الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "علامات حب الله تعالى للعبد" آخر ما أورده المصنف -رحمه الله- من الأحاديث هو:
جاء في بعض الروايات أن هذا الرجل يقال له: كلثوم، وقيل غير ذلك، والمقصود بعثه على سرية بمعنى أن النبي ﷺ أمّره على سرية، والسرية هي: القطعة من الجيش، قيل لها ذلك؛ لأنها تسري خفية، تسير خفية، تسير بالليل، يقال لها: سرية؛ ولهذا قالوا في التي تكون سائرة في النهار: نهارية، فالسرية هي قطعة من الجيش تكون فوق المائة، وإذا كانت أقل من المائة فهي بعث، بعث بعثًا، وفوق المائة يقال لها: سرية، وإذا بلغت الألف فهذه سرية -لكنها لا تصل إلى ذلك، ثم بعد ذلك يقال له: الجيش، بعضهم يقول إذا كان ثمانمائة فما فوق فهو الجيش، فإذا بلغ أربعة آلاف فهذا جحفل، فهذه أسماء تطلق على الجيش، وهي أسماء بحسب العدد.
"بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ"قل هو الله أحد"، كان يقرأ لأصحابه، هذا هو أمير الجيش يقرأ لأصحابه يعني في الصلاة إذا صلى، وهذه هي السنة أن أمير البلد، أو أمير الجيش أو مدير المدرسة أو مدير الشركة السنة أن يكون هو الإمام بأصحابه، ولو كان الأقل حملاً للقرآن، وهكذا الإنسان إذا كان في بيته فإن السنة أن يصلي هو بالناس، وقد قال النبي ﷺ يعني إذا صلوا في بيتهم: ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه[1]، وسلطانه يدخل فيه بيته، ويدخل فيه مكتبه، ويدخل فيه مؤسسته، ويدخل فيه الإدارة التي يديرها ونحو ذلك إلا إذا تنازل، أو أناب أحدًا فإنه يكون، أما السنة فهي ما ذكرت، ولو كان غيره أقرأ للقرآن منه، ولهذا كان أمراء الجيوش هم الذين يصلون بالناس مع أن خلفهم من القراء من أصحاب النبي ﷺ كما هو معلوم.
يقول: "بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ"قل هو الله أحد"، معنى هذا أنه كان يقرأ الفاتحة وسورة ويختم القراءة بـ"قل هو الله أحد"، فهؤلاء كما جاء في بعض الروايات أنهم سألوه، وناقشوه، وقالوا له: تكتفي إما بـ"قل هو الله أحد"، يعني مع الفاتحة أو بما قرأت قبلها، فكان الرجل يمتنع، ويصر على أن يقرأ لهم بما يقرأ ويختم بـ"قل هو الله أحد"، وعلل هذا بما سيأتي، وهذا يدل على أنه يجوز للإنسان أن يجمع بين السور في الركعة الواحدة، وهذا لا إشكال فيه، يعني يمكن للإمام أو المنفرد أن يقرأ في ركعة بالفاتحة وبـ قل هو الله أحد، قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس في ركعة واحدة، والنبي ﷺ كما هو معلوم في صلاة الليل قرأ في ركعة مع الفاتحة بالبقرة والنساء وآل عمران فلا مانع من الجمع بين هذه الأشياء.
وفيه أيضاً دليل على أن الإنسان له أن يتخير من سور القرآن، يعني بعض السور قد تميل إليها نفسه أكثر فيكثر من قراءتها، ما في إشكال، سواء كان ذلك في الصلاة أو في خارج الصلاة، لا إشكال فيه، والإمام أحمد -رحمه الله- جاء في ترجمته أنه كان يكثر من قراءة سورة الكهف، يقرؤها دائمًا ويكررها، ولا شك أن سورة الكهف اشتملت على جملة من دلائل البعث، وفيها من المعاني العظيمة.
"فيختم بـ"قل هو الله أحد"، هنا مسألة معلومة ومعروفة ومهمة جدًّا هل للإنسان أن يأتي في العبادة بمثل هذا؟ يقول مثلاً: أنا أريد أن أقرأ في الصلاة بسورة وأختم دائمًا بسورة "لإيلاف قريش"، مثلاً دائمًا ألتزم هذه الطريقة، نقول: لا، ليس لك ذلك؛ لأن النبي ﷺ يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[2]، فنقول: مواظبتك على هذا العمل بهذه الطريقة والتزامك له بدعة؛ لأن الله لم يشرع ذلك، ولم يأمر به ولم يأذن فيه، ولم ينقل عن النبي ﷺ، فهنا نقول: ليس لك ذلك، طيب وهذا الصحابي؟
نقول: هذا الصحابي كان وقت نزول الوحي فأقره النبي ﷺ على ذلك، لكن جاء واحد بعد انقطاع الوحي وما يدرينا والوحي قد انقطع، والرسالة قد اكتملت، مثل الرجل لما رفع من الركوع فقال: ربنا ولك الحمد، إلى آخر ما ذكر، فذكر النبي ﷺ أنه رأى كذا وكذا ملكًا يبتدرونها مع أنها ما نقلت عن النبي ﷺ، فهل للإنسان أن يخترع ذكرًا ودعاء بعد القيام من الركوع أو في الركوع أو في السجود؟
نقول: أبدًا ليس له ذلك، يلتزم بما ورد، طيب وهذا الرجل؟، نقول: هذا الرجل كان وقت نزول الوحي وبعد انقطاع الوحي لا كلام لأحد؛ لأنه ليس النبي ﷺ موجودًا حتى يقر الإنسان على هذا الورد أو لا يقره، فنلتزم بما ثبت عن رسول الله ﷺ، هذه مسألة في غاية الأهمية، ويُحتاج إليها كثيرًا، وهذا الجواب عنها.
قالت: "فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك، وهذا فيه أيضاً مشروعية التثبت والتحري والسؤال قبل الحكم على الناس، فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، دلت على الوحدانية، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [سورة الإخلاص:1-2] الذي تتوجه إليه الخلائق بحاجاتها وفقرها ومسألتها، تصمد إليه الخلائق حينما تذكر مطالبها ودعاءها وسؤلها تتوجه إلى الله ، وقيل: الصمد هو الذي لا جوف له، فكل ذلك من صفته ، اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [سورة الإخلاص:2-3] وهذا رد على النصارى الذين يقولون: المسيح ابن الله، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص:4] على القراءتين بالإسكان "كفْوًا"، و"كفُوًا" وهي قراءة حفص التي نقرأ بها بالضم، فليس له نظير ولا مثيل لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، هذه صفة الرحمن، فقال النبي ﷺ: أخبروه أن الله تعالى يحبه[3]أخرجه البخاري ومسلم.
لاحظوا هو عملٌ بسيط، هل هذا من أجل أنه كان يقرأ سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يختم بها فنقول نحن الآن: نريد أن نقرأ سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كلما قرأنا في الصلاة نقرؤها بعد السورة، أو لأنه وقع في قلبه هذا المعنى، وأنه أحب هذه السورة؛ لأنها صفة الرحمن؟ هذا الذي يظهر أن الله أحبه لما وقع في قلبه من إدراك معناها وتعلقه بها ومحبته لها؛ لأنها صفة الرحمن، فهو يحب الله، فالله أحبه من أجل هذا، هذا هو الأقرب، لا لأنه قرأ سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فإنه قرأها نتيجة لهذه المحبة التي وقعت في قلبه فأحبه الله لهذا، فمن أراد أن يحبه الله فعليه أن يحب الله، يحب أسماء الله، يحب صفاته، يحب أولياء الله يحب كلامه وهو القرآن، يحب شرع الله إذا أمره بشيء يفرح، ولذلك تجد الذين يحبون الله محبة كاملة ما الذي يحصل لهم؟ شيء عجيب وهائل ابن المنكدر يقول: "إني لأدخل في الليل فيهولني، فينقضي وما قضيت منه أربي"[4]، تخيل هذا المعنى، اجلس مع نفسك، وفكر في إنسان ينتظر متى يجيء الليل متى يأتي الليل من أجل أنه وقت خلوة ومناجاة وصلاة وقيام، ليس من أجل سهر على أمور لا طائل تحتها، "إني لأدخل في الليل فيهولني"، يقول: أندهش، يصلي ثم بعد ذلك ينتهي الليل بسرعة وما شبع من الصلاة، "فينقضي وما قضيت منه أربي"، والآخر الذي يقول: "أهل الليل في ليلهم أشد من أهل اللهو في لهوهم"[5]، يعني لذةً وأنسًا وفرحًا، يحبون الليل أشد من محبة أهل اللهو لليل، فهذه الأمور لا يصل إليها الإنسان بسهولة، فهؤلاء يحبون الله فعلاً، ولذلك كان الواحد منهم إذا دخل في الصلاة لا يدري بعد ذلك، ويوجد في المعاصرين من هو بهذه الصفة نعرف بعض من إذا كبّر لا يركع إلا إذا نُبه، يصلي لنفسه النافلة ما يركع إلا إذا نبهه أهله أن الفجر قريب مثلاً فيركع؛ لأنه إذا دخل في الصلاة لا يشعر بشيء، ووُجد في بعض السلف من أصيب في بعض بدنه دخل فيه حديدة أو شيء ما كان يستطيع أحد أن يلمسها ويقترب منها فتركوه حتى بدأ يصلي فلما بدأ يصلي نزعوها ولم يتحرك، لذلك تجدهم هُوّنت عليهم ألوان العبادات من صيام، تجد الواحد إذا ما صام ذاك اليوم يشعر أن فيه شيئًا غريبًا، فيه شيئًا ناقصًا، ليس مرتاحاً، يشعر أنه مقصر اليوم، ليس رمضان، أيام النفل، ولهذا معاذ بكى عند الموت فلما سئل ما يبكيك؟ قال: أبكي على ثلاث، ما أبكي على دنياكم، "أبكي على ثلاث: ظمأ الهواجر -يعني: الصيام في الحر، ومكابدة ليل الشتاء الطويل -قيام الليل بالشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب"، هذه الثلاث التي يبكي عليها، ما بكى على الذهب والفضة، ولا المكاتب، ولا الورش، ولا المصانع، ولا العقارات، ولا المخططات ولا غيرها، بكى على هذه الأمور الثلاثة، لو تذوقنا هذه الأشياء لعرفنا فعلاً لذة العبادة، لكن هذا إنما يكون لمن عظمت محبتهم لله -تبارك وتعالى، ولذلك تجد الواحد منهم لربما يكابد ويصوم ويقوم بأعمال كثيرة في يومه وليلته وهو في غاية السرور والراحة واللذة والانشراح، لا يشعر بالتعب، والله يعوضهم، ولذلك نحن في غاية التقصير ومع ذلك قد يلحظ الإنسان بعض الأشياء، لاحظ إذا كنت صائمًا وجاء وقت الظهر ما تلتفت لشيء، وإذا كنت مفطرًا وجاء وقت الظهر تشعر بجوع، بعطش، تنظر إلى الساعة متى ترجع من أجل أن تأكل، أليس كذلك؟، انظروا في رمضان ما الذي يحصل؟
الإنسان في الظهر في رمضان ما ينتظر شيئًا وهو مستمتع لربما بالصيام، وإذا جاء يفطر مستمتع، وينتظر اليوم الثاني حتى يصوم، ومرتاح وقد يكون مريضًا ويشكر الله قائمًا قاعدًا أن وفقه للصيام، ويقولون له: أفطِرْ، فيقول: لا، كيف أفطر؟ هو فرحٌ أنه صام، أليس هذا من الإيمان؟ هذا من الإيمان، فإذا عظم أصبح الإنسان ما يشعر بشيء من التعب، وإنما يشعر براحة، ولهذا النبي ﷺ جرحت أصبعه في المعركة فقال: "هل أنتِ إلا أصبعٌ دميتِ، وفي سبيل اللهِ ما لقيتِ"[6].
نسأل الله أن يلحقنا جميعًا بهؤلاء، ويرزقنا حبه وحب من يحبه وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا.
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (673).
- رواه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي ﷺ أمته إلى توحيد الله -تبارك وتعالى، برقم (7375)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد، برقم (813).
- انظر: الطبقات الكبرى (ص: 198)، وتاريخ الإسلام ت تدمري (8/ 185)، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (7/ 319).
- البداية والنهاية ط هجر (14/ 152).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يُنكَب في سبيل الله، برقم (2802)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، برقم (1796).