قال السماء، يعني: المطر، باعتبار أن المطر هو السبب في خروج المرعى بإذن الله ، ويكون هذا من باب إطلاق السبب على المسبب، وقد يوجد عكسه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبة أجمعين.
- مراقي السعود، (ص: 142).
- انظر: الإيمان الكبير، (2/ 107-148).
- انظر: مختصر الصواعق المرسلة، (ص: 231، ومابعدها).
- أخرجه البخاري، باب إذا فزعوا بالليل، كتاب الجهاد والسير، رقم (2875).
- ألفية ابن مالك في النحو والصرف، (ص: 8).
- مراقي السعود، (ص: 387).
- مراقي السعود، (ص: 207).
- المفضليات، (ص: 359).