الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
المقصود من هذا الحديث في هذا الباب أن الله أعتق هذه المرأة أو أوجب لها الجنة بسبب شفقتها على بناتها، وهو عمل يسير، ليس فيه كلفة، وهو من الأمور التي تدعو إليها الجبلة، ومع ذلك بلغت بهذا العمل اليسير -شقت تمرة بين ابنتيها- ذلك المبلغ، وهذا يدل على أن الإنسان يمكن أن يدخل الجنة بعمل لا يتوقعه، ويمكن أن ينجيه الله من كربات القيامة بعمل لا يتوقعه؛ لأنه في نظره صغير، ولربما فعله هكذا دون أن يقف عنده، مثل الرجل الذي قطع فرع شجرة كان يؤذي المسلمين[2]، ومثل المرأة البغي من بني إسرائيل التي سقت كلباً لها[3]، هل كان هؤلاء يتوقعون أن هذا العمل اليسير يبلغون به تلك المراتب العالية؟.
فعلى الإنسان أن يحتسب قيامه على أهله من الأولاد، ومعاشرته لمن يعاشر من الإخوان، وأعظم ذلك بر الوالدين فهو بمنزلة عند الله -تبارك وتعالى، وهكذا ما يتعلق بحقوق الجيران والأصحاب، ومن يجمعنا معهم دراسة أو عمل أو نحو هذا، فهذا كله ينبغي أن لا يضيع، ثم إن هذا الحديث أيضاً يدل أو يمكن أن يستدل به والعلم عند الله على أن من الأعمال ما يؤجر عليه الإنسان بلا نية، النبي ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[4]، و"إنما" للحصر، وإنما لكل امرئ ما نوى، فهذا عام، وقد استثنى منه بعض أهل العلم ما لا يقع إلا على سبيل القربة كالأذكار وقراءة القرآن، والأقرب أن هذا يحتاج إلى نية؛ لأن هذه الأذكار وقراءة القرآن قد تُفعل رياءً، فيحتاج إلى نية التقرب والإخلاص لله ، لكنهم قصدوا بذلك أنه لا يقع على سبيل العادة، حيث يفرق في النية بين العادة والعبادة، ولكن أيضاً النية يفرق فيها بين ما لله وما ليس لله، مما يقصد به المقاصد السيئة من الرياء والسمعة، لكن من تأمل النصوص فإنه قد يقف على أعمال يؤجر عليها الإنسان لا تحتاج إلى نية، الرجل الذي مر يتصبب عرقاً فقالوا: لو كان ذلك في سبيل الله، فالنبي ﷺ بيّن لهم: أنه إن كان يقومعلى أبوين كبيرين أو عيال يكفيهم الحاجة أو الفقر فهو في سبيل الله[5]، الرجل يعمل، يكدح في الدينا ومع ذلك لم يقل: إن نوى، وكذلك النبي ﷺ قال: وفي بُضع أحدكم صدقة[6]، الرجل يطأ امرأته ويؤجر على هذا، فلما سئل عن هذا ما قال: إن احتسب، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، وكذلك هذا الحديث، هذه المرأة ما ذكر النبي ﷺ احتسابها، بل فعلت فعلاً بمحض الجبلة، قسمت تمرة، وهذا لو يقع لأي واحد منا لربما يفعل هذا، يقدم أولاده على نفسه، ولم يَرِد ما يدل على أنها محتسبة لذلك عند الله -تبارك وتعالى، ومع ذلك وصلت بهذا، ولهذا يقال: إن عمل الإنسان الذي يعمله في الدنيا من تجارة أو مهنة صناعة أو نحو ذلك مما لا يكون على سبيل التكثر، وإنما ما يكتفي به عن الحاجة فإنه يؤجر عليه، وكذلك ما يفعله الإنسان من الإحسان المتعدي للناس مما لا يقصد به قصداً سيئاً، يقف لإنسان ربما ما تحضره النية لكن حملته الشفقة على مداواة هذا المريض، والإحسان إلى هذا الفقير، وحمل هذا على سيارته، ونحو ذلك، هذه الأمور يؤجر الإنسان عليها.
الأخلاق الحسنة يؤجر عليها، تبسمك في وجه أخيك صدقة[7]، وإن لم يحتسب الإنسان، فيؤجر على مثل هذه الأشياء، وهكذا أيضاً لو أن الإنسان أماط الأذى عن الطريق، وقد لا تحضره نية في هذا من إرادة وجه الله ، لكن العمل بحد ذاته عمل طيب صالح يؤجر الإنسان عليه، وهكذا المنافع المتعدية التي يمكن أن يقدمها الإنسان لإخوانه المسلمين من إطعام الطعام، ودفع اللباس للمحتاجين، وما إلى ذلك من الأمور كهداية وإرشاد الضال عن الطريق، كل هذا يؤجر عليه الإنسان ولو لم ينوِ، وفضل الله -تبارك وتعالى- واسع، وهكذا نقول في عمل المرأة في بيتها، في المطبخ، في القيام على شئون الأولاد، في القيام على شئون الزوج، يأتي الزوج وبيته مهيأ، كل هذا تؤجر عليه، والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، فهذا من أعظم الإحسان، أن يحسن الإنسان إلى من يعول، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات، برقم (2630).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (12671)، وقال محققوه: "صحيح لغيره"، من حديث أنس بن مالك .
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3467)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2245)، من حديث أبي هريرة .
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907).
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (15741).
- أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، برقم (1006)، من حديث أبي ذر .
- أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صنائع المعروف، برقم (1956)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2908).