الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "علامات حب الله تعالى للعبد" أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله -تبارك وتعالى: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، ولي الله هو التقي كما قال الله -تبارك وتعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] فعلى قدر تقوى الله -تبارك وتعالى- للعبد على قدر ما يكون له من ولاية الله ، والناس يتفاوتون في هذا المعنى بحسب تحقيقهم لهذه الصفة، فمن عادى وليًّا من أولياء الله فهو متوعَّد بما ذكر فقد آذنته بالحرب، و"قد" تفيد التحقيق، ومعنى آذنته أي: أعلمته، الله -تبارك وتعالى- يعلمه بالحرب عليه، ومن حاربه الله -تبارك وتعالى- فما ظنكم؟ فالأمر ليس بالسهل، ومن ثم فإن الإنسان يجب عليه أن يتوقى أن يقع في مثل هذا العمل الشنيع، فيلحقه هذا الوعيد العظيم، أن يكون عدوًّا لأولياء الله ، وأولياء الله هم أهل التقوى، فينظر الإنسان ماذا يحب؟ وماذا يبغض؟ وينظر إلى ما تحت قدمه على أي أرض يقف؟ وهذه الأمور ليست بالدعاوى وإنما هي بتحقيق العبودية الحقة لله ، فالذي يكره الصالحين، ويكره جمعيات تحفيظ القرآن، ويكره كل نشاط خيري دعوي، ويحب كل عدو لله ، يدافع عن اليهود، ويدافع عن النصارى، ويتمحل في حمل أقوالهم الشنيعة التي يعلنون فيها الحرب على الإسلام، ويسمون حربهم بالحرب الصليبية، يتمحل في حمل ذلك على المحامل التي لا تخطر لهم على بال، وأنهم لا يقصدون ما فهمتم، ويتمنى أنهم يغزون بلاد الإسلام، وأنهم يحتلونها؛ من أجل نشر ديمقراطيتهم المزعومة المكذوبة وما أشبه ذلك، هل هذا يمكن أن يكون محبًّا لأولياء الله ؟ أبدًا، دعونا من الذوات والأشخاص، الكلام: من عادى لي وليًّا، الذي يكره أهل القرآن، ويكره أهل العبادة، ويكره الدعاة إلى الله ، ويكره العلماء، وإذا نظرت إلى كتاباته دائمًا فهي تدور حول هذا، يشكك في أهل العلم وفي نزاهتهم، ويسخر منهم ويسخر من كل جهد ونشاط خير ينشر الفضيلة في المجتمع، هل هذا محب لأولياء الله ؟ أو أنه يعاديهم؟.
لا شك أنه يعاديهم، والله يقول: فقد آذنته بالحرب، ومن الذي يستطيع أن يحارب الله وأن يكون له قدرة وطاقة على الوقوف في مثل هذه المواقف؟
من الذي يستطيع أن يحارب الله وأن يكون له قدرة وطاقة على الوقوف في مثل هذه المواقف؟
ثم قال: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضت عليه وهذه قضية مهمة جدًّا يحتاج المؤمن من الناحية العملية أن يتبصرها، وأن يقف عندها؛ لأن الكثيرين قد يسمع هذه الجملة ويمضي ولكن إذا نظرتَ تجد من الناس من يحرص على النافلة على حساب الفريضة، فيصوم النفل مثلاً وينام عن الصلاة المكتوبة، وقد يحرص على قيام الليل وينام عن صلاة الفجر، وكثير من الناس يتصدق ولو كان لا يملك إلا القليل، ويعطي ويبحث عن المحتاجين ويحرص على هذا غاية الحرص، ويجادل غاية المجادلة في مسألة زكاة الذهب، ويتأول لنفسه في زكاة الأسهم، أو بعض الأموال باعتبار أن ذلك قد سمع فيه عالمًا يقول: إنه لا يجب، أو أن النوع الفلاني ليس فيه زكاة، أو لربما يتحجج ويتعلل بأنه ليس عنده سيولة، أو أن الذهب المستعمل لماذا يزكى؟ فلا يزكيه، أو لا يحب أن يسأل عن هذه القضايا أصلاً، طيب أنت تتصدق الآن لو نويت بهذا المال الذي تتصدق به أن يكون زكاة فإن كانت تجب فيه الزكاة فقد برئت ذمتك من جهة، الناحية الثانية أن هذا سيكون أثقل في الميزان من النافلة من الصدقة، يعني الزكاة أعظم، كما أن صلاة الفريضة أعظم من صلاة النافلة، ولكن الشيطان أحيانًا يزين للإنسان مثل هذه التصرفات.
وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضت عليه إذًا نحرص على الفرائض الصلوات المكتوبة، صيام رمضان، الحج الواجب، العمرة الواجبة، وما شابه ذلك ابدأ بالواجبات ثم بعد ذلك تأتي المستحبات والنوافل.
ثم قال: وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه بمعنى أنه طريق إلى محبة الله ، هذا هو الشاهد في الباب: هو التقرب إلى الله بالنوافل بعد تحقيق الفرائض، فمن أراد أن ينال محبة الله فعليه أن يكثر من النوافل، "يتقرب إليّ بالنوافل"، النوافل من ماذا؟
النوافل من الصلوات، والنوافل من الصيام، والنوافل من العمرة، والنوافل من الحج، والنوافل من الصدقات إلى غير ذلك مما يحبه الله من غير الفرائض، فيحقق الفرائض أولاً ثم بعد ذلك يتزود ويكثر ويستمر؛ لأنه قال: وما يزال، وليس ذلك بالذي يعمل الأعمال الطيبة مدة من الزمن يسيرة ثم بعد ذلك ينقطع ويدير ظهره، فإن مثل هذا لا ينطبق عليه هذا الحديث.
يقول: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به هذه نتيجة محبة الله للعبد، بعض الناس يسأل يقول: كيف أعرف أن الله يحبني؟ هذا إذا أحبك الله "كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"، ما معنى هذا الكلام؟
كنت سمعه الذي يسمع به بمعنى أنه يسمع ما يرضاه الله ويحبه، ماذا يسمع؟ يسمع مجالس الذكر، يسمع الحديث، يسمع القرآن، يسمع المواعظ، يسمع العلم النافع، أما الذي يسمع المعازف يصبح ويمسي أذكار الصباح عنده المعازف، ودعاء ركوب الدابة إذا ركب سيارته المعازف، فمثل هذا لا ينطبق عليه هذا الوصف، وبصره الذي يبصر به الذي ينظر إلى القنوات والنساء الفاتنات العاريات، الذي ينظر إلى المجلات السيئة، ينظر إلى الإنترنت يدخل في مواقع سيئة الله يراه ويطلع عليه وهو ينظر إليها، وقد يموت وهو على هذه الحال، بالأمس أرسل أحد الأشخاص رسالة يقول: إن صاحبه قد توفي وهو سكران، يقول: ولم يعلم أحد غيري بهذا، وصُلي عليه ودفن، هل أُعلم أهله بهذا؟
طبعًا لا يعلمهم، لكن انظروا إلى خاتمة هذا الإنسان، فما يخاف الإنسان الذي ينظر في هذه المواقع السيئة، أو الجالس يسمع المعازف والأغاني أن الله يقبضه وهو على هذه الحال؟.
وبصره الذي يبصر به أي: أنه لا يبصر ولا ينظر إلا إلى ما يحبه الله .
ويده التي يبطش بها بمعنى أن تصرفات هذا الإنسان تكون مضبوطة محكومة بحكم الشرع، فلا تمتد يده إلا إلى الحلال، لا يظلم، ولا يأخذ أموال الناس.
ورجله التي يمشي بها صار يمشي إلى ما يحبه الله، وليس معنى ذلك أن الله حل به، حاشا وكلا، فالله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وإنما "رجله التي يمشي بها" بمعنى أنه يمشي إلى المساجد، يمشي إلى مجالس الذكر، يمشي إلى حج، إلى عمرة، يمشي إلى صلة رحم، لا يمشي خطوة إلا ويكون ذلك مما يحبه الله ، لا يمشي إلى حرام.
قال: وإن سألني أعطيته يكون مجاب الدعوة.
ولئن استعاذني لأعيذنه إذا خاف من شيء وقال: اللهم إني أعوذ بك من كذا، من هذا، من هؤلاء الناس، من هذه الشرور، من هذه الآفات، من كذا، يعيذه الله ، فيحفظه ويكلؤه ولا يصل إليه شيء من هذه المخاوف والآفات التي استعاذ منها، رواه البخاري.
فهذا حديث من أعظم الأحاديث، وينبغي للإنسان دائمًا أن يستحضر معناه، وأن يعرض نفسه عليه سواء كان ذلك من جهة السبب أي الأعمال التي توصل إلى محبة الله ، أو كان ذلك باعتبار الأثر والنتيجة، هل هذه الأوصاف ظاهرة عليه حتى يعرف أن الله يحبه أو لا.
نسأل الله أن يرزقنا جميعًا حبه وحب من يحبه، وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا وذهاب همومنا وجلاء أحزاننا، وأن يذكرنا منه ما نسينا، ويعلمنا منه ما جهلنا، ويرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه.
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502).