الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الثامن والأخير في "باب المبادرة إلى الخيرات":
"قال يوم خيبر" أي: يوم فتح خيبر، وذلك في السنة السابعة من الهجرة، وذلك أن النبي ﷺ كان قد أعطى الراية، ولم يفتح للمسلمين، ثم بعد ذلك قال: لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، فذكر أمرين:
الأول: أنه يحب الله ورسوله، وهذه شهادة له من النبي ﷺ.
والأمر الآخر: أن الله يفتح على يديه، فمن الذي يكون بهذه المثابة يشهد له النبي ﷺ بمثل هذا؟
قال عمر : "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"[1]؛ وذلك أن النبي ﷺ كان يزهدهم في الإمارة، ويذكر لهم من تبعاتها ما يجعلهم يتطامنون ويتراجعون ويتأخرون عن طلبها، فلم تكن نفوسهم تتطلب الرئاسات، وتحب الرفعة على إخوانهم المسلمين، وما كان الواحد منهم يحب الشرف الذي هو بمعنى الرئاسة والعلو، وإنما كانوا يريدون ما عند الله -تبارك وتعالى، ويدركون جيدًا أنه ربما كان الإنسان لا يُعبأ به، ولا يعرفه الناس وإذا شفع لم يشفع، وإذ حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يذكر، ومع ذلك يكون بمنزلة عند الله ؛ ولهذا قال أيوب السختياني -رحمه الله: "ما صدق اللهَ عبدٌ إلا سره ألا يُشعر بمكانه".
فالحاصل أن عمر بن الخطاب يقول: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"، ليس من أجل الإمارة، وإنما من أجل هذه الشهادة التي ذكرها النبي ﷺ، وإلا فإنه كما أخبر النبي ﷺ: ما من رجل يلي عشرة فما فوق إلا وجاء يوم القيامة يداه مغلولتان إلى عنقه، فيطلقه عمله أو يوبقه[2].
يقول: "فتساورتُ لها"، يعني ترفعت وتطاولت؛ ليراه النبي ﷺ بين الناس، "رجاء أن أُدعى لها، فدعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ -يعني صاح بصوته- يا رسول الله، على ماذا أقاتل؟" وهذه منقبة لعلي من الناحيتين الناحية الأولى الدقة في الامتثال فالنبي ﷺ قال له: امش ولا تلتفت فهو مع أنه احتاج إلى أن يكلم النبي ﷺ إلا أنه كلمه ووجهه صوب الوجهة التي يريدها ولم يلتفت للنبي ﷺ، وهذا يدل على شدة انضباط الصحابة وتحريهم، ودقتهم في امتثال أمر رسول الله ﷺ، وهذا هو الذي بلغ بهم وأوصلهم إلى تلك المنازل الرفيعة عند الله ، وفتحوا العالم في مدد يسيرة جدًّا.
يقول: "فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟"، وهذه أيضاً منقبة أخرى وهي أنه كان يتحرى في مثل هذه الأمور، فهو حينما يتجه ليقاتل لابدّ أن يكون له هدف محدد، ومقصود واضح بين، فمثل هذه الأمور ليست من القضايا السهلة التي يتقحّمها الإنسان دون أن يعرف المقاتل هدفه الذي يقاتل من أجله، فسأل على ماذا أقاتل الناس؟، قال: قاتلهم حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -يعني قاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام- فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، أي: أنهم إذا أظهروا الإسلام فإنهم لا يقاتَلون، يكف عنهم وعن دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وذلك كما قال النبي ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة[3]، فهذا من حقها، وكذلك ما ثبت عن النبي ﷺ أن صاحبه يقتل مثل: الساحر، وكذلك أيضاً ما ثبت عنه ﷺ من أن مَن عمل عمل قوم لوط أنه يقتل، وهكذا، فمثل هذه الأشياء التي وردت فيها النصوص فإن ذلك من حقها، وما عدا ذلك فإنه يكون معصوم الدم والمال، وحسابهم على الله؛ لأنه قد يُظهر ما لا يبطن، قد يخفي سريرة سيئة، فهذا أمره إلى الله ؛ لأنا غير مطالبين بأن نشق عن قلوب الناس، وإنما نعاملهم بحسب ما ظهر، والحكم إنما هو للظواهر، وأما البواطن فأمرها إلى الله فمن أظهر سوءًا أُخذ به، وقد تكون سريرته حسنة ومقصوده طيبًا لكن الله هو الذي يتولاه، ومن أظهر أمرًا حسنًا فإنه يقبل منه، وقد تكون سريرته سيئة، وقد يريد التوصل به إلى مطلوب سيئ، فالله علّام بما في الصدور، هذا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب ، برقم (2405).
- رواه أحمد في المسند، برقم (22781)، وقال محققوه: "صحيح لغيره دون قوله: "ومن تعلم القرآن ... إلخ" وهذا إسناد ضعيف، يزيد بن أبي زياد -وهو الهاشمي الكوفي- ضعيف، وعيسى -وهو ابن فائد- مجهول، وروايته عن الصحابة مرسلة. أبو عوانة: هو الوضاح اليشكري".
- رواه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، برقم (6878)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، برقم (1676).