إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا الكتاب الذي اجتمعنا لدراسته هو مختصر كتاب (أخلاق حملة القرآن للآجُرِّي) -رحمه الله، ومؤلف الأصل هو الإمام المعروف أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّي البغدادي، نسبة إلى درب الآجُرّ، وهي محلة ببغداد غربي النهر، من محال موضعٍ بجوار نهر طابق، والآجُرّ معروف طين يُطبخ يُتخذ للبناء -كما هو معلوم، ويقال له في بعض البلاد: القِرميط، ويقال له في بعض البلاد: الطُّوب، والطابوق، ونحو ذلك.
نشأ الآجُرِّي -رحمه الله- في بغداد، وكان مولده في أواخر القرن الثالث الهجري، يعني: في حدود سنة (280هـ)، بقي في بغداد نحواً من خمسين سنة، يعني: بقي فيها إلى سنة (330هـ) تعلم بها، وعلّم، وحدّث، ثم ذهب إلى الحج، فلما دخل مكة أعجبته وجاء في بعض الكتب في ترجمته: "أنه سأل ربه إقامة بمكة سنة، وأنه سمع هاتفاً يقول: بل ثلاثين سنة"[1]، الله أعلم بهذا، لكن حينما حج أقام بعد ذلك بمكة ثلاثين سنة حتى توفي -رحمه الله- سنة (360هـ)، فكان عمره -رحمه الله- قد بلغ الثمانين أو قارب الثمانين.
والإمام الآجُرِّي -رحمه الله- له شيوخ كثيرون، ومن أشهر كتبه المطبوعة كتاب (الشريعة)، فقد روى فيه عن أكثر من سبعين شيخاً، وهذا الكتاب الذي ندرس مختصره كتاب (أخلاق حملة القرآن) روى فيه عن أربعة وعشرين شيخاً، فهذا عدد كثير من الشيوخ.
وكذلك أيضاً له مؤلفات كثيرة، وقد عد بعضهم ما يقرب من ثمانية وثلاثين مصنفاً من مصنفاته، وهذا الكتاب وهو كتاب (أخلاق حملة القرآن) من أشهر هذه المصنفات.
فهذا الكتاب يتحدث عن أخلاق حملة القرآن كما يدل عليه عنوانه: أخلاق القارئ والمُقرئ، أخلاق القُراء، كل من يقرأ القرآن، والآداب التي ينبغي مراعاتها في ذلك، وذكر فيه أيضاً في أوله وآخره بعض ما يتصل بفضل تلاوته، وتعلمه، وتعليمه، لكن جُل الكتاب يدور حول موضوع الأخلاق والآداب للقارئ والمُقرئ، وما يشتركان فيه من ذلك، وهذا يُعد من أول المصنفات التي وقفنا عليها في هذا الموضوع.
وهناك مؤلفات تطرقت للآداب قبله ككتاب: (فضائل القرآن) لأبي عُبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة (224هـ)، لكن كتاب أبي عُبيد لا يختص بأخلاق وآداب حملة القرآن، وهكذا بعض المصنفات التي أُلفت في فضائل القرآن، ومن هؤلاء شيخ الآجُرِّي وهو أبو جعفر الفريابي له كتاب مطبوع في فضائل القرآن، لكن هذا الكتاب يتحدث عن آداب حملة القرآن، وأخلاق حملة القرآن خاصة.
ومزية هذا الكتاب أنه كتاب مُسند، يعني: أنه يسوق الروايات بالأسانيد، هذا بالإضافة إلى سهولة العبارة، وكذلك أيضاً التأصيل، فهو حينما يذكر جملة من الآداب أو القضايا التي ينبغي مراعاتها فإنه بعد ذلك يذكر ما يدلل على ذلك من القرآن والسنة وأقوال السلف من الصحابة والتابعين، ثم بعد ذلك يذكر أقوال العلماء -رحمهم الله تعالى، وهذه الطريقة في التأصيل لا شك أنها أجدى وأنفع، وطالب العلم أحوج ما يكون إلى ذلك، وهذا هو التأصيل الحقيقي، وهذا هو العلم النافع الذي يُبنى على كلام الله، وكلام رسوله ﷺ على فهم السلف الصالح .
فهذه من أبرز مزايا هذا الكتاب، الإمام النووي -رحمه الله- صنف كتابه المشهور (التبيان في آداب حملة القرآن)، وتناول فيه قضايا فقهية ونحو ذلك، إلا أن هذا الكتاب الذي ألفه الآجُرِّي له فضل التقدم من جهة، وكذلك أيضاً يورد الروايات بالأسانيد، هذا بالإضافة إلى كثرة التأصيل فيه بالطريقة التي أشرت إليها، هذا ما يتصل بمزية هذا الكتاب، وقد ذكر فيه تسعة أبواب:
الباب الأول: في فضل حملة القرآن.
والباب الثاني: في فضل من تعلم القرآن وعلمه.
والباب الثالث: في فضل الاجتماع في المساجد لدروس القرآن.
فهذه الأبواب الثلاثة في الفضائل في أول الكتاب، ثم بعد ذلك:
الباب الرابع: في ذكر أخلاق أهل القرآن.
الباب الخامس: أخلاق من قرأ القرآن لا يريد به الله .
الباب السادس: أخلاق المُقرئ إذا جلس يُقرئ لوجه الله ماذا ينبغي له أن يتخلق به.
الباب السابع: ذكر أخلاق من قرأ القرآن على المُقرئ.
الباب الثامن: أدب القُراء عند تلاوتهم القرآن مما لا ينبغي لهم جهله.
الباب التاسع والأخير: في حُسن الصوت بالقرآن.
هذا ما تضمنه هذا الكتاب، وهذا المختصر الذي بين أيديكم إنما تقرءون فيه عبارات الآجُرِّي بحروفها من غير تصرف، قوبل على خمس نسخ، ونُظر في أفضل هذه النسخ، وهي النسخ الثلاث المحققة، والفروقات بينها غير مؤثرة في الجملة، ولكن انتُقيت العبارة الأوضح والأليق بالسياق مع المراجعة على الأصول -يعني: كتب الحديث والرواية- وكذلك أيضاً بحذف الأسانيد والروايات الضعيفة، والعبارات المكررة فقط، وأما الباقي فإنه أُثبت كما ذكره مؤلفه، فإذا قرأت هذا المختصر أرجو أن تكون قد قرأت الأصل، وأما ما تُرك من الأصل فإن ذلك لا يضر فوته، ولا تحتاج إلى النظر فيه.
بعد ذلك نبدأ بقراءة الكتاب والتعليق على ما يحتاج إلى تعليق، وأسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيما نسمع، ونقرأ ونتعلم، إنه سميع مجيب.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين، قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّي -رحمه الله:
أَحَقُّ مَا أَسْتَفْتِحُ بِهِ الْكَلامَ الْحَمْدُ لِمَوْلانَا الْكَرِيْمِ، وَأَفْضَلُ الْحَمْدِ مَا حَمِدَ بِهِ الْكَرِيْمُ نَفْسَهُ، فَنَحْنُ نَحْمَدُهُ بِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمَاً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيدَاً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرَاً حَسَنَاً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدَاً [الكهف:1-3]، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سَبَأٌ:1-2].
أَحْمَدُهُ على تواتر إحسانه وقديم نِعَمِه، حَمْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مولاه الْكَرِيْمَ عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُهُ عَلَيْهِ عَظِيماً، وَأَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، وَالشُّكْرَ عَلَى مَا تَفَضَّلَ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، إنَّهُ: ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آلَ عِمْرَانَ:174].
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، وَنَبِيِّهِ، وَأَمِينِهِ عَلَى وَحْيِهِ وَعِبَادِهِ، صَلاةً تَكُونُ لَهُ رِضاً، وَلَنَا بِهَا مَغْفِرَةً، وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ، وَسَلَّمَ كَثِيراً طَيِّباً، أما بعد:
فإني قائل -وبالله أثق لتوفيق الصواب من القول والعمل، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: أَنْزَلَ اللهُ الْقُرْآنَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَأَعْلَمَهُ فَضْلَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ، وَأَعْلَمَ خَلْقَهَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ: أَنَّ الْقُرْآنَ عِصْمَةٌ لِمَنْ اعْتَصَمَ بِهِ، وهدًى لمن اهتدى به وغِنًى لمن استغنى به، وَحِرْزٌ مِنْ النَّارِ لِمَنْ اتَّبَعَهُ، وَنُورٌ لِمَنْ اسْتَنَارَ بِهِ، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَهُدَى وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ.
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ الكريم خَلْقَهُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَيَعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ فَيُحِلُّوا حَلالَه، وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَيُؤْمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَيَعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، ويقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران:3].
ثُمَّ وَعَدَهُمْ عَلَى تِلاوَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ: النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ، وَالدُّخُولَ إِلَى الْجَنَّةِ.
ثُمَّ نَدَبَ خَلْقَهَ إِذَا هُمْ تَلَوْا كِتَابَهُ أَنْ يَتَدَبَّرُوهُ، وَيَتَفَكَّرُوا فِيهِ بِقُلُوبِهِمْ، وَإِذَا سَمِعُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ أَحْسَنُوا اسْتِمَاعَهُ، ثُمَّ وَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، فَلَهُ الْحَمْدُ.
ثُمَّ أَعْلَمَ خَلْقَهَ: أَنْ مَنْ تَلا الْقُرْآنَ، وَأَرَادَ بِهِ مُتَاجَرَةَ مَوْلاهُ الْكَرِيْم فَأَنَّهُ يُرْبِحُهُ الرِّبْحَ الِّذِي لا بَعْدَهُ رِبْحٌ، وَيُعَرِّفُهُ بَرَكَةَ الْمُتَاجَرَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ -رحمه الله: جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُهُ وَمَا سَأَذْكُرُهُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- بَيَانُهُ فَي كِتَابِ اللهِ ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمِنْ قَوْلِ صَحَابَتِهِ ، وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ، وأنا أذكر منه ما حضرني ذِكْره -إن شاء الله تعالى، واللهُ الْمُوَفِّقُ في ذلك.
كما ذكرت في أول الكلام من أنه يذكر جملة من الأمور ثم بعد ذلك يسوق دلائلها من الكتاب والسنة، وأقوال السلف، ثم يذكر أقوال أهل العلم، هذا من أنفع ما يكون، هذه طريقته في هذا الكتاب في جميع المواضع.
فهذا أولها:
هذه الآية الأولى في فضل التلاوة، تأمل قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ، "يتلون كتاب الله" هذا يحتمل أن يكون المراد التلاوة بمعنى القراءة، ويحتمل أن يكون المراد الاتّباع، فإن أصل هذه المادة "تلا" بمعنى تَبِع، فالذي يقرأ هو يتبع الحروف والكلمات والجُمل والآيات التي يقرؤها، وكذلك أيضاً الذي يعمل هو متبع لما يقرأ، متبع لما أمر الله -تبارك وتعالى- به وهدى إليه، فهذه قد فسر بها بعضُ أهل العلم من السلف فمن بعدهم التلاوة.
وقال : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، فسروه الاتباع والعمل، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:92]، بمعنى: العمل بما فيه، اتباع القرآن، فهذان معنيان وهما صحيحان، والقرآن يُعبر به بالجمل والعبارات القصيرة الدالة على المعاني الكثيرة.
فالله -تبارك وتعالى- قد أثنى على هؤلاء الذين يتلون كتاب الله فيدخل فيه التالي بمعنى القارئ، ويدخل أيضاً فيه بمعنى الاتباع، يتبعون، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:92]، أي: القراءة، وكذلك أيضاً الاتباع، فهذان معنيان يدل عليهما اللفظ، وهما مطلوبان، وكل واحد منهما قد دلت عليه أدلة، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يُحمل على واحد منهما إلا لدليل، وإن كان المتبادر أن التلاوة هي بمعنى القراءة لكن يمكن أن يقال: إنها تدخل في ذلك دخولاً أوليًّا، ولكن المعنى الآخر الذي هو العمل والاتباع ليس بعيداً عن هذه النصوص فيُراعَى، ومثل هذا يُحتاج إليه بعد قليل -إن شاء الله تعالى- في الكلام على مثل قوله ﷺ: خيركم من تعلم القرآن وعلمه[2]، ما المراد بذلك.
تحدث الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- على هذه الآية في كتابه (أضواء البيان)، عن وجوه هداية القرآن للتي هي أقوم، في كل جانب من جوانب الحياة، فيما يتعلق بأمور السياسة والحرب والسلم، وأمور الاجتماع والأسرة، وما يتصل بالعبادات والمعاملات، وما إلى ذلك، يمكن مراجعتها.
هنا أطلق الوصف بكون القرآن شفاء، فهذا الشفاء يشمل -كما قال أهل العلم كالحافظ ابن القيم وغيره: شفاء الأرواح من الشبهات والضلالات، والشرك والجهل والرِّيَب، وكذلك أيضاً هو شفاء للأبدان من عللها وأوصابها فيُستشفى بالقرآن[3]، والدلائل على هذا معروفة، والنبي ﷺ قال: وما أدراك أنها رقية[4].
وكذلك ﷺ رُقي بالمعوذتين[5]إلى غير هذا مما نعلمه.
فهذا الشفاء يشمل شفاء القلوب، ويشمل أيضاً شفاء الأبدان.
وهنا قال: "شفاء"، ولم يقل: دواء؛ فإن الدواء يصيب ويُخطئ بحسب موافقته للمحل، أما القرآن فإن الله جاء بالنتيجة، لم يقل: وننزل من القرآن ما هو دواء، وإنما قال: "شفاء"، فالشفاء به يكون متحققاً إذا أقبل العبد عليه إقبالاً صحيحاً.
الله -تبارك وتعالى- سماه موعظة، سماه بشموله وعمومه بما فيه من العقائد والأحكام، وبما فيه من ذكر الجنة والنار، وما فيه من ذكر القصص والأخبار والأمثال والعبر، كل ذلك سماه موعظة، وذلك في كتاب الله -تبارك وتعالى- يقال تارة للأحكام، فإن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر الربا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275].
وفي الظِّهار أيضاً لما ذكر الكفارة قال بأن ذلك مما يوعظ به العباد، تُوعَظُونَ بِهِ مع أنه حكم في موضوع خاص يتعلق بالظهار، فالوعظ يقال: للأحكام وبيانها، ويقال: لكل ما تضمنه القرآن من العقائد والعلوم والشرائع ونحو ذلك، وقد يقال الوعظ لمعنى أخص، وهو ما يتصل بالأمر، أو النهي المقرون بالترغيب أو الترهيب، هذا هو الشائع.
وإذا كان الله -تبارك وتعالى- ذكر هذا القرآن بأنه موعظة، وكذلك أيضاً قال عن نفسه بأنه يعظ، وكذلك أيضاً فإن النبي ﷺ يعظ الناس فإنه لا ينبغي لطالب العلم أن يتنزه من الوعظ، وأن يترفع عن ذلك، ويظن أن هذا الوعظ يحط من مرتبته ومنزلته في العلم، فلربما توهم طالب العلم أن اشتغاله بالفقه أو الحديث أو التفسير أو غير ذلك أن ذلك يغنيه عن الاشتغال بالوعظ؛ لأن ذلك صنعة من لا يُحسن العلم، وكأن هؤلاء قد سبق إلى أذهانهم صورة لا تمثل الوعظ الحقيقي، فيما يُذكر عن القُصاص، وأنهم لا يميزون بين الصحيح والسقيم، والغث والسمين، ويوردون الأخبار والقصص والمختلقات ونحو ذلك، فتنزه هؤلاء أو أرادوا التنزه عن مثل هذه الفضيلة، والعمل الشريف، فينبغي أن توضع الأمور في موضعها الصحيح.
وهكذا حينما وصف الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن في هذه الآية: وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ هذا الهداية شفاء من الشكوك والريب والكفر وظلمات الغي والضلالة، فجاء الشفاء بهذا القرآن، في الآية التي قبلها: وَنُنَزَّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، هنا يشمل هذا وهذا، يشمل الشفاء بنوعيه، شفاء الأبدان وشفاء النفوس والأرواح.
وحينما قال الله -تبارك وتعالى: قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ برهان بمعنى الحجة الواضحة التي لا تدع في الحق لبساً، فهذا القرآن يحصل به بيان الحق بصورة جلية واضحة لا يبقى معها التباس فيه أو تردد في صحته، وهكذا وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورَاً مُّبِينَاً تستنير به النفوس والقلوب والأرواح، ويقابل ذلك الظلمات حيث الكفر والضلال والجهالة.
وحبله هنا فسره جمع من أهل السلف فمن بعدهم بأنه القرآن، وما قيل من عبارات للسلف غير هذا فهي في الواقع راجعة إليه، فإن ذلك كله يرجع إلى معنى واحد.
والمقصود هنا بقوله: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهًا هنا المقصود به التشابه العام، بمعنى: أنه يُشبه بعضه بعضاً في الحُسن والإتقان والبلاغة والفصاحة وما إلى ذلك من أوله إلى آخره، أول ما نزل على النبي ﷺ: "اقرأ"، وآخر ما نزل على النبي ﷺ وهي الآيات الثلاث على الأرجح -والله أعلم: آية الربا، ووَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، وآية الديْن، كل ذلك على نهج واحد في البلاغة والفصاحة متشابهاً يُصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، يشهد بعضه لبعض بالتحقيق والتصديق، وكذلك أيضاً في ألفاظه وعباراته فهو في غاية التشابه من هذه الحيثية، وليس المقصود التشابه الخاص الذي يُحتاج معه لفهم معناه أن نُرجعه إلى المُحكم، وذلك ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في آية آل عمران حينما قال الله -تبارك وتعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فالذي في آية آل عمران غير هذا، الذي في آية آل عمران هو التشابه الخاص والإحكام الخاص، وهنا التشابه العام وكذلك الإحكام العام في مثل قوله -تبارك وتعالى: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1] حينما وصفه بجملته أن آياته قد أُحكمت، أُحكمت بمعنى أنها متقنة ليس فيها خلل في ألفاظها، ولا في معانيها، فهو في غاية الإتقان، هذا الإحكام العام.
هنا ذكر أيضاً وصف القرآن بأنه مبارك، وهذه البركة تعني كثرة الخيرات وذلك؛ لكثرة ما حواه من العلوم والهدايات، وما تحصل به السعادة للعباد في الدنيا والآخرة، فمن أقبل عليه بحق فُتح عليه من أبواب البركات ما لا يُقادَر قدره من المعاني والهدايات والعلوم ونحو ذلك، ولذلك قال بعض أهل العلم: "اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات"[6].
وهكذا من لابس مثل هذا الكتاب المبارك وقاربه واشتغل به وكثُر اشتغاله به تعلماً وتعليماً وتفهماً وتدبراً فإن ذلك لابد أن يحصل له من البركة ما يتفق مع هذه المقاربة والاشتغال والملابسة، فإن هذه المقاربات والمقارفات والمزاولات لابد أن تؤثر في أصحابها، ولا شك أن كلام الله -تبارك وتعالى- هو أجلّ وأبرك وأشرف الكلام، فمن كان اشتغاله به فلا تسأل عن حاله.
فتحصل له البركة في العلم والعمل والوقت والمال والولد، العمر يكون مباركاً، فقد يعمل الإنسان ويكدح كثيراً ويجدّ ويجتهد ولربما يذهب هنا وهناك ويطلب كثيراً من العلوم ولكن قد لا تجد أثراً، فعليكم بهذا القرآن، والأئمة الكبار كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان يتحسر في آخر حياته أن اشتغاله في عمره الذي مضى لم يكن بالقرآن، كان من أكثر الناس اشتغالاً بالقرآن، وكان يفسر سورة نوح سنة كاملة، وكان يقرأ في الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ويذهب إلى بعض المساجد الخربة في دمشق ويمرغ وجهه بالغبار والتراب ويقول: "يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني"[7]، ومع ذلك كان يتحسر على أيامه التي مضت كيف لم يقضها مع القرآن، وهكذا نُقل ذلك عن جمع من أهل العلم، وجاء ذلك أيضاً عن بعض المعاصرين أنه في آخر حياته كان يتحسر أن جميع الاشتغال والوقت لم يوفَّر للقرآن.
فأنا أقول: نحن في بداية هذه الإجازة، وقد اجتمعنا في بيت من بيوت الله نتدارس كتاب الله، فهذا من مدارسة القرآن -كما سيأتي، وهذه بداية مشرفة وبداية صحيحة، أرجو أن ينالنا جميعاً من بركتها وأن يُصلح لنا القصد والنية، فأبشروا وأمّلوا، فبدايتكم في هذه الإجازة بداية صحيحة، بدأتم بالعلم وأشرف العلوم، بدأتم بالاشتغال في كتاب الله من أول يوم، وبهذا الكتاب الذي هو بهذه المنزلة، في بيت من بيوت الله، والله -تبارك وتعالى- كما أخبرنا نبيه ﷺ قد حكم بأنه ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده[8]، فوعدهم بهذه الوعود الأربعة، فهذا أمر يُغتبط به، ولذلك أقول: إن هذا القرآن والإقبال عليه بمثل هذه الأوقات التي يتوفر فيها لكل واحد منا أو لعامتنا من الأوقات ما لا يتوفر في غيره من العام فلنجعل للقرآن النصيب الأوفر من التلاوة، والتعاهد، والتدبر، والنظر في معانيه والتفكر في مضامينه وهداياته، وانظر كيف تتغير نفسك وقلبك وأعمالك وأحوالك وتصوراتك، وانظر كيف تكون السعادة الغامرة، وانظر كيف تجد من الانشراح في القلب والطمأنينة، وكذلك أيضاً ما يحصل للإنسان من الأجر والثواب والبركة.
وقَالَ : وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرَاً [طه:113].
ثُمَّ إنَّ اللهَ تعالى وَعَدَ لِمَنْ اسْتَمَعَ إِلَى كَلامِهِ، فَأَحْسَنَ الأَدَبَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهِ بِالاعْتِبَارِ الْجَمِيلِ، وَلُزُومِ الْوَاجِبِ لاتِّبَاعِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ أن يبشره مِنْهُ بِكِلِّ خَيْرٍ، وَوَعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ الثَّوابِ، فقال : فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18]، فكل كلام ربنا حسن لمن تلاه، ولمن استمع إليه، وإنما هذا -والله أعلم- صفة قوم إذا سمعوا القرآن تتبعوا من القرآن أحسن ما يتقربون إلى الله تعالى، مما دلهم عليه مولاهم الكريم، يطلبون بذلك رضاه، ويرجون رحمته، سمعوا الله قال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، فكان حُسن استماعهم يبعثهم على التذكر فيما لهم وعليهم، وسمعوا الله قال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
هنا في قوله -تبارك وتعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17-18] "أحسنه" هنا يحتمل أن تكون أفعل التفضيل هذه يراد بها مطلق الاتصاف، يعني: يتبعون الحَسن، فكل كلام الله -تبارك وتعالى- حَسن، وهو بالغ في الحُسن غايته، فأفعل التفضيل مثل أحسن وأفضل وأكمل وأكرم ونحو ذلك قد تُطلق ويراد بها مطلق الاتصاف، يعني: يتبعون أحسنه بمعني يتبعون الحَسن، فكل كلام الله حَسن، كما قال ربنا -تبارك وتعالى: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى [الأعلى:11]، أي الشقي، وكذلك أيضاً قال الشاعر:
تمنى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمتْ | فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ |
يعني: لست فيها بواحد، فأوحد بمعنى واحد، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]، يعني: التقي، خلافاً لمن قال بأن المراد بذلك الأتقى أفعل التفضيل، يعني به أبا بكر ، ولا شك أن أبا بكر أتقى الأمة بعد رسول الله ﷺ، ولكن الآية -والله أعلم- يراد بها مطلق الاتصاف، فهذا محل لهذا الموضع، ويحتمل أن يكون المراد بقوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أن القرآن فيما شرعه الله -تبارك وتعالى- لعباده ذكر لهم مراتب الأعمال، فذكر لهم مثلاً الظلم.
وذكر لهم العدل وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].
ثم ذكر لهم مرتبة فوق ذلك فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ [الشورى:40]، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22]، فالعفو والصفح أعلى مرتبة من المقاصّة -من القصاص، وفوق العفو مرتبة أخرى وهي الإحسان إلى المسيء، فهؤلاء يستمعون القول فيتبعون أحسنه فيأخذون بأعلى المراتب، فهم مخيرون بين العدل بالقصاص مثلاً في هذا الموضع -في هذا المثال، وكذلك ما فوق العدل وهو العفو والصفح والتجاوز، وفوق ذلك بالإحسان إلى المسيء، هؤلاء يأخذون الأفضل والأكمل من هذه المراتب ويتحققون بها، هذا معنًى حمل بعض أهل العلم الآية عليه، والآية تحتمل ذلك.
وقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، هنا ذكر الاستماع، وذكر الإنصات، والفرق بين الاستماع والسماع معروف، فالسماع أن يطُرق سمعك المسموع -يعني الصوت- ولو كان ذلك من غير طلب أو قصد، وأما الاستماع فذلك يكون عن إرادة وقصد فيتوجه السمع إلى هذا المسموع، وأما الإنصات فهو أن لا يشتغل عنه بغيره، فصار المطلوب عند قراءة القراءة القرآن الاستماع والإنصات، فقد يستمع الإنسان ولكنه يشتغل بشيء آخر، قد يشتغل بجهاز معه بيده، أو المرأة تشتغل بعمل في دارها أو نحو ذلك، فهذا خلاف الإنصات، الإنصات قدر زائد، ولذلك في حديث الجمعة ذكر فيه النبي ﷺ الإنصات، وقال ﷺ: من مس الحصى فقد لغا[9]، يعني بمعنى أنه لو اشتغل يعبث بشيء كالحصى إذا كان في المسجد حصْب أو نحو هذا، أو اشتغل يبعث بطرف ثوبه، أو بمِسبحة أو نحو هذا فإنه يكون قد لغا؛ لأنه مطالب مع الاستماع بأن يُنصت لا يشتغل عنه بغيره، يُقبل عليه بكليته لا يشتغل بشيء آخر، فصار الإنصات يدل على قدر زائد على معنى زائد غير الاستماع.
وهذا المعنى نغفل عنه كثيراً فيفوتنا الكثير من المعاني والهدايات، ولذلك انظر إلى الاستماع حينما يستمع الإنسان وهو يقود السيارة مثلاً فإنه لا يكاد يُحصل من العلم والهدايات فيما يسمعه سواء من القرآن أو من غيره إلا القدر اليسير، تفوته أشياء؛ لأنه مشغول بالمقود وغير المقود وينظر هنا وهناك مع أنه يستمع، فهذا يُضعف التدبر، وعقل المعاني.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ عَنِ الْجِنِّ في حُسْنِ اسْتِمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لما ندبهم إِلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَوَعَظُوهُمْ بِمَا سَمِعُوا مِنْ الْقُرْآنِ بِأَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَوْعِظَةِ، قَالَ اللهُ : قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، وقال : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:29-31].
وَقَدْ قَالَ اللهُ فِي سُورَةِ: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، مَا دَلَّنَاعَلَى عظيم مَا خَلَقَ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَجَائِبِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَعَظيمَشَأْنه، ثم ذَكَرَ النَّارَ وَعَظيمَ شَأْنها، ثم ذَكَرَ الجنَّة وما أَعَدَّ فِيهَا لأَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ : لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، فَأَخْبَرَ -جَلَّ ذِكْرُهُ- أَنَّ الْمُسْتَمِعَ بِأُذُنَيْهِ يَنْبَغِي له أَنْ يَكُونَ مشَاهِدًا بِقَلْبِهِ مَا يَتْلُو، وَما يسمع؛ لِيَنْتَفِعَ بِتِلاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وبِالاسْتِمَاعِ مِمَّنْ يَتْلُوهُ.
قوله هنا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ من أهل العلم من قال: إن التنكير هنا في "قلب" يُقصد به التعظيم، يعني: من كان له قلب حي وقّاد يعقل عن الله ويتدبر ويتفهم فهذا هو الذي تحصل له الذكرى، وبعض أهل العلم يقولون: إن التنكير في القلب هنا يدل على أن ذلك يصدق على من له الحد الأدنى من حياة القلب، بمعنى أن قلبه لم يمت، لم يصل إلى حد الطمس، الختم، الطبع، لم يكن في أكنّة، لم يحصل عليه الران، فإن مثل هذا الذي في قلبه شيء من الحياة ولو كان مريضاً؛ لأن القلوب كما هو معلوم منها ما هو الصحيح ومنها ما هو المريض، ومنها ما هو الميت، فمن كان له قلب بعض أهل العلم يقول: يعني الحد الأدنى الذي يصدق عليه ذلك يعني فيه رمق، فيه حياة، يعقل ولو أدنى ما يمكن أن يصدق عليه الحياة والعقل عن الله وعن كلامه، فهذان قولان معروفان للمفسرين، وكذلك "أو" في هذه الآية: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فبعض أهل العلم يقولون: إن "أو" هنا بمعنى الواو، بمعنى أن ذلك يكون فيه ذكرى لمن تحققت فيه ثلاثة أمور:
وجود المحل القابل وهو القلب الحي، الوقّاد، حياة القلب، فإن ميت القلب لا يجدي معه سماع القرآن، ولا تكفي حياة القلب بمجردها بل لا بد معه من إلقاء السمع إذا كان ذلك متلوًّا، ولا يكفي فقط إلقاء السمع فقد يلقي الإنسان سمعه مع حياة قلبه إلا أن قلبه مشغول في مكان آخر لعارض لهمٍّ غالب، أو فرح غالب، أو لشغل يشغله ويصرف قلبه عن التدبر، يعني في حينها، فلا بد من ثلاثة أمور وهي مختلفة متغايرة، القلب الحي وذلك قلب المؤمن ويكون معه الاستماع "ألقى السمع"، والتعبير بالإلقاء هنا يدل على شدة الإقبال على ما يسمع، وكذلك أيضاً "وهو شهيد" هنا أن يُحضر قلبه عند الاستماع فيتوخى ويتحرى في الاستماع في الأوقات التي يكون فيها مهيَّأً للتدبر، بمعنى لا يكون في وقت يترقب فيه اتصالاً أو يشغل قلبه بوضع الجهاز بجواره كلما جاءت رسالة نظر إليها وقرأها ثم يرجع إلى القراءة مرة أخرى فإن ذلك يشوش فكره، وهكذا لو كان في مكان فيه مُشغلات، ومشوشات فيشتغل بهذه الأمور.
ومن أهل العلم من يقول: إن "أو" هذه للتنويع لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ هذه حالة، هذا نوع من الناس له قلب حي وقّاد يحصل له التذكر بأدنى تنبيه.
والنوع الآخر: من كان دونه فيحتاج إلى أن يلقي بسمعه وأن يُحضر قلبه فيبذل المزيد من الجهد من أجل أن يحصل له التذكر والاعتبار والتفكر، فهذا دون الأول، وهذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والحافظ ابن القيم أن "أو" هذه تدل على التنويع، هما نوعان صنفان من الناس، الصنف الأول هو الذي ينتبه بأدنى تنبيه، بأدنى إشارة لا يحتاج إلى جهد كبير وعمل كثير ليحصل له العظة والعبرة والتفكر.
النوع الثاني: هو من كان دونه فيحتاج إلى إقبال شديد على هذا المتكلم، أو الكلام الذي يسمعه وأن يُحضر قلبه عنده، فهذا ينتفع، ولذلك تجد بعض الكفار يسمع آية فيُسلم، جُبير بن مطعم سمع النبي ﷺ يقرأ في الطور في المغرب: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، قال: "فكاد قلبي أن يطير"[10]، فوقع الإسلام في قلبه وهو رجل مشرك، فهذا يحصل، وهؤلاء مع أنهم من الكفار لكنه لا يحصل لهم الطبع والختم على القلوب وإلا لما انتفعوا بسماع القرآن، والله أعلم.
هذا الإنكار أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ في الموضعين، وهاتان الآيتان كثير من أهل العلم يقول: إنهما في المنافقين، والسياق يدل على هذا، وهذا المنافق حينما يُخاطَب بمثل ذلك لربما يكون قد طُبع على قلبه، فهو لا يعقل كما أخبر الله عنهم أنهم إذا خرجوا من مجلس رسول الله ﷺ يقولون: "ماذا قال آنفاً"، "أيكم زادته هذه إيمانًا"، فهم لا ينتفعون.
وقال الله -تبارك وتعالى- عنهم: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، بمعنى: أنهم لا يفقهون ولا يعقلون عن الله -تبارك وتعالى، فإذا كان الأمر كذلك فكيف خوطبوا بمثل هذا؟، قد يقال: إن ذلك على سبيل التبكيت، وقد يقال بأن ذلك يتوجه إلى من لم يصل إلى مرحلة الطبع والختم، وهذه يؤخذ منها أيضاً أن تدبر القرآن يُطلب من كل أحد، وأن ذلك لا يختص بالعلماء، ولكن الخطأ الذي قد يقع لكثير من الناس أن الذهن قد يسبق عند ذكر التدبر، أو المخاطبة به إلى استخراج اللطائف والدقائق البلاغية ونحو ذلك مما لا يتوصل إليه إلا بشيء من العلوم المساعدة، بعض علوم الآلة، علوم اللغة من البلاغة ونحوها، وهؤلاء ليس عندهم أهلية في الغالب -أعني العامة- لاستخراج مثل هذه المعاني لفقد الآلة.
ومن هنا فإن سبق الأذهان إلى مثل هذا غير صحيح، وليس ذلك هو المطلوب بالتدبر، ولكن الإنسان يتدبر ليعظ قلبه، من أجل أن يرقق قلبه، يتدبر من أجل أن يعقل عن الله فيعرف مراد ربه -تبارك وتعالى- منه، يتدبر ليعرف صفات المعبود، ليعرف جلاله وعظمته، يتدبر من أجل أن يعرف الدار التي يصير إليها الجنة والنار وما فيها، يتدبر من أجل أن يعرف خبر الأولين والقصص والعبر والأمثال المضروبة؛ لينتفع بذلك ويعود إلى نفسه، ويصحح عمله ويحاسب هذه النفس، ويستقيم على أمر الله ، هذه المعاني في التدبر مطلوبة للجميع، وهناك بعض الجوانب المتعلقة بالتدبر هذه تصلح للعلماء ومن لديهم القُدر والإمكانات لاستخراج مثل تلك الدقائق، فهذا هو التوسط والاعتدال في هذا المعنى، لكن لربما سبق إلى الناس أشياء من الرسائل الواصلة إليهم في التدبر ونحو ذلك هي على هذا المنحى لطائف ودقائق بلاغية ونحو ذلك فلربما استقر في كثير من الأفهام أن التدبر هو هذا، وعليه أن يستخرج أشياء من هذه الدقائق لم يُسبق إليها، وهذا خطأ لا يُطلب من عموم الناس وإن تقحّموا ذلك فإنهم سيأتون بالعجائب ويكون الواحد قائلاً على الله بلا علم.
أَلا تَرَوْنَ -رَحِمَكُمْ اللهُ- إِلَى مَوْلاكُم الْكَرِيْم؛ كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهَ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا كَلامَهُ، وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلامَهُ عَرَفَ الرَّبَّ ، وَعَرَفَ عَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَرَفَ عَظِيمَ تَفَضُّلِهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ، وَعَرَفَ مَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ عِبَادَتِهِ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، فَحَذِرَ مِمَّا حَذَّرَهُ مَوْلاهُ الْكَرِيْمُ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغَّبَهُ فيه.
وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ عِنْدَ تِلاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَعِنْدَ اسْتِمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَ الْقُرْآنُ لَهُ شِفَاءً، فَاسْتَغْنَى بِلا مَالٍ، وَعَزَّ بِلا عَشِيرَةٍ، وأَنِسَ بِمَا يَسْتَوحِشُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ هَمُّهُ عِنْدَ تِلاوَةِ السُّورَةِ إِذَا افْتَتَحَهَا: مَتى أَتعِظُ بِمَا أَتْلُو؟ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ: مَتى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: مَتى أَعْقِلُ عَنْ اللهِ الْخِطَابَ؟ مَتى أَزْدَجِرُ؟ مَتى أَعْتَبِرُ؟ لأَنَّ تِلاوَتَهُ لِلْقُرْآنِ عبادة، والعبادة لا تَكُونُ بِغَفْلَةٍ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لذلك.
- وفيات الأعيان (4/ 292)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (3/ 149).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم (5027).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 44-45).
- أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، برقم (5736)، ومسلم، كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم (2201).
- أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات، برقم (5735).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/ 531).
- حقوق آل البيت (ص:12).
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2699).
- أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم (857).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ [ق:39]، برقم (4854).